نهر العاصي يستقبل السياح صيفاً ويبتلع مقاهيهم شتاء

يقال إن نهر العاصي، عصيّ على الدهر والزمن، تناوله العديد من المهتمين والمتابعين لهذا النهر الذي يحمل الواقع المأساوي الذي تعرضت له مياهه من جراء الملوثات البشرية والصناعية، بعدما كانت مياهه تتدفق رقراقة عذبة مع جداول تغطيها الأعشاب المزهوة، وأشجار الصفصاف الخضراء، التي تغنى بها الشعراء بأجمل الأبيات والصور. ولا عجب فإن الباحث والمؤرخ «ملاتيوس جغنون» تغنى بهذا النهر قائلاً: «حيّيت يا عاصي»، حيث تناوله بتوصيف دقيق جغرافياً وتاريخياً وسياحياً وبيئياً. وحمل نهر العاصي خلال تاريخه الطويل، أسماء عدة منها: السيوس، والارند وهي كلمة سريانية، كما أطلق عليه ارنون ويعني اللبوة (أنثى الأسد). أما الاسم الوطني الأصيل الآخر للنهر، فهو ما يطلقه عليه أهل مدينة حمص محلياً (اليماس) وهذه اللفظة أصلها آرامي وتعني إله الماء، ويبقى الاسم العربي المتعارف عليه اليوم العاصي، لأن النهر عصي باتجاه جريانه كل اتجاه بقية الأنهر في سوريا. المنبع والمسار ينبع نهر العاصي من أعالي سهل البقاع في لبنان، وليس له نبع وحيد، بل ثلاث مجموعات من الينابيع أهمها مجموعة ينابيع اللبوة وعين فلكية ورأس بعلبك من سفوح لبنان الشرقية ومجموعة ينابيع عين الزرقا، والشواغير والهرمل من سفوح جبال لبنان الغربية. ومجموعة ينابيع الزراعية قرب جوسيه في شمال البقاع، حيث يدخل بعدها الى الأراضي السورية عند بلدة ربلة، ليبدأ مساره الذي يبلغ طوله 360 كلم قبل أن يدرك أراضي إنطاكية ومنها إلى خليج السويدية على البحر المتوسط، وعلى مقربة من ربلة تقع آثار بلدة جوسيه في موقع يقال إن خلفاء الاسكندر المقدوني اجتمعوا فيه بعد وفاته لاقتسام امبراطوريته، ثم دعاها المسيحيون فيما بعد مدينة موريق، وعلى مقربة منها دير عرف باسم دير باغتل، ودير آخر حديث يحيط بصومعة قديمة مكرّس لمار الياس الحي. إذا اتجهت شمالاً، تستوقفك لافتة تشير إلى محطة لتصفية مياه نهر العاصي، تزود مدينة حماه بمياه الشرب، وهذه المحطة تعمل بطريقة الترقيد والترشيح والتعقيم، فالضخ الى المستهلك، وبالقرب من مدينة القصير تقع محطة القطار القديمة والى الجهة الشمالية – الغربية من القصير، يقع تل «النبي مندو» الذي عرف بموقع مدينة قادش الشهيرة، التي وقعت فيها مواجهة عسكرية تاريخية بين جيوش الفرعون المصري رعمسيس الثاني وجيوش الملك مواتاليس في احد فصول الصراع الأزلي، للسيطرة على سوريا او شرقي المتوسط. بيئة وتلوث التلوث الحراري والكيميائي الذي تحمله المخلفات السائلة التي تصل الى البحيرة من هذه المنشآت، تسبب الأضرار التي ستلحق بالعاصي، وبالبيئة المحيطة به، غير أن الضرر الكبير يأتي من الغازات والسموم بالهواء والبشر والأراضي. وتشكل بحيرة العاصي حوضاً مائياً يستوعب نحو 200 مليون م3 من الماء، وأقيم سد طولة 500 م، وارتفاعه بين 6 و8 م، والغاية من السد زيادة الطاقة الاستيعابية للبحيرة ومنع فيضانها وتنظيم جريان العاصي. وبعيداً عن الشأن الجغرافي لنهر العاصي، تزدهر السياحة على ضفافه، حيث تنتشر المطاعم والمقاهي على ضفافه، الى جانب رياضة التجذيف في المستنقعات الجارفة، واكتسبت المنطقة شهرة لا مثيل لها في موسم الصيف، واقبالاً من قبل السياح والمغتربين والمصطافين، فيضيع الزائر لكثرة اللافتات الإعلانية الكبيرة المرفوعة عند مداخل المطاعم والمقاهي التي يكتظ بها المكان. والفضول يدفع العابرين الى السير باتجاه الطرق العديدة المؤدية الى منطقة المطاعم، فتحتار اي مكان تقصد مع العلم أن بعض من يستقبلك يفاجئك بالقول:»نعتذر.. لا طاولات شاغرة لدينا». وتنتشر المقاهي والمطاعم على ضفاف العاصي، تحيط بها حدائق الحمضيات الخضراء من كل صوب، حتى تكاد تجد نفسك في حضن الطبيعة الرائعة مع خرير الماء اللذيذ بهديره. هذه العناصر مجتمعة تمنح المكان، جواً طبيعياً هادئاً يبحث عنه الكثيرون، لا بل يفضلونه على سواه من المطاعم التي تمتاز بالمساحة والديكور البسيط، فيتصرف الزبون وكأنه في بيته. من الصنارة إلى الطبق يقول أحد أصحاب المطاعم المشهورة بتقديم سمك «الترويت»:» قد يبدأ النجاح بلعبة حظ، لكنه يستمر مع الجهد والصدق في العمل». ويضيف:»بدأت بمشروع صيد صغير يعتمد من جهة على مشروع لتربية سمك «الترويت» داخل بركتين مائيتين، ومن جهة أخرى على استقبال هواة الصيد النهري، ليصطادوا ما يحتاجونه من السمك وبعدما لاقى هذا المشروع إقبالاً كبيراً، فكرت في افتتاح مطعم صغير متخصص بتقديم سمك «الترويت» السومونيه الذي يتم صيده مباشرة من البركة والأحواض». ويتابع:»هناك 72 نوعاً من سمك «الترويت» لكن «الترويت السومونيه» هو أطيب أنواع السمك النهري، شرط أن تتم تربيته بالشكل الصحيح، بالإضافة إلى طريقة طهوه. فالأسماك في نهر العاصي من اجودها، ونهتم بها بطرق خاصة، منها صيام سمك «الترويت» عن الأكل لفترة معينة قبل اصطياده لأن ذلك من شأنه أن يعطي السمكة نكهة طيبة، حتى وإن كانت ستفقد قليلاً من وزنها، فنحن نحرص على المذاق الطيب قبل الهدف التجاري». و»عالصنارة» مطاعم متخصصة بتقديم سمك «الترويت» إلى جانب مقبلات لبنانية، تتوسطها باقة شهية من الخضار الطازجة، ولائحة مأكولات تضم تبولة، فتوش، سلطة روكا والزعتر، متبلات، طاجن حرة، شنكليش، بسترما، بطاطا مقلية، وطبعاً السمك المقلي او المشوي. إلا أن الطامة الكبرى تأتي دائماً ويلات على أصحاب المطاعم والمقاهي في فصل الشتاء، عندما يفيض نهر العاصي ويثأر بمياهه من المراكز السياحية التي لم تتخذ الاحتياطات اللازمة لغضبه، فتبتلع مياهه طاولات وكراسي وديكورات المطاعم والمقاهي وتجرفها سيولاً هادرة، فيصاب أصحاب المطاعم بخسارة فادحة وتختلط أصوات مطالبتهم المسؤولين بالتعويضات مع ثورة نهر العاصي على غضب الطبيعة.