الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما يصرخ الحجر: كفى!

عندما يصرخ الحجر: كفى!
1 أكتوبر 2009 00:01
هو نحات وفنان تشكيلي لبناني، احترف النحت منذ قرابة خمسة عقود، مكرساً حياته للبحث عن فسحة ضوء ومساحات حب وسلام في ظلمة الانقسام الذي استوطن لبنان ولا يزال. في منحوتاته التي تقول الكثير، يدعو عزت حمام إلى تعميم ثقافة الحياة بديلاً من لعبة الموت والدمار، التي حولت بلاده إلى ساحة حروب وصراعات لا تنتهي. في محترفه الذي يتربع على تلة وادعة من تلال بلدته الجنوبية (عنقون)، ينزوي النحات اللبناني عزت حمام كناسك، لا بل أقرب إلى صاحب رؤية، حيث يجبل الطين محولاً إياه إلى منحوتات يحذر فيها من الانقسام اللبناني ـ اللبناني، ويستنكر من خلالها العنف، مصوراً بشاعته وفظاعته وهول مآسيه. في وحدته الصاخبة، يعيش حنينا دائماً إلى زمن جميل، زمن يستطيع فيه أن يحقق أحلامه المكسورة، والأماني التي سلبته إياها الحرب الأهلية بنيرانها المتنقلة والاحتلال الإسرائيلي الذي لم توفّره معتقلاته. هو كائن قلق، يغلي كبركان على الرغم من هدوئه اللافت والزائد عن الحد أحياناً. إلا أن هذا الهدوء يتفجر في أعماله التجريدية ـ التعبيرية، عاكساً هموم وآلام الناس: «أنا مسكون بوجع بلادي، حيث مساراتنا لا توصل، وحروبنا لا تتعب». الشاهد بواسطة الطين والحجر والخشب أحياناً، يعبر عزت حمام، الأستاذ في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية عما يعتمل في داخله من أحاسيس وانفعالات، وهو ما رصده «الاتحاد الثقافي» خلال زيارة كانت أقرب إلى رحلة خارج ما يصفه الفنان بـ»الزمن الرديء». في حياته، كما في أعماله التي تتوزع حنايا حديقته وزوايا منزله الذي يحلم بتحويله إلى متحف للفن الحديث وسط ما يصفه بـ»الغابة»، لم يكن عزت حمام طرفاً في لعبة الانقسام، إنما منحازاً إلى وجع الناس وآلامهم ومعاناتهم، كطبيب يحاول أن يداوي العقول والنفوس. قبل الحرب الأهلية الأولى عام 1974، كان النحات الجنوبي المتجذر في أرضه، يحذر من الآتي، ومن مغبة التطرف والذهاب أبعد في لعبة العنف والتجييش الطائفي والسياسي، وها هو يحذر اليوم من غيوم سوداء تتلبد في الفضاء اللبناني ومما قد يرتبه ذلك من حمامات دم مقبلة. يقول كل ذلك، على الرغم من ابتعاده المطلق عن السياسة، فهو، بحسب ما يؤكد: «ليس أكثر من شاهد» على زمنه، يحمل على عاتقه مسؤولية تعميم الوعي الفني والثقافي والحضاري في وطن «صدّر» أبناؤه الثلاثة: مروان ورامي ورفيف إلى الخارج، كونهم لم يجدوا لهم مكاناً وسط الانقسام في «الوطن ـ المعضلة» كما يسميه والدهم الذي يبدو وكأنه يعيش حسرة دائمة على غيابهم، على الرغم مما يحمله إليه هذا الغياب من اطمئنان نتيجة بعدهم عن «الواقع المتردي»، كما يسميه. عن بداياته مع النحت واللحظة التي جعلته يتجه إليه، يقول عزت حمام: «القصة بدأت في طفولتي والفتوّة، فعندما كنت أشاهد الحجارة المميزة في الطبيعة. كنت أرى أن هذا الحجر يشبه شيئاً ما، وكثيراً ما كنت أعمد إلى إزالة الزوائد من الحجر لأحصل على شكل ما». ويضيف مسترجعاً اللحظات التي ساهمت في تشكيل وعيه الفني: «حتى الغيوم الخريفية، كنت أرى فيها أشباحاً عملاقة تركض في الفضاء»، لافتاً إلى أنه خلال مرحلة دراسته الابتدائية والمتوسطة، كان يقدم لمادة الأشغال اليدوية محفورات حجرية تلقى الإعجاب. ويتابع: «في مرحلة دراستي في دار المعلمين والمعلمات، تلقيت بالمراسلة كتاباً عن النحات رودان. وكانت المرحلة الجامعية بعد ذلك، حيث دخلت قسم النحت في معهد الفنون الجميلة التابع للجامعة اللبنانية». كفى لا يتردد النحات الذي نهل الكثير من معاهد ومحترفات باريس في تقديم نفسه بصفة المحايد، على الرغم من تأكيده بأن الفن نفسه «هو عبارة عن قضية». فتراه يجيب رداً على سؤال حول كيفية تقديمه لنفسه: «لا داحس أهلي ولا الغبراء ناري. ولست أرى لضرب زيد عَمرَه سبباً. وأكاد لحرب بكر والبسوس أنتهي عجباً»، مؤكداً أن «روحي على خط التماس، كل الرماح تصبيني، وتميتني كل الجراح. وأموت مع كل بيت يموت ويستباح». وعن المدرس الفنية التي ينتمي إليها، يقول: «أنا لا أسير في دروب ممهدة، وإني، إذا ما وجدت نفسي في أعمال فنانين، فأنا أسير، ومنذ البدء في أعمال تعبيرية مشحونة، سوريالية، عنيفة، صارخة تقول لا.. كفى. والنقد الفني هو الذي يضعها في مكانها من حيث التصنيف». الصدمة خلال الجولة في محترفه، يكتشف المتأمل في منحوتات عزت حمام سيطرة الخطوط والتفاصيل القاسية على الكثير منها، ورداً على سؤال حول ما يحاول أن يقوله من خلال هذه الأعمال، يجيب: «أحاول بصوت عالٍ أن أقول لا، وحذار، وكفى، للحرب الأهلية والاحتلال». لكن، ألا تعتقد أنك تذهب بعيداً في المبالغة وأنت تعبر عن ذلك؟. يقول: «بلى، لكني هنا كمن يصرخ بأعلى صوته ليبلغ الأسماع ويهز الوجدان ويبدل السلوك. ويعيد الكائن الذي ذهب بعيداً جامحاً في العنف إلى إنسانيته وإلى المنطق. كما أني أدعو في منحوتاتي إلى الحب والتلاقي والتوافق». ويضيف: «أقول أشياء أتمناها وأحلم بتحقيقها. أذهب في التعبير المكثف بأعمال صادمة؛ لأن في الواقع أشياء تصدم. ولأن الغرائز ذهبت بعيداً في سبل الحرب والدمار.. وفي تدميرنا. غالباً أقول ما أقوله قبل حدوث الحدث ووقوع الواقعة، فأكون كمن يتوجس ويهجس ويعبر. عرس الدم يقال إن الفنان هو أسلوب، من هنا، يؤكد عزت حمام في إجابته على سؤال حول أسلوبه الفني: «إن الأسلوب هو نتيجة العمل، وتحصيل حاصل». ويتابع: «أنا أعمل في شدق التنين، إنها بصمات الحرب الأهلية وعنفها تركت آثارها وانعكاساتها واضحة في أسلوبي وفي أعمالي». ويكشف أن صاحبة إحدى صالات العرض قالت له خلال زيارتها إلى محترفه يوماً: «كل أعمالك فيها حرب وقد لا تباع»، (وكانت تقصد العنف الظاهر فيها). ويقول: «في تلك اللحظة شعرت بأن الرسالة التي أحاول إيصالها من خلال فني قد وصلت. وقلت لها: هل عليّ أن أرقص طرباً في المسلخ وعرس الدم المتواصل؟. أنا أعمل، والنقد أجدر بالبحث في مساري». يغلب حضور المرأة على معظم أعمال الفنان التي تكاد لا تخلو من الحضور الأنثوي، فمرّة تطلّ بصورة الأم المفجوعة، وتظهر مرة أخرى، وهي تحمل ابنها الذي سقط ضحية الحرب، وبين هذه الصورة وتلك، تعود أحياناً بمكوناتها الأنثوية الواضحة رمزاً للجمال والحب والخصوبة. يعبر عن كل ذلك بأسلوبه التجريدي، إلا أن الكلاسيكية، التي يعتبرها «الأساس في مراحل التطور الفني» لا تغيب عن بعض الأعمال النصفية لسيدات عبرن محترفه يوماً وتركن وجوههن ليعلوها الغبار بدلاً من أن . ورداً على سؤال حول سبب تقديمه المرأة وتصويرها بهذا الشكل، يقول: «أرى المرأة أقدر في التعبير عن العواطف. وفي مختلف المواقف، أشكل من تضاريسها أعمالي. قد تكون في الـ»مانيكان» مسحة جمالية، لكن المرأة الأم، والمرأة الرحم هيكل آخر وشأن آخر، وكثيرة هي أعمالي التي حولتها إلى امرأة بعد أن كانت ذكورية». تجريد ثمة أعمال تجريدية حجرية كثيرة يصادفها المتجول في أرجاء حديقة ومحترف عزت حمام، إلا أن الغلبة تبقى لتلك المنحوتات التي تظل مسكونة بشيء من الملامح الإنسانية الواضحة. من هنا، يلح السؤال حول الأسباب التي تدفعه إلى العمل بأسلوب التجريد التعبيري وعدم اتجاهه نحو التجريد المطلق، يجيب: «أنا أقصد ذلك، والهدف هو أن يصل صوتي، ولأبقى شاهداً على زمني، لأقول شيئاً يسمع ويقرأ. وأتوهم أني أساهم في إطفاء الحريق حتى يبلغ تشكيلاً في مسمع المشاهد»، مؤكداً أن «التجريد من البيئة والمجتمع يعني قطع لآخر شعرة اتصال تصل الفنان بالآخرين. فمع التجريد تكتمل الغربة وتزيد بعدنا بعداً. ولمن يكون نشيدنا التشكيلي بعد ذلك؟. لمن نعمل ومن نخاطب؟». وعن سر علاقته بالطين والفخار، اللذين يشكلان خامة معظم أعماله وتحديداً الحديثة منها، باستثناء قلة من الخشب والبرونز، يقول: «لقد أخذت مني الظروف المرة والمجريات صلابة أحتاجها للعمل بالحجر والرخام. فافتقدت العزم للعمل بالآلة واعتمدت الطين، فهو كالمسودة يسمح بالمراجعة وبالتصحيح». وردة ربما يمكن القول إن الأسف، هو الشعور الأولي الذي يخالج ضيف عزت حمام، عندما يعرف أن كل هذه الأعمال لم تنل نصيبها من الضوء، ولم تطل بعد في معرض فردي على الرغم من مشاركة الفنان في العديد من المعارض الفنية الجماعية الرسمية والخاصة في لبنان وخارجه. أما جواب الفنان، الذي يتم عن حسرة مشوبة بشيء من السخط على التقصير الرسمي والإعلامي تجاهه، لا يبدو مكترثا للأمر كثيراً، لا بل إن الأضواء لا تبدو هدفاً بالنسبة إليه. نسأله: هل يجوز أن يعيش الفنان بعيداً عن الضوء؟. يجيب: «عند طرح السؤال كنتُ أُجيب نفسي بالقول: المهم أني أعمل، أما العرض فتحصيل حاصل، وكنت أتمنى أن يتحمل غيري مشقة هذا الأمر (..)». قضية هل صحيح أن الفنان يجب أن يحمل قضية يعبر عنها في أعماله؟ أم يكفي أن يعكس الجمال؟. يرد قائلاً: «جميل أن يحمل الفنان قضية، شرط ألا يخسر فنه. كما الوردة الجميلة، تحمل مع لونها عبقاً وعطراً، كما الطائر الملون الذي يطرب بتغريده وصوته الجميل.. المهم ألا تعيق المباشرة والابتذال والسياسة فنه». يتحدث عزت حمام طويلاً عن الدور الذي يجب أن يلعبه الفن في تهذيب النفوس والعقول في مجتمعات العالم كافة، مبدياً أسفه لغياب هذا الدور في لبنان ولكون السياسة قد أفسدت هذا الدور، يقول: «على الفنان أن يعمل كي يصل فنه إلى الآخرين ويفعل فيهم.. هذه مهمة الوسيط، ولا بد من ثقافة تساعد الآخرين على التذوق والتفاعل». ورداً على سؤال حول أسباب عدم وجود فرع للنحت في كلية الفنون في «الجامعة اللبنانية»، حيث يدرّس منذ عام 1974 والتي لم ينقطع عنها سوى عندما دخل المعتقل الإسرائيلي وبعدها عندما سافر لمتابعة الدكتوراه في باريس، يجيب: «كي لا نخرج فنانين!!. كي يشغلوا الشبيبة بحمل السلاح في حروب أهلية». المعتقل كالآلاف من اللبنانيين الأبرياء، دخل الفنان عزت حمام المعتقل الإسرائيلي خلال فترة احتلال لبنان، وقد تركت تلك التجربة أثراً واضحاً في أعماله، بالإضافة إلى آثارها الصحية التي لايزال يعاني منها حتى الساعة، نسأله عن التهمة التي دفعت به إلى المعتقل وكيفية مواجهته كفنان لجلاديه، فيجيب: «لم أكن طرفاً يوماً، لكني كنت أرى وأصوّر العنف والمجازر، كنت أنحاز إلى الضحايا الأبرياء، وأقول لا ولا ولا ولا. وبسبب الاعتقال الإسرائيلي، دفعت ثمناً كبيراً من صحتي ومازلت أدفع الثمن. وربما اعتقلت لأني كنت أصنع كائنات حجرية تقول أشياء ممنوعة في جنوب لبنان المحتل حينها، كما قال أحد أصدقائي. ويحضرني هنا ما قاله بابلو بيكاسو يوماً: «إن الفن لم يوجد لتزيين الشقق، إنه سلاح في الحرب ضد العدو». منحوتاتك تقول الكثير، لكن معظمها يحاكي الفكرة نفسها، لماذا؟. ألا تخشى من التكرار أو أن تقع أسير فكرة واحدة؟. يجيب: «أكرر نفسي؟. المهم أني أعمل فنا. نحن نراوح مكاننا، كأن بلادنا منذورة للريح، للحروب والتفكك. أنا مسكون بوجع بلادي، حيث مساراتنا لا توصل، وحروبنا لا تتعب، وما نحن فيه يتكرر ولا وصول. أنا باحتدام أقول لا، لا للعنف».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©