الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

برنارد لويس.. زارع الألغام

برنارد لويس.. زارع الألغام
13 يوليو 2016 22:49
إميل أمين بمجرد أن يُذكر اسم هذا الرجل في العالم العربي تُطرح لدى الناس علامة استفهام جذرية وحائرة: «لماذا يكرهنا»؟. ولعل في الخلفية من السؤال يقع مقاله الشهير في أوائل التسعينيات من القرن الماضي «جذور الغضب الإسلامي»، والذي اعتبره البعض الركيزة الأساسية التي بنى عليها صموئيل هنتنغتون أطروحته الخلافية الشهيرة «صراع الحضارات». في أوائل العام 1916 وُلد برنارد لويس في إنجلترا لعائلة يهودية أشكينازية من الطبقة الوسطى، وبدأت عليه ملامح حبه للغات والتاريخ، فاهتمّ في سن مبكرة، وتحديداً الحادية عشرة من عمره، بدراسة اللغتين العربية والعبرية، ثم الأرامية، ومنها انتقل إلى اليونانية والفارسية واللاتينية والتركية. يذكر المؤرخ المصري الكبير د. رؤوف عباس في مقدمته لأحد كتب لويس المعنون «الإسلام وأزمة العصر... حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس»، أن مستشرقاً لم يحظَ بشهرة إعلامية واسعة في الغرب، تتردد أصداؤها في العالم كله، مثلما حظي برنارد لويس الذي يعدّونه «عميد دراسات الشرق الأوسط، وحجة تاريخ الإسلام والعرب»، بل و«حكيم العصر»، وتتسع دائرة «الترويج له» في جميع أجهزة الإعلام الغربي المقروءة والمسموعة. غير أن هذه ليست الحقيقة كاملة، فرغم الشهرة الواسعة، لم يضف برنارد لويس في حقيقة الأمر إلى الدراسات التاريخية المتصلة بالإسلام والمسلمين سوى رسالته للدكتوراه عن «الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين»، وحتى هذه تجاوزتها بحوث العديد من المؤرخين في الغرب والشرق. مؤرخ أم منظر سياسي؟ هل كان لويس وطوال عقود مؤرخاً أكاديمياً أم منظراً سياسياً؟، بمعنى هل عرف العالم لويس باحثاً ومفكراً متجرداً وموضوعياً أم صاحب مشروع سياسي، وإن أظهر خلاف ما يبطن؟ المقطوع به أن الغوص في عمق المنهج الاستشراقي الخاص بالرجل يصيب الباحث بالذهول، فقد تبنى لويس طوال حياته مشروعاً ظاهره «علمي»، ولكن جوهره سياسي محض، وهو تقديم صورة الإسلام إلى الغرب كما تعكسها مرآة لويس الذي يريد أن يرسخ في أذهان قارئه صورة سلبية للإسلام تخدم توجهه الصهيوني المحض... هل من مصداقية لهذا الحديث؟ الشاهد أن لويس وفي بداية حياته المهنية اتجه إلى دراسة القانون ليصبح محامياً، غير أن حبه وشغفه بالتاريخ سيما تاريخ «الشرق الأوسط»، أرجعه ثانية للدراسة في جامعة باريس، حيث درس مع المستشرق الفرنسي الكبير لويس ماسينون تاريخ المنطقة. كانت الحرب العالمية الثانية ولا شك نقطة مفصلية في تحول وتحور مسارات «لويس»، فحين اندلعت تلك الحرب الكونية، ترك التعليم الجامعي الذي كان قد بدأه للتو ليعمل ضابطاً في الاستخبارات العسكرية البريطانية، ومنها لاحقاً خبيراً في الاستخبارات البريطانية الخارجية، رغم عودته إلى جامعة لندن وممارسته لدور أكاديمي. أُعير لويس كثيراً إلى وزارة الخارجية البريطانية بدءاً من العام 1949 ليلعب دوراً مؤثراً وفاعلاً في رسم سياسات الإمبراطورية البريطانية، التي كانت وقتها تصارع من أجل «شمس»، كانت في طريقها نحو المغيب، مخلّفةً وراءها حطام إمبراطورية لم تكن لتغيب عنها الشمس. في تلك الأوقات وبعين المؤرخ الفذ الذي يعلم جيداً قراءة الأزمنة، ويدرك مآسي الكون وأحاجي الإنسان، رأى أن المستقبل القادم هو للولايات المتحدة الأمريكية، وعليه هاجر إلى الأراضي الأمريكية الواسعة، وإن تطلب الأمر منه نحو عقدين كاملين ليستقر به المطاف في جامعة برنستون العريقة أوائل سبعينيات القرن الماضي، ليضحى وخلال عشرات السنوات «رأس الحربة» الفكرية في مشروع أمريكا للهيمنة على العالم، وفي طليعة المفكرين والباحثين الاستراتيجيين النازعين إلى تكريس النظرة الأحادية للعالم، عبر البوابة الإمبراطورية الأمريكية، وقد كان للرجل دور بارز في دعم جماعة المحافظين الجدد بالمدد الفكري والزخم العقلي، للمضي في طريقهم الذي كلف العالم ولا يزال سنوات من الدم والنار والثأر وردات الفعل الانتقامية. كان لويس، ولا يزال، وبالاً علي الشرق الأوسط وعلى العالم الإسلامي، فهو صاحب الدعوة الأبوكريفية المنحولة لاعتبار «العالم الإسلامي متعفناً بمقاومة جوهرية للغرب»، وقد كان الأمر بالنسبة إليه نبوءة ذاتية Self Prophecy، أي محاولة لتحقيق تنبوءات مكذوبة لنفسها بنفسها. تقسيم المقسَّم اعتبر الكثيرون أن لويس هو صاحب الرؤية الإمبريالية الغربية الجديدة لتقسيم الشرق الأوسط، أو ما يعرف اليوم في الأدبيات السياسية باسم «سايكس بيكو2»، والحديث عن الخرائط الجديدة لتفكيك وتفتيت العالم العربي، تملأ الأجواء الفكرية العالمية، غير أن الأخطر في ذلك، أنه كان ولا يزال في خدمة المشروع الصهيوني الأكبر، وهمه الأول «تقسيم المقسَّم وتفتيت المجزَّأ لا تجزئته فحسب». في العام 2002، أي بعد الإغارة الأمريكية على أفغانستان، وفي زمن التحضير لغزو العراق، شهدت تل أبيب أمسية لتكريم برنارد لويس، كان من بين الحضور فيها بوب ولفوويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي حينذاك دونالد رامسفيلد، والذي تحدث ليلتها قائلاً: «لقد علّمنا برنارد لويس، كيف نفهم التاريخ المعقد والمهم للشرق الأوسط، وكيف نستعمله (التاريخ) ليوجهنا إلى المرحلة القادمة من أجل بناء عالم أفضل للأجيال القادمة». بعد عام وفي مارس 2003 كان لويس يقدم الحجة الفكرية لغزو العراق حين قال: «إن غزو العراق سينبثق عنه فجر جديد، وإن القوات الأمريكية ستُستقبَل كمحررة»، الأمر الذي ثبت كذبه باعتراف الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن في مذكراته الصادرة حديثاً «قرارات مصيرية»، عندما اعتبر أن: «ما فعلناه في العراق كان خطأ فادحاً»، لتنهار أسطورة برنارد لويس، ومنهجه الاستشراقي أو الاستخباراتي على أصح وصف وتشبيه. صاحب الوجهين يصف البعض برنارد لويس بأنه يشبه الإله الروماني «جانوس» صاحب الوجهين، وجه إنسان ووجه إله، فلويس يقدم ذاته تارة على أنه الباحث الأكاديمي، وأخرى بوصفه السياسي، والمنظر الثيولوجي، وفي هذا الجانب الثاني الخطر الأعظم، لا سيما تجاه الإسلام والمسلمين، فقد أكد دائماً في كتاباته العداء الإسلامي الحتمي وبالضرورة للمسيحية، بل رفضه لغيره من الأديان والثقافات الأخرى، وذهب إلى أن المسلمين يعادون السامية بدليل موقفهم الرافض لدولة إسرائيل، وفي نهاية كتبه يحرص عادةً على ترويج المنظومات ذات مسحة الإسلاموفوبيا التقليدية، من عينة أن المسلمين لا يحسنون استيعاب ما اقتبسوه من الغرب، ولذلك باءت مساعيهم للحاق بركب المدنية الحديثة، مدنية الغرب، بالفشل الذريع، فراحوا يبحثون عن «كبش فداء»، هنا وهناك، لتبرير تخلفهم، وعجزهم وقصورهم، ويصبون جامّ غضبهم على الغرب، دون أن يدركوا ما وقعوا فيه من أخطاء، هي عنده تتمثل في رفض الحضارة الغربية والعداء للسامية، وينتهي إلى نتيجة واحدة «فالمسلمون قوم أوغاد بطبعهم، يكرهون الآخر، ويرون ذبح الغرب واليهود انتقاماً لعجزهم وتخلفهم». تدعونا رؤية لويس السابقة إلى التساؤل: هل يستحق هذا الرجل المهرجانات التي تقام في ذكرى مئويته، ولا يزال حياً؟ الأمر المؤكد هي أنها تنافي وتجافي أي موضوعية تاريخية، فالرجل لا يناقش استحقاقات الاستعمار الغربي ودوره في تخلف شعوب المنطقة، وينسى أو يتناسى الرؤى الاستشراقية المغلوطة من زمن «مونتكروتشي»، وصولًا إليه، أما حديثه عن العداء للسامية، فيبطله الحضور اليهودي في العالم العربي قبل قيام دولة إسرائيل، فقد عاش اليهود في الشرق الأوسط من طنجة إلى القاهرة وصولاً إلى دمشق وبغداد وبقية بلاد الشام، أياماً يترحمون عليها، ولعل أفضل من تصدى لمقولات لويس المنحولة، كان الكاتب المصري الأصل، الفرنسي الجنسية آلان جريش، في مقال شهير له بمجلة «اللوموند ديبلوماتيك» الفرنسية ذائعة الصيت تحت عنوان «برنارد لويس وجينة الإسلام»، وفيه ينقد وينقض الرؤية العنصرية عند لويس للمسلمين، وفي نهاية مقاله يتهكم ساخراً بالقول: «لا بد أن عالماً أمريكياً سيكتشف قريباً (جيناً) للإسلام، ذاك الذي يفسر لنا لماذا المسلمون مختلفون عن باقي البشرية المتحضرة»، ويُرجع جريش العبارة السابقة إلى البروفيسور إدوارد سعيد، المسيحي العربي الفلسطيني الذي تصدى طويلاً لأكاذيب لويس حين أشار إلى أن: «جوهر أيديولوجية لويس في ما يخص الإسلام هو أنه لن يتغير، وأن أي مقاربة سياسية تاريخية أو جامعية للمسلمين عليها أن تبدأ وتنتهي من كون المسلمين هم مسلمين». الحديث عن لويس في حاجة إلى مؤلفات قائمة بذاتها، لا سيما موقفه من «القدس» حيث إن كتاباته تعمل على إقناع القارئ الغربي بأن الوجود الإسلامي في القدس وجود غير مشروع، فيه افتئات على المسيحيين واليهود، وأنهم مغتصبون لموقع المسجد الأقصى، واهتمامهم بالقدس اهتمام طارئ، ومن ثم يصبح تمسك الفلسطينيين بالقدس مجرد نكتة، وتعدٍّ على حق اليهود «التاريخي» في المدينة. في مئويته يبقى برنارد لويس «زارعاً للألغام»، وفي مئويته نحتاج إلى فصيل فكري عربي مخصص ومكرس لدحض افتراءاته بموضوعية وعلمية من دون تعصب أو كراهية. مئوية الهدّام يستلفت النظر أن الأوساط الفكرية التي تهنئ وتبارك لـ «لويس في مئويته» لم تتوقف عند الدور الهدام والقاتل الذي يثيره وتثيره آراؤه لجهة تعايش أتباع الأديان، وأبناء الحضارات المختلفة، فالرجل مولد كبير لأفكار الإسلاموفوبيا، وتحذيراته من انتشار الإسلام لاسيما في أوروبا تمثل اليوم ركناً أصيلاً في تنامي الأصولية الغربية، وزيادة المد اليميني الأصولي في أوروبا بنحو خاص. يذهب لويس إلى أن الإسلام والمسيحية دينان لا يطيقان النقاش معاً، وأنهما في صدام دائم لأنهما على عكس اليهودية لا يتوجهان إلى عنصر معين، بل يسعى كل منهما إلى نشر دعواه في العالم كله، ومن ثم تتقاطع طرقهما ويتفجر الصراع بينهما. كانت هذه الفكرة موضوع مقال نشره لويس في مجلة The Atlantic Monthly عدد مايو 2003، بعنوان استفزازي «أنا على حق، وأنت على باطل، فلتذهب إلى الجحيم»، وهو المقال الذي ترددت بعض مقولاته في كتابه «أزمة الإسلام»، ليبقى لويس أبداً ودوماً حجر عثرة لا زاوية ارتكاز، الأمر الذي يبدو واضحاً كذلك من مقاله الأخير في الواشنطن بوست الأمريكية: «أوروبا والمسلمون ناقوس الخطر القادم»، وفيه يطرح تساؤلاً مثيراً للجدل والخوف لدى الأوروبيين: «ما مدى إمكانية أن يصبح مسلم مهاجر، استقر في أوروبا أو في أماكن أخرى من الغرب، جزءاً من تلك البلاد التي استقر فيها مثلما فعلت العديد من موجات المهاجرين؟». هذا التساؤل تتردد أصداؤه اليوم ومن جديد في أنحاء القارة الأوروبية لاسيما في ظل موجات الهجرة التي تهل عليها، وهي في غالبيتها من المهاجرين المسلمين من الشرق الأوسط على نحو خاص، الأمر الذي يرسخ لدى الأوروبي والأمريكي المعتدل، وليس اليميني فقط، المستعد أبداً ودوماً للمجاهرة بعدائه للآخر، حقيقة تكاد أن تكون مغلوطة بالمطلق، وهي أن المسلم في أوروبا سيظل ولاؤه وانتماؤه عرقياً، دينياً وأيديولوجياً، أكثر من ولائه السياسي، وفي التحليل، هناك ربط بالنتيجة التي خلص إليها من قبل في الكثير من أوراقه، وهي أن المسلمين قوة تدمير، وليسوا قوة بناء. رسالة كراهية يحرص «برنارد لويس» على أن يوهم القارئ بأن ما يقدمه له يمثل رؤية علمية محايدة منزهة عن الهوى، ملتزمة الموضوعية حتى يقتنع بما يقدمه له من أفكار، ولكن هيهات أن يدرك القارئ أن ما يقدمه لويس عن الإسلام له شبهة موضوعية ونزاهة، وخلو من الغرض، بل يجد القارئ نفسه يتعامل مع رسالة «سياسية تطفح بالكراهية للإسلام والمسلمين» وخاصة العرب، وتفيض بالانحياز للصهيونية... هل من دليل على صدقية وموثوقية هذا الحديث؟ على القارئ المحقق والمدقق أن يمعن النظر في غالبية إن لم يكن كل ما ألفه برنارد لويس بعد الحرب العالمية الثانية، ويتخذ صورة فجة في كتابيه: «أين الخطأ» و«أزمة الإسلام»، على وجه الخصوص، فقد كان الكتاب الأول يطبع عندما وقع حادث 11 سبتمبر 2001، وصدر في غضون الأسابيع التي تلته، فتخاطفته الأيدي، ولقي اهتماماً واسعاً، فتعددت العروض التي كتبت عنه في الصحف والمجلات، لأنه قدم الإسلام والمسلمين في إطار معين باعتبارهم خطراً موجهاً ضد الغرب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©