السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فيزياء كاتبة

3 يناير 2008 00:43
ـ قل شيئاً!·· قالت في نفاد صبر· اكتفى بأن هز رأسه اهتزازاً منتظماً، هكذا هم علماء الفيزياء، حياتهم تسير وفق وتيرةٍ معينة، اهتزازة فاهتزازة، سرعاتهم ثابتة في المسافة الواحدة، متغيرة حسب كمية الطاقة، مناهجهم موحدة، إزاحتهم تساوي صفراً! يرون الناس جهلاء، حمقى لا يستحقون الحياة، ''كمالة عدد'' أو زيادة بلا معنى·· الرؤساء منهم تحصلوا على مناصبهم بخطأ بشري في الحسابات! أصحاب النفوذ طاقاتهم منخفضة! والوزراء أرقام سالبة! أما الشعراء والكتاب فطاقتهم لا تكفي لتفكيك الروابط الكيميائية بين جزيئاتهم، لذا يستغلونها عوضاً عن ذلك في كتاباتهم التافهة! وهكذا كان يراها، فعلى الرغم من كونها زوجته لم يشفع لها هذا، في الحقيقة هي لا تعرف لماذا تزوجها إذا كان سيعاملها هكذا، وكأنها غير ذات فائدة أو معنى· فلا شيء تقوله يعد ذا قيمة بالنسبة له، ولا شيء تكتبه يهتم بقراءته، وعندما تسأله الصحافة عن رأيه في كتابات زوجته يهز رأسه اهتزازه المنتظم ذاته، ويكتفي بالقول: ـ لست أقرأ كتاباتها أصلاً!·· يقول كلمة ''كتاباتها'' وكأنما هو يلفظ حشرةً ما من فمه· ـ قل شيئاً!·· عادت تقول في وهن، فهي دائماً تتحدث وتتحدث، تطلب رأيه ومشورته، لكن بلا نتائج، فكل ما يبدو على وجهه هو الجمود، التصلب، واللا شعور· نهضت من مقعدها الوثير وبدأت تصب لنفسها كوباً من عصير البرتقال، تزحزح زوجها في مقعده، وقال بهدوءٍ قاتل: ـ هل علمت أن دراسة الموائع مشتركة بين الفيزياء والكيمياء؟ إذ أن الأسباب التي تجعل من المادة·· ثم سكت فجأة ليعدل من وضع نظاراته على عينيه، وقال: ـ أوه·· ماذا أقول! إنني أحاول شرح مبادئ نظرياتٍ معقدة لمن لا تعرف من أمر العلوم شيئاً· ومن فوره نهض من مقعده واتجه نحو باب المنزل بعدد الخطوات نفسها التي يتجه بها نحوه دائماً، وأدار المفتاح في الباب بهدوءٍ ثقيل يكاد يحطم الصخر· أمسكت الزوجة بكأس العصير في يدها بقوة حتى أوشكت أن تهشمه وشعرت بالغيظ يملؤها، تمنّت لو أنها ألقت كأس العصير عليه وهي تراه ينسحب من البيت بهدوء·· أتزوجها ليفعل بها ذلك؟ ليلقي عليها كل يوم محاضراته العلمية، ويسخر من نجاحاتها الأدبية؟ أم لعله يشعر بالغيرة منها لأنها أكثر شهرة منه·· شعرت بأفكارها تلك تخنقها وهي تتذكر النظرات الفوقية التي يطالعها بها كلما حل لغزاً فيزيائياً جديداً يضيفه لسلسلة نظرياته الفيزيائية· نظرياته! طرقت الفكرة ذهنها وكأنها تسمع بها لأول مرة، وحانت منها التفاتة للمدفأة التي اشتعلت نيرانها متراوحة في ألوانها بين الأزرق والأحمر· في المساء عاد إلى البيت حاملاً في يده بعض الملفات ليودعها حجرة مكتبه هناك، فهو على قناعةٍ تامة من أن زوجته ''صاحبة الرأس الفارغ'' كما يطلق عليها لن تقتحم خصوصيته وتتدخل فيما لا يعنيها، لأنها ـ على حد قوله ـ لا تفهم! أغلق الباب في صمت ولم يقل أي كلمة ولا حتى ''مساء الخير''، وجد زوجته تتأرجح بهدوء على كرسيها الهزاز في حجرة المعيشة حيث تركها، وكانت تحمل دفتراً بيدها تكتب فيه شيئاً ما، لم يكلف نفسه عناء النظر نحوها أساساً، لكنها قالت بهدوء: ـ مساء النور· لم يرد عليها، واتجه رأساً نحو حجرة مكتبه، لكنها وقفت معترضةً طريقه وقالت: ـ ما رأيك بحساءٍ ساخن؟ إن الليلة باردة جداً· طالعها في وجوم وبدا كأنه لم يسمعها من الأساس، فعادت تقول: ـ أتعرف؟ أدهشتني نظريات ماكسويل! إنه لا ريب عبقري بحق· قطب حاجبيه وهو يشعر بالدهشة من معرفتها بماكسويل، وقدر أنها ربما قرأت اسمه بالصدفة على أحد مواقع الإنترنت، أو سمعته يذكر اسمه مرة أمامها· سألها بسخرية: ـ وما شأنك بماكسويل؟ اصطنعت نظرة طفولية على وجهها، وقالت: ـ وكيف لا يكون لي شأن به ياعزيزي؟ أليس هو الذي توصل إلى معادلةٍ بين الكهرباء والمغناطيس؟ ووضح لنا الفعل ورد الفعل؟·· مدهش حقاً كيف يستطيع هؤلاء الفيزيائيون تفسير ما نراه نحن طبيعياً لدرجة لا يمكن معها تفسيره! توقفت لحظة، ثم استطردت: ـ ثم إن ماكسويل زرع بذرةً جديدة باكتشافه لموجاتٍ أخرى غير الضوئية، والتي توصل لها هيرتز فيما بعد· انعقد حاجباه أكثر وهو يفكر في السبب الذي قد يجعل زوجته تهتم بماكسويل فجأة، وقبل أن يسألها انطلقت تقول: ـ أو ليس مدهشاً أن دالتون أنهى دراسته الأولية لنظريته الذرية وهو بعد في الحادية عشرة؟ وعلى الرغم أنه عالم فيزيائي أيضاً إلا أن الحديث عنه يكثر في أوساط العلماء الكيميائيين أكثر منه في أوساط الفيزيائيين·· صمتت للحظة، ثم قالت بحبور مصطنع: ـ وكلنا يعرف آينشتاين كعالمٍ فيزيائي فذ، لكن لا أحد يعلم رفضه تولي منصب الرئاسة في إسرائيل وتقديمه عرضاً في بنود عدة للتعايش بين الخصمين: العرب واليهود·· ثم ابتسمت في مكر وقالت: ـ لا أحد يعرف غير أولئك الفيزيائيين المولعين بتفاصيل حياته·· تأملته لحظة، ثم أردفت: ـ ونظرياته·· هنا كان قد تذكر شيئاً فسأل بسرعة: ـ لحظةً من فضلك·· من أين عرفت بكل هذا؟ سأل وقد لاحظ شيئاً: إن أولئك العلماء الثلاثة الذين ذكرتهم، هم الذين يدرس نظرياتهم الآن بالتفصيل وقد وضع على أساسها نظريته الجديدة· قبل أن تجيب، قال بعينين متسعتين: ـ أنت لم تدخلي مكتبي! أليس كذلك؟·· قالها، والتفت بسرعة نحو حجرة مكتبه ليجد بابها مفتوحاً على مصراعيه· اندفع نحوها وطفق يبحث بين أوراقه عن شيءٍ ما·· كان يبحث في عصبيةٍ ظاهرة حتى اختلطت كل أوراقه وملفاته ببعضها بعضاً· ـ اهدأ يا عزيزي! إن الفيزياء تعلم الإنسان التأمل والهدوء!·· قالت ذلك بخبثٍ، وقد وقفت بباب مكتبه تطالعه برضا وهو يبحث في حيرةٍ وضياع، وعادت تقول باستمتاع: ـ مدهش حقاً، كيف أن·· حتى الفيزيائيين بحاجةٍ لكتابة نظرياتهم على الورق! قالتها على حين التمعت عيناها وهي تطالع لهيب المدفأة التي اشتعلت نيرانها مخلفةً رماداً أسود للأوراق التي أحرقت هناك·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©