الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حينما تفصح العقلانية عن نفسها بجدارة

حينما تفصح العقلانية عن نفسها بجدارة
1 أكتوبر 2009 00:07
عن الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف صدر كتاب جديد بعنوان «الفلسفة والبلاغة» للكاتب الجزائري د. عمارة ناصر، الذي يشير إلى توجه العقلانية الفلسفية المعاصرة، بتأثير من التداوليات اللغوية، الى مقاربة الحقل العملي وإشكالياته، ومنذ «البلاغة الجديدة» التي بشّر بها شايم بيرلمان ودرسه الحجاجي، تمّ فهم هذه العقلانية كعقلانيات لها أداءاتها المنتظمة داخل اللغة الطبيعية التي تمتلك منطقها الداخلي وسلوكها الحجاجي، كما بيّنت ذلك أبحاث ديكرو، فالإمكانات الاستدلالية والبلاغية التي تمتلكها اللغة تشكّل مكوّناً خطابياً للفلسفة الى جانب التناول المفهومي والاقتراب الإشكالي، وبهذا ظهر ان المنظور البلاغي للحقيقة يسمح بفهم افضل لوظيفة الفلسفة كخطاب عقلاني مرتبط بمخاطب كوني. يرى المؤلف جانباً من الأداء الحجاجي للعقلانية الفلسفية يتجلّى، بوضوح، في الأوجه البلاغية للنص الفلسفي وأشكال الحوار والتأثير التي يتم من خلالها تمثّل القيم العملية وتوجيهها وتغيير المواقع والآراء والدفاع عن النظريات والمواقف وتبريرها. وبهذا يحضر الرأي في الخطاب الفلسفي بوصفه بُعداً أساسياً في نشاط التفكير وأفق التواصل لدى الفيلسوف عبر محاورات نصّية توظّف المُعجم، الاستعارة، الأفعال اللغوية والمواضع الحجاجية لتوجيه الآراء النموذجية، انتصاراً لبعض القيم أو مهاجمة لبعضها الآخر. فالفلسفة تحافظ على حوار، صريح أو ضمني، بين النصوص والذوات، تعرض فيه الفرضيات والمقولات وتقدّم فيه الآراء والأطروحات، فيتعاظم بعضها ويسيطر على كينونة الخطاب ومواضعه العقلانية ونسيجه اللغوي، ويتهافت بعضها الآخر فيفتر تأثيره وتضعف فعاليته ويتوارى خلف واجهة اللغة ويبتعد عن انشغالات الواقع ومشكلاته وينغلق على نفسه منتظراً ذاكرة المستقبل لاستدعائه في تولّد فلسفي جديد. كما ان الحجاجية هي الشكل البلاغي الذي يجعل من بين رهاناته الأساسية استعادة اللغة في كليتها أي في نظامها ولعبها، في حقيقتها وخداعها، في استقامتها القصدية ومناورتها الأسلوبية، بوصف ذلك كله أشكالاً تمثيلية للواقع الاجتماعي في رمزيته وزيفه وتظاهره وتعدّد دلالاته وأبعاده، فاللغة لا تنفصل عن طابعها الاجتماعي ودورها التواصلي كمكان لالتقاء المتحاورين واجتماع المتخاطبين وطريقة مثلى لتبادل الآراء وانسجامها، قبولها واستساغة مبرراتها وحججها، كما أنها العتبة المناسبة لمراقبة الحياة ورصد الواقع ومساءلة المشكلات واستنطاق الوجود. هياكل نظرية يعرض المؤلف كيف ان القراءة البلاغية والمعالجة الحجاجية للنص الفلسفي ليستا ضروريتين لأنهما تساعدان على الفهم القوي والفعّال للنص فقط، بل لأنهما تدفعان الى تحويل الفهم الى مطلب اجتماعي ومقتضى واقعي كذلك، فقراءة موصوفة بهذا الطابع لهي جديرة بأن تكون في عمق اهتمامات العقلانية العلمية والفلسفية، اذ لا يهم في هذه العقلانيات تكوين منهج متماسك او منظومة من المفاهيم الجذابة والمقولات النظرية المكثفة، بل ان ما يهم في ذلك كله هو الاقتراب من حقيقة الوجود والعالم وفهم الكائن في ضوء هذه الحقيقة التي تكون في النهاية نتيجة اتفاق نوعي يُسكنها في النصوص والقوانين والقواعد والمعايير المنطقية والخطوات المنهجية. كيف نفسر الانتقال داخل تاريخ الفلسفة من مذهب الى آخر ومن نظرية الى أخرى؟ هل يتعلق الأمر بتقادم المذهب او النظرية بانتهاء المجال الزمني الذي ترتبط به المواضيع التي تعالجها؟ ام بسبب انفصالها المفاهيمي عن متلقيها، فلم يعد ممكناً استساغتها او قبولها، أي أنها فقدت مبررات وجودها واشتغالها؟ كيف تنتقل فلسفة ما، من مرحلة تبدو فيها على انها منطقية ومقبولة وجديرة بمناقشة الحدود الأنطولوجية والإبستيمولوجية بين الخطابات والنصوص والإشكاليات، الى مرحلة تصبح فيها مجرد هيكل نظري فارغ دلالياً، يُستعان به في استكمال بناء نظري آخر، وان حدثت الاستعانة به، فلا تكون ـ غالباً ـ الا من خلال أشكال النقد والتقويض والهدم؟. هذه الإشكاليات تبيّن ان التعدد الفلسفي المعاصر، على الخصوص، هو تعدد آراء، وتبيَّن ان حلّ المفارقة، القائمة بين التعدد الفلسفي والوحدة الفلسفية التي تفترضها الخلفية المنطقية التي انبنت عليها منذ أرسطو، لا يكون ـ الحل ـ إلا في الانطلاق من اللغة كقاسم مشترك وجذري في حوار هذا التعدد، والتفكير في قوة الرابطة التي تنشأ بين اللغة والرأي في الفلسفة وهي القوة المفترضة «للحجاجية». فن الخطاب ومحاولتنا للإجابة عن ذلك كله موزعة على ثلاثة فصول: لقد جاء الفصل الأول اقتراباً من البلاغة الغربية ومسافاتها الخطابية، بوصفها فنّاً للتماسك في الخطاب، وعرضاً لأصولها وأسسها وجذورها التكوينية التي تبدأ من الظاهرة السفسطائية وتنتهي بتفسخها أواخر القرن التاسع عشر ثم عودتها في ثوبها الجديد مع إنشاء الإمبراطورية البلاغية لدي شايم بيرلمان، محاولين بذلك إظهار أهم الأشكال البلاغية في الخطابة الغربية، وعلاقة البلاغة بالأسلوبية، ثم أنهى الفصل ببحث نقدي حول تقويض البلاغة بضرب جذورها الميتافيزيقية وطابعها الأسطوري. أما الفصل الثاني، فقد خصّص لدراسة الحجاجية وتقنياتها من خلال منطق اللغة الطبيعية، اذ وضح المنظور العام للتداولية ثم تتبعنا التحوّل المعرفي الأساسي من المنطق الى الحجاجية وتخلّي العقل عن طابعه البرهاني ومنطقه الحسابي واشتغاله الأداتي، ثم ارتباطه بعمق اللغة وعمق المجتمع ومشكلاته بواسطة ما يسميه دولوز بعلم الآراء أو الدوكسولوجيا الذي يعتبر الأشياء نفسها كآراء نوعية. ثم انتقل الى وصف الجهاز الحجاجي عبر مراحله الأساسية داخل الخطاب الطبيعي ضمن ما يسميه ديكرو بالبلاغة المتكاملة التي تجمع بين مستويات ثلاثة هي: المستوى النحوي ودوره في تكوين اللغة الطبيعية كميزان وأنموذج لسير الخطاب الطبيعي الذي ينقل العوامل الحجاجية، ثم المستوى الدلالي حيث يلعب توجيه الدلالات والمقاصد دوراً في تحديد هوية الخطاب ومن ثم التحكم في الآراء النوعية والتأثير على المتلقي من خلال ذلك، وصولاً الى المستوى التداولي، اذ ان تحول القيم الدلالية والميزان النحوي الى قيم للفعل هو شرط الحقيقة في المستويين الأولين، والاتفاق الجماعي حول حجاجية هذه القيم هو ما يشكل الحقيقة البلاغية. الكتاب: الفلسفة والبلاغة الكاتب: د. عمارة ناصر الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©