الأربعاء 8 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العَلَم الأميركي والكنيسة

العَلَم الأميركي والكنيسة
29 يوليو 2008 22:23
لقد واصلت على حضوري المنتظم للقداس الكنسي الأسبوعي طوال حياتي، ولم يخل أي قداس حضرته، من وجود للعلم الأميركي، بل كثيراً ما وضع العلم على طاولة العشاء الرباني، التي تعد الأكثر قداسة في الكنيسة كلها، بل هناك من المصلين من تلا ''عهد الولاء'' عدة مرات، ويمكن القول إجمالاً: إن المسيحيين الأميركيين يظهرون ولاءً لحكومة بلادهم شبيهاً بذلك الولاء الذي تبديه ''روث لنعومي''، ولكن دعنا نتساءل: هل هم مطالبون بذلك؟ وهل للعلم الأميركي أو عهد الولاء مكـــان داخل الكنيسة المخصصة للعبادة وليس لأي شيء آخر غيرهـــا؟ وهـــل لإظهـــار القداس الكنسي أي ولاء للجمهورية -وهو ما يرمز إليه العلم الأميركي وكذلك تلاوة عهد الولاء- أي سند في الديانة المسيحيــة، حسبمــا هي واردة في كتـــاب الإنجيـــل؟ أم أن لهـــذه الممارسات علاقة أكثر بالولاء للسلطة السياسية؟ الحقيقة أن المسيحيين ظلوا على امتداد تاريخهم الطويل، في الجانب الخاطئ من الحكم والممارسة السياسية، فقد عذبت الإمبراطورية الرومانية السيد المسيح حتى الموت، ثم لاحقت حوارييه وأصحابه فجرمتهم، ثم جاءت الأنظمة اللاحقة لتواصل النهج نفسه، وكثيراً ما لوحق وسجن وعذّب بل قتل أولئك المتدينون الذين يتمسكون بولائهم للرب وليس للقانون أو السلطة السياسية الحاكمة، ومنـــذ عـــام 33 الميلادي لقي نحـــو 70 مليوناً من المسيحيين حتفهم جراء تدينهم، هذا ما دفـــع الكنيسة إلى حل المشكلة عن طريق الإمساك بزمام السلطة السياسية والدينية معاً· ولكن الذي حدث هو استمرار الفظائع والوحشية نفسيهما· فما نجا من بطش السلطة السياسية الكنسية ناجٍ، إلا بعد رضوخه لما يمليه عليه القابضون على الصولجان عبر الحقب والقرون، وإنه لمن المذهل حقاً، أن تجرّع المتدينون المسيحيون ويلات العذاب والسحل والقتل، على يد إخوتهم الحكام المسيحيين، بالقدر ذاته الذي تجرعوه من الحكام غير المسيحيين، وفي كل العصور والشعوب والأمم، لطالما اضطهد المسيحيون إخوتهم في الرب، تارة بسبب اعترافهم بالبابا، وتارة بسبب رفضهم الاعتراف به، أو بسبب تعميدهم للكبار بدلاً من الصغار المواليد، أو العكس، وهكذا، والمؤسف أن المسيحيين في قمة جهاز السلطة، هم الأسرع في نسيان ''الوصايا العشر'' والقوانين الذهبيـــة للسيد المسيح· وفي اعتقادي أن المشكلة ليست في العقيدة المسيحية بحد ذاتها، وإنما في ارتباطها بالسلطة السياسية، فقد ظلت الكنيسة والسلطة السياسية دائماً في تنافر وتناقض، ذلك أن السلطة السياسية عادة ما ترمز إلى شيء أشبه بـ''القوة المادية'' التي تحني ظهور الناس، وتخضعهم لإرادة الحكومة بصرف النظر عن انتماءاتهم أو مصالحهم أو مستوى حياتهم، وفي المقابل، ترمز العقيدة المسيحية الخالصة إلى قيم المحبة واللين والتسامح، أي إلى نقيض السلطة السياسية تماماً، وكما نعلم فإنه لن يحدث لمتدين مسيحي حق، أن يسعى لقهر الآخرين أو إخضاعهم لنفوذه، فطالما سعى السيد المسيح إلى كسب عقول الناس وقلوبهم بالمحبة والكلمة وبتقديم القدوة والمَثَل في السلوك، ومن فرط حبه للناس حتى أنه ترك لهم أن يحكموا بأنفسهم على صحة تعاليمه· وعليه، فقد كان طبيعياً أن تضطهد الإمبراطورية الرومانية المسيح، وأن تلاحقه وتعذبه حتى الموت باعتباره خصماً لدوداً لها· على أن هذا التنافر بين السلطتين الدينية والسياسية، هو الذي أرغم الآباء المؤسسين لأميركا على القول صراحة: ''على الكونجرس ألا يسن أي تشريع يقضي باحترام أو تحريم أي مؤسسة دينية''، وبهذه العبارة لم يرم الآباء المؤسسون إلى تحصين السلطة السياسية من الكنيسة فحسب -مثلما يفعل علمانيو اليوم- وإنما إلى حماية الكنيسة نفسها من السم الذي يجلبه لها ارتباطها بالسلطة السياسية، وكما نعلم فإن المجتمع الحر لا يزدهر إلا بعائلاته ومدارسه وأسواقه ومؤسسات عبادته، أما في حال تحول العائلة والمدرسة والسوق والمؤسسة الدينية إلى مجرد واجهات خارجية للحكومة، نتيجة لإرغام الأخيرة لهذه المؤسسات جميعها على خدمة الأجندة الحكومية، فعندها لن يكون مصير المجتمع سوى الانزلاق السريع نحو الشمولية والاستبداد، والحال هكذا، فإنها لكارثة أن يتطوع القداس الكنسي الأميركي لدعوة الحكومة والسلطة السياسية للسطو على حرية الكنيسة أو الحد منها اليوم، فهذا لا يحدث عــــــادة إلا حيــــــن يكــــــــون ولاء المصلين للحكومـــة أولاً قبل الرب· مما يثير الحيرة في ذلك القداس، أن ترى عدداً كبيراً من المصلين يباركون الحرب على العراق، على رغم حصدها لأرواح عشرات الآلاف، وتعريضها لحياة الملايين من العراقيين -بمن فيهم الفئة القليلة من المسيحيين الشجعان- إلى خطر يومي عظيم، ولا أزال أتمنى أن أسمع كنيسة أميركية واحدة وهي تصلي من أجل العراقيين، من أجل أن يعينهم الرب ويرفع عنهم ويلات العذاب والفقر والاضطهاد اليومي الذي يعانونه بسبب حرب شنتها بلادنا عليهم، لكن وفي كل يوم أحد ذهبـــت فيه إلى القداس، لم أسمـــع مـــن المصلين الذين يسبــق ولاؤهـــم لأميركا ولاءهم المسيحي، سوى الدعوات والابتهالات بأن يبارك الرب جنودنا في العراق! بيكي إيكرس مؤرخة وكاتبة أميركية تنتمي إلى الكنيسة البروتستانتية ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©