الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الآخرون

الآخرون
4 أكتوبر 2009 00:43
بثقة مثيرة للاهتمام يجزم الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أنَّ الآخرين هم الجحيم، وببداهة لا تقلُّ عن سابقتها استحاقاً للبحث، تردد والدتي السبعينية مثلاً سائراً، وبالتالي جازماً، حفظته عن والدتها على الأرجح، مفاده أنَّ «الجنَّة من دون ناس لا تُداس». ثمة تناقض جذري إذن بين ما ذهب إليه المفكر الذي امتلك نفوذاً استثنائياً على أبناء عصره، واحتل مكانة طليعية متجاوزة لأقرانه، وبين «حكمة» الوالدة التي اعتبرت نفسها محظوظة، إذ تكرمت عليها الحياة بعطايا متواضعة مكنتها من فك طلاسم الحروف، لكنَّه تناقض مفتوح على تقاطع يفضي إلى تماثل ما، ذلك أنَّ كلتا المقولتين تقترح آلية للتعامل مع العنصر البشري المتراكم على هيئة جمهور كمادة أساسية لصياغة بعدهما الدلالي المستهدف، ناهيك عن كونهما تدركان حدوداً قصوى في مقاربة الظاهرة موضوع البحث، باتخاذهما من الجنة والجحيم عنصري استعارة لتدعيم وجهتي نظرهما.. وهو تناقض يكاد لفرط جذريته أن يحيل إلى تشابه مضمر في سياق الاختلاف. المفارقة تغوي بالخوض في متاهة ثنائية حادة ينطوي طرفها الأول على انحياز للمبدع الذي امتلك عيناً سابرة وعقلاً نافذاً، ومعهما قدرة ذهنية فائقة تبرر له الزعم بامتلاك الأجوبة على الأسئلة الوجودية الكبرى، وسؤال الآخرين في مقدمها، في حين يؤول الطرف الثاني إلى المصادقة على خلاصة تجربة إنسانية لا تجد صاحبتها ضيراً في استنادها إلى عفوية مبالغة في نقائها، بل لعلَّها تجد في تلك البداهة البدائية دليلاً قاطعاً على صوابية الحكم. بين الجحيم الذي يمثلونه، وبين الأنس الذي يجعلهم ضرورة حتى في رحاب الجنة الرحبة، أين يقف الآخرون حقاً؟ ذلك هو السؤال الذي لا يكف عن أن يطرح نفسه علينا، مع كل موقف حياتي نتعرض له، مشككاً، بل هازئاً، من قدراتنا على استنباط الإجابة المقنعة، وحين يتعذر الجواب يغدو التوغل في مزيد من الأسئلة مشروعاً، فلنسأل: إذا سلمنَّا جدلاً أنَّ وجودهم عامل أساسي لا تنجو حتى الجنة من الحاجة إليه، ألا يعني ذلك بالمقابل أنَّ الآخرين يمتلكون من السطوة على مقومات العيش ما يبرر لهم، وربما يحتم عليهم، ممارسة قدر من التسلط على حياة سواهم؟ وبأوضح: ألا تحرضهم وفرتهم العددية وإجماعهم في الرأي، على اختراق المساحات الفردية التي يحلو للبعض تصوينها، وتحويلها مشاعات مستباحة؟ يقتحم الآخرون خلواتنا، يتسللون إلى دواخلنا في أكثر اللحظات خصوصية وحميمية، يقفون بيننا وبين أنفسنا، ولعلَّ أقسى ما في هؤلاء الآخرين أنَّهم نحن من جانب آخر، وأنَّهم لا يصبحون آخرين حقاً إلا بمقدار اغترابنا عن ذواتنا. علي العزير
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©