الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أرنست بلوخ أفكار ناصعة حتى اليوم

أرنست بلوخ أفكار ناصعة حتى اليوم
28 يوليو 2008 23:22
''على الفلسفة أن تكون ضمير الغد وانحيازا للمستقبل، كما يتحتم عليها معرفة الأمل وإلا فستفقد كل معرفة''·· هكذا قال الفيلسوف الألماني أرنست بلوخ ، وهكذا كان شعاره في الفكر الفلسفي على عكس ما تتسم به الساحة الفكرية والفلسفية المعاصرة من نزوع تشاؤمي وتشرد فكري وكذلك من عدم وضوح في الرؤية يجر أحيانا إلى حد العدمية القاتمة والقاتلة· لقد تحول كتابه الشهير ''مبدأ الأمل'' إلى شعار سياسي حبذه المفكر ليواجه به قوى القمع والتوحش في أوروبا ويناهض الفاشية التي هيمنت عليها، فبخطابه هذا ناشد بلوخ القارئ الصمود أمام القوى الغاشمة والتشبث بالأمل في مستقبل زاهر تسود فيه الحرية والعدالة والأخوة بين الناس وينتفي فيه الظلم والاستبداد· وأرنست بلوخ هو من مواليد 8 يوليو من عام 1885 في بلدة لودويجشافن الواقعة على نهر الراين، وكان الابن الوحيد لأبيه الموظف في الشركة الألمانية للسكك الحديدية، وكان أبا قاسيا متشددا وصفه فيما بعد ابنه أرنست بأنه كان يجسد، بالمعنى السلبي للكلمة النموذج المثالي للموظف الألماني الذي كان يثابر بشكل طبيعي على عمله، لكن دون أن يكون لديه أي طموح فكري أو فني· وفي عام 1906 قرر ارنست بلوخ فجأة أن يترك ميونيخ كي يسجل نفسه كطالب في جامعة ويزربورج وقد طور في هذه الفترة عدة اطروحات تحدث فيها عن أهمية العوامل السيكولوجية الفردية والاجتماعية ـ السيكولوجية بالنسبة لحقل المعرفة ولكن دون أن ينضوي تماما تحت راية مدرسة سيكيولوجية الفكر التي كان يدافع عنها استاذه الفيلسوف اوزوالد كولب، ثم عرض بلوخ اطروحة أخرى أطلق عليها مفهوم الحاضر المعاش، والتي اعتبرها العديد من النقاد بمثابة التمهيد للفلسفات الوجودية لاحقا وقد طور ارنست بلوخ هذا المفهوم في كتابه الشهير ''مبدأ الأمل'' الذي تمت ترجمته الى اللغة العربية منذ عدة عقود من الزمن· وقام عام 1912 برحلة الى إيطاليا برفقة المفكر الكبير جورج لوكاتش ليعود بعدها الى هايدلبرج في المانيا ويواظب على حضور الحلقات التي كان ينظمها عالم الاجتماع الكبير ماكس ويبر، وما بين عام 1914 وعام 1917 عمل بتأليف كتابه الشهير روح اليوتوبيا، وقد وجد العديد من المعلقين فيه حركة مزدوجة تعبر عن التمرد والأمل، اما التمرد فهو ضد عالم عديم الإنسانية ضحى بعظمة الروح من أجل التجارة والمصالح الأنانية ولروح المنافسة والتعصب الشوفيني هذا اذا لم يكن لـ ''العنكبوت والعقرب السامة'' حسب تعبير بلوخ نفسه والذي حاول أن يصيغ فلسفة للأبد على قاعدة نوع من الرومانسية الثورية· وفي عام 1933 م اضطر بلوخ إلى الهجرة وترك ألمانيا بعد أن استولت النازية على السلطة وشنت حملة قمعية رهيبة ضد السامية والأحزاب اليسارية، وكان بلوخ على قائمة الذين حصل تتبعهم لانتمائه للعنصر السامي وخاصة من أجل نقده للنازية منذ بروزها على السّاحة السياسية في منتصف العشرينات كما يتجلّى ذلك في مقالاته العديدة التي جمعت ونشرت في كتابين بعنوان ''ميراث هذا الزمان'' و'' تقديرات سياسية ، الطاعون وما قبل الثروة '' ، فاستقرّ أولا في براق حيث شارك في تحرير مجلّة ألمانية في المنفى ثمّ هاجر من بعدها إلى الولايات المتحدة سنة 1938 وهناك انكبّ على مشروعه الكبير ''مبدأ الأمل '' وساهم أيضا في تحرير مجلّة ''ألمانيا الحرة''، وهناك لم يكن تماما في مأمن بل قامت سلطات الهجرة بتتبعه من أجل قناعاته السياسية ومواقفه الثورية· وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية عاد بلوخ إلى ألمانيا الشرقية حيث عين أستاذا لتاريخ الفلسفة ومديرا للمعهد الفلسفي بجامعة لايبزيق فيما بين 1949 و،1955 وأصدر في هذه الفترة العديد من الدراسات والأعمال التي أنجزها خلال فترة الحرب غير أنّه أعفي من وظائفه الجامعية حينما بدأ ينقد التوجهات السياسية للنظام الشيوعي القائم هناك، وأجبر من جديد على الهجرة هذه المرّة من شرق ألمانيا إلى غربها حيث واصل التدريس هناك في جامعة ''توبنقن'' إلى حد التقاعد، ورغم الصراعات السياسية والتنافس الإيديولوجي بين القطبين الشرقي والغربي خلال الحرب الباردة، بقي بلوخ وفيا لمبادئه ولم ينزلق وراء التيار السياسي المناهض للشيوعية بل حاول استخلاص العبرة من فشل التطبيق للنموذج الاشتراكي في ألمانيا الشرقية وخيبة الأمل المتعلق به، ولا أدل على ذلك الدرس الذي افتتح به سلسلة الدروس الفلسفية بجامعة ''توبنقن'' والذي يحمل العنوان الرامز: ''هل يمكن للأمل أن يخيب؟ وفي هذا الدرس أعاد بلوخ التأكيد على أسس المشروع الطوباوي وبين أن مبدأ الأمل لا يخشى الخيبة ولا يخذل أمام الفشل، بل إنّ هذا العامل السّلبي يصبح حافزا للتحدّي وتجاوز العقبات، فبدون خيبة يتعطل التقويم وينتفي النقد البناء وتتوقف الحركية الجدلية والتاريخية· إن حياة فيلسوف كبير مثل أرنست بلوخ ملئية بالمحطات الهامة والمثيرة، ولكن لابد لنا أن نتوقف عند محطة مهمة في حياته وتهمنا نحن العرب، وهي رفض بلوخ القاطع ومنذ البداية الانتماء كمفكر يهودي إلى الحركة الصهيونية، فهو عكس العديد من المثقفين اليهود، لم يتعاطف معها ولم يساندها، بل نقدها واعتبرها كارثة ستجعل من فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط موطنا ممزقا يشبه دول البلقان في صراعاتها وتناحرها، وهو ما حصل بالفعل منذ أن تواجد الكيان الصهيوني في المنطقة· وهذا التعاطف مع الشعب الفلسطيني سببه أن أرنست بلوخ قد عرف في حياته مثل الشعب الفلسطيني التشرد والهجرة، ولكنه بقي مثله وفيا للوطن· توفي أرنست بلوخ يوم 4 أغسطس1977م ، وقد حضر جنازته ثلاثة آلاف طالب حاملين مشاعل بأيديهم، متسائلين فيما بينهم ·· ماذا تبقى من فيلسوف الأمل أرنست بلوخ في عصر العولمة والرأسمالية؟؟ ·· ولربما سمعوا صدى صوت بلوخ من بعيد يؤكد لهم أنه مهما تتغير المفاهيم أو يصيبها القدم · لكن الأمل في حياة أفضل سيظل حيا ضاربا بجذوره في الوعي واللاوعي الإنسانيين· مات أرنست بلوخ، ولكن أفكاره لم تزل ناصعة حتى اليوم، وسيظل مبدأ الأمل في مشروعه هو ''العروة الوثقى'' التي تشد الإنسان إلى الوجود وتدفعه في نفس الوقت إلى تحقيق ذاته ضمن هذا الوجود·
المصدر: برلين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©