الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصة قصيرة

9 ابريل 2014 20:51
عماد سالم نجيم محمد البادي اسمي عماد.. لا يوجد أحد اسمه عماد في هذه الديار. يقولون لي: أنت غريب، أصلك ليس من هنا، لماذا لا ترحل لتبحث عن وطنك الأصلي؟ ربما جاء أجدادك من أرضٍ بعيدة غريب ويشيرون إليّْ، هذا الغريب. ربما كان «زطياً» أو غجرياً أو من بقايا عهود الاتجار بالبشر.. أتلقى هذه الكلمات وكأنها سوط عذاب، ويتردد صداها في جنبات روحي. أخجل من اسمي أتوارى خلف ذاتي في المدرسة أنزوي وحيداً وبعيداً، وأتمنى أن لا يسألني المعلم عن اسمي. أتجنب مجالسة الناس، وأرجو أن لا يذكر اسمي أمام الحاضرين. قلت مواسياً نفسي: إنه اسم راقٍ يستخدمه أهل المدن، وفي قرارة نفسي أكره اسمي. ارتبط هذا الاسم أو - هكذا خيل إليّ - بمآسٍ كثيرة في حياتي؛ طلق أبي أمي وأنا طفل صغير، ويقال إنني كنت أقضي الليالي ساهراً أصرخ أريد أمي، أيـن أمي؟ ضاق أبي بي ذرعاً، وكرهني... اتسعت الهوة بيني وبينه وما عدت أستطيع الحديث معه. مصروفي اليومي لا يكفيني يا أبي.. ملابسي لا تشبه ملابس أقراني، ولحافي الخفيف يعجز عن حمايتي من البرد القارس في ليالي الشتاء الطويلة.. أنام وركبتي قرب وجهي، أبكي ويبلل الدمع وسادتي البالية، وآمل أن أعود إلى البيت وأجد أمي تنتظرني.. أبثها كل أحزاني وأحكي لها عن مشاكلي. عندي صعوبة في فهم بعض المواد التي أدرسها يا أمي. يا أمي ضربني اليوم طالبٌ أكبر مني، ووبَّخني المعلم على سوء فهمي وتقصيري في حل فروضي. أحسّ بحرقة في قلبي يا أمي، وبطاقة درجاتي تشعرني بالهمّ يا أمي... أمزقها وأرميها في المرحاض حتى لا يعلم بها أحد. أمي أنا لم أنم ليلة البارحة من شدة السعال الذي يلازمني هذه الأيام. زوجة أبي جاءت تعطيني الدواء، تبرَّمَتْ كثيراً وأسمعتني كلاماً قاسياً ثم كسرت قنينة الدواء وقالت لأبي إنني رفضت تناول الدواء، وإنني أنا الذي كسرت قنينة الدواء. أنا لا آكل حتى أشبع يا أمي خجلاً وخوفاً من زوجة أبي التي أشعر بأنها تعد لقيماتي، وترمقني بنظراتٍ مخيفة كنظرات قطة سوداء في ليلة مظلمة كشرت عن أنيابها وشعرت أنا بذعر شديد. أخاف أن أذهب إلى المطبخ للبحث عن طعام لأن زوجة أبي تقول لي: يا حرامي إن وجدتني في المطبخ. عندما كنت صغيراً، كانت تأمرني زوجة أبي بإنجاز بعض أعمال البيت، وخطواتي مرتبكة ويداي ترتعشان، وتزداد خفقات قلبي أخاف أن أخطئ، وأنا بطبعي بطيء الفهم وأخشى غضبها والعقاب. سوف أغير اسمي إلى سعيد أو منصور أو محمد أو عبدالله، المهم أن يكون اسماً شائعاً هنا. لا أريد هذا الاسم. كلهم يسخرون من اسمي وطالع النحس يلازمني. رسبت في المدرسة، وطردت منها بسبب تكرار رسوبي ونبذني المجتمع. عملت في مهن مختلفة وفشلت؛ عملت بائعاً في بقالة، لكنني لم أصبر على أوامر أرباب العمل ولا على عنهجية بعض الزبائن، ثم راعياً للغنم عند امرأة مسنة، ومزارعاً وحمالاً وخادماً لدى قومٌ أغنياء. لا أقوى على الأعمال الشاقة، وأستحيي من العمل في بعض المهن. أبي مد لي يد المساعدة وأبي مشغولٌ بالحياة وعائلته الجديدة. (مجنون، فاشل، غريب الأطوار، يعاني عقداً نفسية، شخصية غير سوية، صعلوك، درويش مغامر، مشاكس.. إنه شخص غير طبيعي)... هكذا يقولون عني. لبست ثياب وأقنعة كل هؤلاء، ومثلت أدوارهم بإتقان منقطع النظير، ولكني إذا خلوت بنفسي عدتُ بشراً أبكي وأتألم وأريد الحنان والدفء وكلمة حلوة ولمسة حانية وبيتاً يمنحني السلام والأمان، وأمي... أحب أمي لكنها لا تعيرني اهتماماً. لا أدري لماذا حينما أذهب إليها أجدها بلا مشاعر تجاهي ووجهها تمثال من رخام وكأنني جزء من ماضٍ تريد نسيانه، إنني صنيعة أبي الذي تخلى عنها وهي أمٌ شابة. هل تنتقم من أبي في شخصي؟ أمي.. لا ذنب لأمي إلا الخنوع والطيبة والبراءة وطاعتها المطلقة لأبي حد الخضوع. وأبي المشهور بقسوته وجبروته وكلامه الجارح وانتقاداته الدائمة لأمي يضربها كلما تعكر مزاجه، وقلبه خالٍ من العطف، وهو سريع الغضب. عندما كبرت قليلاً، كنت أحمل أشياء من بيت أبي وأذهب بها إلى أمي. أغزو الأعراس والمناسبات أرقص وأغني. أدري أن رقصي نشاز وغنائي نشاز. أحمل لأمي اللحم والأرز والفواكه وأجري نحوها فرحاً. تستقبلني ببرود وتشيح بوجهها عني، وأنا أنتظر منها كلمة رقيقة: شكراً يا بني، أرهقت نفسك من أين أتيت بهذا؟ أتمنى أن تضمني في حضنها وتمسح بيدها على وجهي ورأسي، لكنها لا تفعل!. اشتري لها هدايا متواضعة، ومرةً تجرأت وقلت لها: ألا يعجبكِ هذا يا أمي؟ نهرتني قائلة: لا أريد منك شيئاً إذا كنت سوف تمنّ به عليّ. أحوم حول البيوت وأتنقل بين القرى المجاورة، أسهر الليل كله. أحياناً أسرق الدجاج وصغار الغنم. أسرق وأعلم بأنه حـرام حرام.. أستغفر الله العظيم. أستحم في مياه برك المزارع. يطردني العمال الأجانب ويضربونني.. أهيم على وجهي في الصحراء سائر يومي، وأعود آخر الليل وجراح في رجلي وروحي وبدني... آه.. من يلم شعثي ويضمد جراحي؟ أمضي بعض أيامي ضيفاً غير مرغوب فيه في بيوت القرية والقرى المجاورة، وقد أختلس بعض الأشياء في جيب سترتي... حرام حرام أعرف أنه حرام. آه.. من يزيل وعثاء تشردي؟ أبي يضربني بالنعال وبيده حتى تتعب ثم يضربني برجليه في جميع أجزاء جسدي وبعصا الخيزران. وأقول له: كفى يا أبي، وأتوسل إليه: لا تفعل بي هكذا، قل لي: ما هو ذنبي الكبير؟ يقول: سوف أخسف بك الأرض. وهددني بأن يضربني بحجر يصيبني في مقتل. جسدي لم يعد يشعر بالألم. نفسي لا يحق لها أن تحلم.. لا أمنيات ولا مشاعر. كنت أريد دراجة أجوب بها الحارات والشوارع والمزارع والقرى والأسواق وراديو صغيراً يأخذني إلى عالم أوسع. أردت أن أربي الحمائم لكنهم جعلوها تطير... ورغبت في تربية الأرانب فذبحوها في غيابي لأنها تحدث حفراً في البيت وتفسد الزرع، وسخروا من هواياتي. عندما تزوجت أمي من رجل آخر ذهبت لزيارتها، لكنني وقفت في مفترق الطرق أقارن بين قسوة أبي وزوجته وبين أمي وزوجها؛ فخشيت أن يكون زوج أمي كما زوجة أبي فعدت أدراجي، وتوقفت عن التفكير في أمي، واعتقدت أن لا بأس عليّ ولا حرج فيما أفعل؛ أنا المجنون الغريب الفاشل. أردت أن أتزوج وأستقر في عائلة تعوض غياب الأم والأب، ومكثت سنوات أحاول أن أقول لأبي: أريد أن أتزوج. تمنيت لو أنني أستطيع أن أقول له إنني بشر، وإن لي قلباً يخفق بالحب والوجع والمشاعر النبيلة، وإنني مللت البكاء والحزن وتقمص أدوار شخصيات لا تشبهني أبداً، وأستجدي لحظات من العطف، وتسيل دموعي غزيرة.. إنني مسالم، وأخاف الله، وألتزم بأعراف وتقاليد المجتمع.. وعندما استجمعت شجاعتي، وكلمت أبي عن رغبتي في الزواج، صعقتني سخريته اللاذعة، والطعن في رجولتي، وأن من كان مثلي لا حاجة له بالنساء، وأن لا امرأة في هذا الوجود يمكن أن تقبل بي.. أبي لا يعلم بأنني مررت بعلاقات عديدة مع نساء كثيرات يوم أن كنت صعلوكاً. أرغب يا أبي أن أستعيد آدميتي الآن، وأن أجد لك العذر، وأن أسامح أمي... ما زال لدي أملٌ في أن أغيّر اسمي وأكْمل دراستي، وأن أحصل على عمل لائق، وأريد أن أعود إنساناً سوياً وأعيش حياة جديدة. متى ستعرفون أنني لا أختلف عن بقية البشر في شيء؟ أرجوك أرجوك ساعدني يا أبـي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©