الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عصفورة إنجليزية

عصفورة إنجليزية
3 يناير 2008 00:40
عدت الى أهلي يا سادتي بعد غيبة''ü··· شهر واحد على وجه التحديد، كنت خلاله أمضي إجازتي في إنجلترا· تعلمت أشياء وغابت عني أشياء· لكن ما حدث في أول يوم وطئت قدمي أرض لندن لمختلف جدا· كان المطر ينهمر بشدة· أخذت مقعدي في القطار بين محطة فكتوريا ومنتجع برايتون بينما كانت المرأة الجذابة الجالسة أمامي تعدل في قعدتها بشيء من الدلال· ''تثنت'' إذا أردت كلمة أفضل· ''إنها تمطر بغزارة''· قالت تخاطبني· ''فعلا''· قلت وأنا أعلم إن تلك فاتحة دردشة طويلة· هذه هي طريقة الإنجليز في العبور إلى الغرباء· دأبهم إذا أرادوا بدء حديث مع احدهم أن يأتوا بعبارات مثل ''الجو لطيف اليوم، أليس كذلك؟''·· أو ''هذا يوم كثير الرياح''· تقلب الطقس عندهم جواد رابح ولهذا يراهنون عليه باستمرار· إما ذلك أو المواصلات العامة· تأخر الباص مرة خمس دقائق فإذا بشخص يلتفت إليّ قائلا: ''أكان هذا الشيء اللعين ينتظر يوم القيامة ليصل؟'' وهذا شيء عقد لساني بالدهشة لأن الباصات في بلادي قد لا تأتي أبدا· جلست يا سادتي وعلقت العصفورة ـ يسمي الإنجليز نساءهم ''عصافير'' من باب الدلع ـ على الطقس· كانت شقراء يافعة وجميلة··· إلى آخره· عرفت على التو مرماها· فقد أخبرني صديق عليم إن الرجل الأسود في أوروبا ـ من وجهة النظر النسائية ـ إنما هو ملك بتاجه وصولجانه··· إن الأوروبية تدفع من أجله دم قلبها العزيز· ''ماذا عن الإنجليزيات؟'' ''الإنجليزيات بصفة خاصة''· عرفت إن تعليقها لم يكن مجرد أمر عابر، أو من أجل التعليق· ولم يخب ظني، إذ سرعان ما أضاء وجه العصفورة ابتساما دافئا وسألتني: ''لست من جامايكا· من أي البلاد أنت إذن؟'' ''السودان''· قلت بابتسام أكثر دفئا· ''السودان، طبعا''· قالت وأصابعها تمشط شعرها القمري في مرح عظيم ثم سألت: ''وأين السودان بالضبط؟'' ''السودان، بالضبط، في افريقيا''· صمتت برهة وقالت: ''افريقيا''· ''نعم··· تعرفين مكان افريقيا''· ''بالطبع''· ''السودان في قلب افريقيا· مليون ميل مربع''· ''مليون ميل مربع!'' ''مليون ميل مربع''· ''ضخم جدا''· ''وعلى استعداد دائم للنمو المضطرد''· ''لا بد انه حار وغامض وجميل''· ''حار؟ نعم· غامض؟ يزول الغموض إذا عرفتيه· جميل؟ أنا شخصيا اعتقد انه مختلف''· قلت ذلك وتهيأت لنصب شراكي· صديقي العليم ذاك أخبرني انك تستحوذ على قلب الانجليزية بأحد اثنين: إما أن تحدثها عن مصيبة شخصية من نسج خيالك مثل، قل، فقدك جميع أفراد أسرتك في حادث سيارة، أو تصور لها حياتك أمرا خارجا عن المألوف خروجا تاما· اخترت الأخير· ''لعل بلدي، لو تعلمين، هو الأقرب إلى أمنا الطبيعة بين جميع بلاد المعمورة· لو أردنا لارتدينا أحسن الثياب· لكنا نفضل أن نحوم في الطرقات عراة· الغابات متنزهاتنا· الأسود والتماسيح والأفيال والنمور حيواناتنا المنزلية···'' ''حقا؟'' قالت والريبة تزيد في إشراق تقاطيعها الدقيقة· ''نحن نحفظ عن ظهر قلب فنون المطبخ الفرنسي والايطالي والصيني والمكسيكي والهندي، ولكننا لا نطبخ أبدا· نعتقد ان النيىء مفيد للصحة''· ابتسمت ابتسام الطفل أمام لعبة جديدة· ''ونشرب من النهر مباشرة''· ''دعك من ذلك، فلست جادا''· ''ولا نكذب ابدا''· ''تأكلون النيىء؟'' ''ولا شيء أسهل على نسائنا من الولادة''· ''وتحومون عراة؟'' ''ونعبد الجمال''· ''أسود ونمور وتماسيح···؟'' ''وكلاب وقطط!'' ''ألديكم كلاب وقطط أيضا؟'' ''وببغاوات''· ''ولكن كيف يتسنى لهذه المخلوقات الضعيفة المسكينة أن تعيش بين تلك الوحوش؟'' كدت انفجر بالضحك على قلة عقل هذه المرأة· وحدثت نفسي إن الانجليز عندما أسموا نساءهم عصافير، لم يكن الأمر مجرد استعارة لغوية· ولكن فيم تهمني قلة عقلها وما كان إلى العقل مسعاي على أية حال؟ تذكرت مصطفى سعيدüü· الرجل الذي قال انه سيحرر افريقيا بـ (···)، المعلم الذي كتب في مذكراته: ''كانت تغني لي أغاني ماري لويد ونحن عراة·· وتقول لي: لسانك قرمزي بلون الغروب في المناطق الاستوائية· كنت لا أشبع منها ولا تشبع مني· تتأملني كل مرة كأنها تكتشف شيئا جديدا· تقول لي: ما أروع لونك الأسود·· لون السحر والغموض والأعمال الفاضحة··· كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية وشموس قاسية وآفاق أرجوانية· كنت في عينيها رمزا لكل هذا الحنين· وأنا جنوب يحن إلى الشمال والصقيع''· تذكرت كل ذلك وقلت: ''نعم، تعيش الكلاب والقطط آمنة وسط الأسود والنمور· هذه ليست وحوشا· أطعميها بما يكفي وستجدين إنها أودع من حمل وليد· أنا شخصيا اقتسم فراشي مع فيل، فبلادي هي ارض التناغم العظيم''· بذلك أكملت للمسافرين دهشتهم، وصرت، في نظرهم، قطب الرحى في هذا العالم··· المغناطيس الذي اجتمعت عنده كل شاردة وواردة من أفكارهم ومشاعرهم· صحيح إنهم ظلوا ممسكين بجرائدهم وكتبهم، لكنهم، لعلمي، لم يقرأوا حرفا واحدا منها· تلك السيدة البدينة أعرف لعبتها· جعلت تتظاهر بالنوم ولم تفتح عينا لتنظر إليّ في دهشة ما بعدها شيء· ولكن لو خيروها بين امتلاك العالم وكلماتي لما ترددت في رفض العالم· كل مسافر حول أذنا إلى جهاز عالي الكفاءة لالتقاط تفاصيل حديثي، خاصة أدقها، وحول الأخرى إلى نظام إنذار مبكر لإحباط أي نوايا عدوانية من جانبي ـ كإطلاق طائر عقاب صغير عليهم من تحت سترتي· ''فيل!'' تعجبت العصفورة وفي عينيها بريق استثارة· ''فيل''· ''هذا شيء مدهش· هذا أخاذ تماما''· هزّت رأسها استغرابا وقالت: ''ولكن أليس الفيل ثقيلا بعض الشيء على السرير؟'' ''أي سرير؟ نحن ننام في حفر على الأرض تشبه القبور، لأننا نعتبر النوم شكلا من أشكال الموت· المسألة كلها رمزية كما ترين''· سادتي: انطلت الحيلة· بدت العصفورة وكأنها أمام ثعبان· قالت: ''يا إلهي! لا بد أن نلتقي مرة ثانية· إلى أين ذهابك على أية حال؟'' همست في أذنها: ''إلى برايتون· لماذا لا تأتين معي لأحدثك مزيدا عن السودان· تعالي وانغمسي في السحر والمتعة الصافية''· ''نعم مولاي العاجي!'' همست وحمى الجوى توقد روحها· كانت تجلس قبالتي فجاءت ولاصقتني حتى أحسست بحرارة جسدها· كانت رائحتها مثل رائحة الأشياء الجديدة··· شيء فيها يطمئنك إلى الجودة والدوام· ضحكنا· تعانقنا· تبادلنا القبل ''على عينك يا تاجر'' ونظرنا الي المداخن والحقول والمحطات العابرة··· هي تحت ضوء جديد، وأنا للمرة الأولى· مات الرجال في عربة القطار حسدا، ولا شك في أن كلا منهم تمنى لو انه جاء من تلك البقعة الافريقية التي بقيت عذراء··· التي لم يمسسها منهم بشر· كان مصطفى، في نظري، البطل بين عظماء الأبطال· والواقع إنه هو الذي ابتدع حيلتي حياة الغاب والمأساة الشخصية· مثلك يا مستر مصطفى سعيد، كنت محاربا خرج ليحرر· ولكن، ليس مثلك، اسمي جارياتي بأسمائهن لا بأسماء نسائنا· سوزان لا سوسن· ميريام لا مريم· أيدا لا عايدة· ولو كان اسم العصفورة في يدي اليزابيث، فلن اسميها اليصابات· ''ما اسمك؟'' ـ ''اليزابيث''· ''اسم جميل''· ''شكرا· وما اسمك انت؟'' ''محجوب· وهذا اسم شائع بين الارستقراطيين· نعم، اعترف إنني احدهم رغم إني لا احب ذلك· فعامة الناس تنحو إلى وصفنا بالأوغاد· حسد كما تعلمين''· ''لا غرو فأنت تتحدث الانجليزية بطلاقة عجيبة· أين تعلمتها؟'' ''في الجامعة''· ''هنا في انجلترا؟'' ''في بلادي''· ''لديكم جامعات إذن''· ''القليل''· ''ألديكم سيارات وقطارات؟'' ''وسفن وطائرات أيضا''· ''وسينمات ومسارح؟'' ''وراديو وتلفزيون''· ''مستشفيات؟'' ''مستشفيات وعيادات وأطباء وممرضات ومرضى ومهندسون ومعلمون وطلاب وساسة، يمينيون ويساريون ووسط، سائقو تاكسيات ومشاغبون ولصوص ومحامون ومجانين وفنيون وعاطلون وفنانون وسكارى ···'' أبهجني سير الحوار على هذا النحو إذ كان الخوف على الدوام إن رسم صورة بدائية لبلادي يمكن أن يخيف شقراء العصافير هذه ويجعلها تطير· سألتني: ''وهل يمشي هؤلاء عراة ايضا وينامون في حفر تشبه القبور؟'' لا أخفي عليكم إن السؤال فاجأني· لكن الإجابة لم تكن بعيدة المنال· ''أرضي هي أرض الخيار· من أراد ذلك فلا أحد يمنعه· معظم هؤلاء يفضلون حياة عصرية عادية· لكن وجهة نظري الخاصة جدا هي إن على المرء أن يلتصق بتراثه· والسبب في إنني أرتدي بذلة كاملة واضح بالطبع· تصوري إنني أسير عاريا في شوارع لندن· ها ها ها···'' ''ها ها··'' ''ها··'' ''هل تضايقكم حكومة جنوب افريقيا؟ سمعت إنها لا تحب···'' ''السود؟'' ''نعم''· ''أذلك صحيح؟'' سألتها في نغمة الغرير· ''هذا ما سمعت''· ''عجيب! لأنها سمحت لي بالاحتفاظ بكل أسودي وأفيالي''· ويا سادتي: ''ان كان الأمر قد بدا لي كما حدثتكم عن تلك الرحلة، فليشفع لي إنني لم أتعمد تضليلكم''''· صحيح إن العصفورة علقت على شدة المطر· ولكن أتراني في حاجة إلى القول إن ما تبع هو ما كان سيحدث لولا أنني، لما انتبهت بعد عودتي من رحلة الأماني هذه، وجدتها تغط تقريبا في النوم؟ كدت أوقظها· ولما توقف القطار في إحدى المحطات، فتحت عينيها، لملمت أشياءها بسرعة وخرجت بدون سؤال عن أصلي وفصلي· لا عاج ولا أبنوس· لا ألسنة قرمزية ولا مناخات استوائية· لا شموس قاسية ولا آفاق أرجوانية· لا سحر ولا غموض ولا أكاذيب فادحة ولا أعمال فاضحة· كدت اوقفها، بنت الـ···· لكن ما عنّ لي أوقفني· لا شك انها كانت أجنبية ··· سائحة، كحالي تماما· تبسمت في ارتياح وان شابه ظن قد خاب· على أية حال، كان محتما أن تصعد إلى القطار عصفورة انجليزية ذات أبوين إنجليزيين وتضع الأمور في نصابها الصحيح· وبانتظارها، جلس أخوكم محجوب مثل نمر هرم··· ···ثم طلعت علينا تلك الفتاة ''ذات العينين الخضراوين، والحاجبين النبيلين المقوسين بروعة···''· مصطفى سعيد: بطل الرواية المشار إليها قاص سوداني مقيم في لندن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©