الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مصنع أسمنت العين.. أول لبنة في النهضة الصناعية

1 أكتوبر 2009 00:20
كان واضحا منذ تسلم المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لمقاليد الحكم في البلاد في أغسطس عام 1966 أن إمارة أبوظبي لا يمكن أن تستمر مجرد بائعة للنفط الخام المكتشف والمنتج من حقولها البرية والبحرية. وببساطة حدد القائد خطته الاستراتيجية لبناء اقتصاد قوي يقوم على عدة أعمدة لا على عمود واحد هو النفط والغاز، إنتاجهما وبيعهما بما لا يزيد عن دولار واحد للبرميل. حتى عندما سلم دائرة البترول لذلك الشاب حديث التخرج من كلية الاقتصاد جامعة بغداد والذي كان على معرفة به منذ كان طفلا صغيرا (مانع العتيبة) أضاف اسم الصناعة إلى الدائرة فأصبح اسمها دائرة البترول والصناعة. الصناعة تقوم على المصانع، وكلفت الدائرة بعمل الدراسات اللازمة لإنشاء المصانع، أو بدايات الصناعة. ورغم أن برنامجي كان يسمى «الذهب الأسود» منذ بدأ عام (1971) إلا أن الصناعة أخذت حيزا مهما من الموضوعات التي يغطيها. وبطبيعة الحال كانت النهضة العمرانية التي شهدتها إمارة أبوظبي في سنوات 1969 وما بعدها تفرض على جهات التخطيط والتنفيذ التفكير بمصانع تخدم هذه النهضة وتواكبها. ولعل أهم مادة احتاجت إليها النهضة العمرانية كانت الاسمنت. وأذكر أنه في يونيو من عام 1971 وقعت وزارة البترول والصناعة قبل قيام الاتحاد اتفاقية مع شركة «هولدر بانك» السويسرية لإعداد الدراسة الاقتصادية والفنية لمشروع مصنع الاسمنت. وفي نوفمبر قدمت الشركة تقريرها واختارت موقعا للمصنع بالقرب من جبل حفيت في مدينة العين وذلك لتوفر المواد الأولية اللازمة مثل الحجر الجيري والطفلة والجبس. وقد لاحظت في ذلك التقرير أن الشركة اقترحت مصنعا متواضعا لا تزيد طاقته الإنتاجية عن 600 طن يوميا أو ما يعادل 200 ألف طن سنويا. كان جبل حفيت الموقع المقترح للمصنع وعندما أتيحت لي فرصة زيارته مع معالي الدكتور مانع العتيبة بدا لي بعيدا عن مدينة العين. ولم يكن ذلك رأي الشيخ زايد رحمه الله، فما زلت أذكر الحوار الذي دار بين القائد والدكتور مانع. سأل الشيخ زايد: ماذا بشأن الدخان المتصاعد من المصنع؟ قال الدكتور مانع: سيتم تعلية برج المدخنة حتى يصعد الدخان إلى الجو ولا يؤثر على السكان. قال الشيخ زايد: ولماذا لا تقومون بالتخلص من ذلك الدخان المضر، ألا توجد طريقة لإعدامه؟ قال الدكتور مانع: يمكن أن نطلب من الشركة القيام بذلك. قال الشيخ زايد: نعم، يجب أن تبذلوا قصارى جهدكم للتخلص من الدخان لأنه مضر للسكان. قال الدكتور مانع: سنفعل يا صاحب السمو. قال الشيخ زايد: لا تظنوا أن المصنع سيظل بعيدا عن المدينة والسكان، بعد سنوات قليلة ستشهدون المدينة زحفت باتجاه المصنع، ومصنع الاسمنت سيصبح في وسط أحياء سكنية، والدخان بدون شك سيكون ضارا بصحة من يسكنون حول المصنع. وبالفعل طلب الدكتور مانع من الشركة الاستشارية «هولدر بانك» السويسرية تنفيذ طلب المرحوم الشيخ زايد وتم إعدام غاز الفحم الصاعد من المدخنة. وعندما زرت منطقة المصنع قبل ثلاث سنوات تذكرت ذلك الحوار حيث ثبت صحة ما توقعه القائد ورأيت المصنع الذي حسبناه بعيدا عند جبل حفيت قد أحاطت به الأحياء السكنية، حتى جبل حفيت نفسه أصبح مزارا سياحيا مليئا بالمنشآت السياحية والسكنية. وفي السابع والعشرين من سبتمير 1973، تم توقيع عقد إنشاء مصنع اسمنت العين مع شركة يابانية تدعى «ايشيكاواجيما هاريما»، بتكلفة مبدئية قدرها تسعة عشر مليون دولار وفي الثالث من ديسمبر 1973، تم الاحتفال بوضع حجر الأساس لمصنع اسمنت العين. حرص الشيخ زايد رحمه الله على حضور ذلك الاحتفال وحضره معه الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم طيب الله ثراه وكنت عريف ذلك الحفل وألقيت في بدايته كلمات على أسلوب شعر التفعيلة، فوجئت وأنا أبحث في أرشيفي الخاص بوجود تسجيل كامل له. قلت يومها: يا جبل حفيت وصلتك الأيدي المؤمنة الخضراء وصلت لتحول كل صخورك كل رواسب أيام التاريخ الأولى لتحولها لبنات بناء يا جبل حفيت يا من أطللت على صبر الأجداد انظر تشهد زحف الأبناء زحف للخير وللعمران انظر تشهد أعمدة دخان ما هذي حرب أو طغيان ما هذي إلا إعلان أن الإنسان في هذي الأرض الطيبة المعطاء يعلي البنيان ويسير على درب الخير الأخضر بقيادة هذا الرائد هذا الرجل الإنسان زايد بن سلطان أجمل ما وجدته في التسجيل الصوتي الذي احتفظت به طوال تلك السنوات، كان حواري مع المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد. قلت للشيخ زايد: صاحب السمو، ماذا تقول في هذه المناسبة؟ قال الشيخ زايد، وقوله مسجل بالحرف الواحد بصوته الدافئ الواثق القوي: ـ الحقيقة أن الكلمات التي استمعنا إليها من حضرة الوزير مانع غطت كثيرا من الأشياء التي كنت أريد قولها، ولكن ما أريد أن أضيفه لما ذكره الوزير أننا سوف نقوم إن شاء الله بإقامة مصانع عديدة تحتاج إليها المنطقة ويحتاج إليها المواطن سواء في دولة الإمارات العربية المتحدة نفسها أو في دول شقيقة صديقة، وتبنينا لهذه المشاريع يهدف في الحقيقة إلى إدخال السعادة الحقيقية على المواطنين في دولة الإمارات وكذلك على الشعوب الشقيقة والصديقة، لأن الشقيق يسعد بالتعاون مع شقيقه شعب دولة الإمارات في أي عمل مثل مشروع أو مصنع. وأضاف: وهذا التعاون مطلوب، وحتى في مؤتمر القمة العربي كان موضوع التعاون مطروحا بقوة وقد طالب الرؤساء والملوك بهذا التعاون وعلى أساس أن يكون هذا التعاون ليس بين الملوك والرؤساء فقط بل بين الشعوب العربية الشقيقة في جميع أنحاء الوطن العربي. فالتعاون وخاصة التعاون الاقتصادي هو من الأشياء التي تحقق الترابط بين البشرية جمعاء. تحدث الشيخ زايد رحمه الله طويلا وأجاب عن جميع الأسئلة التي وجهتها إليه. ما زلت بين الفينة والفينة، أنفض الغبار عن الأشرطة التي حملت الكثير من التسجيلات النادرة لكلمات وتصريحات وحوارات أجريتها في ذلك الزمن الجميل مع القائد الذي لن أنساه طالما ظل في جسدي عرق ينبض أو دم يجري. لقد كان رحمه الله يعرف جيدا ما يريد أن يفعله، وكانت أقواله مجرد صدى جميل لما أراد أن يفعله وفعله حقيقة. كانت أفعال الرجل أكثر من أقواله، ولعلني من المحظوظين الذين يحتفظون ببعض أقواله الخالدة. خليل عيلبوني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©