الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مفارقات الرجل والمرأة

مفارقات الرجل والمرأة
30 يوليو 2008 23:36
يختلف التفكير الشعري عن المنطق العادي المألوف في قدراته على رصد مفارقات الحياة، وحلّ التناقض الظاهري فيها، مما يلفت الإنسان إلى جذر الحقائق الذي يجلوه الحدس الفني كاشفًا عن تناغمه الجوهري بالرغم من اختلاف الظواهر· فهذا شاعر عباسىّ يسمى ''الحارثي'' يكشف عن جمع الحسان بين الأضداد فى نَفَس واحد، قائلاً: تعطلن إلا من محاسن أوجهٍ فهن حوالٍ في الصفات عواطلُ كواسٍ عوارٍ، صامتات نواطق بعض الحديث، باخلات بواذلُ برزن عفافًا، واحتجبن تستُّرًا وشيب بقول الحق منهن باطلُ فذو الحلم مرتاب، وذو الجهل طامع وهنّ عن الفحشاء حيدٌ نواكل فكل واحدة من هؤلاء النسوة تجمع بين الأضاد التالية: عاطل/ حالية، كاسية/ عارية، صامتة/ ناطقة، باخلة/ باذلة، بارزة/ محجبة، قائلة الحق/ الباطل، وهن في جميع الحالات يحيّرن الحليم، ويطمعن الجاهل، لكنهن بعيدات عن الفحش بريئات من المنكر· وقد ابتكر المناطقة حيلة للجمع الممكن بين الأضداد هي اختلاف الجهة، وهي التي على أساسها يتم تأويل القارئ تلقائيًّا لهذه المعاني والارتياح إلى صحتها وجمالها، فهي عاطلة عن الحليّ لأنها تستغني بحسنها الطبيعي عن الزينة، ومن ثم تسمّى في العربية غانية، وهي كاسية في الظاهر لكن مفاتنها واضحة كأنها عارية، وهي صامتة لا تنطق إلا بعفّ الحديث مما يغنيها عن الثرثرة، وهي باخلة بما يمسّ شرفها مانحة لغير ذلك· وهى سافرة بخلالها الكريمة ساترة لعيوبها، ولا يخلو كلامها الحقيقي من بعض الباطل المحبب، مما يترك العاقل مرتابًا والجاهل طامعًا ويبعدها عن كل فحش وسوء· وهناك بعض الشعراء لا يعفون أنفسهم من هذا التناقض الظاهري، بل يعترفون به ببساطة مثل الشاعر الذي يقول عن نفسه: أديمُ الطرف ما غفلتْ إليها وإن نظرتْ نظرتُ إلى سواها أغار من النساء يرين منها محاسن لا يُرَينَ ولا أراها وإن غصبت عليّ غصبتُ معها على نفسي، ويرضيني رضاها وما غضبي على نفسي بجرم ولكني أميل إلى هواها فهذا محب مراوغ، لا عن خبث وخديعة، ولكن عن فطرة بريئة ونفس طيبة مسالمة، فهو يقتنص غفلة صاحبته ليتملى بالنظر إليها، فإن التفتت إليه تظاهر بالنظر إلى غيرها، وهو يشعر بالغيرة عليها لا من الرجال كما هو الأمر الطبيعي ولكن من النساء اللائي يطّلعن على أسرارها التي لا ترى ولا يتمكن هو من معرفتها· وإن غضبت عليه ارتاع وغضب على نفسه دون ذنب أو جرم جناه، ولكنه يشايعها في الرضى والسخط ولو كان على نفسه· ولعل تناقضات المحب هنا أخف وطأة من تناقضات المحبوب؛ لأنه يعبر عن عاطفة متماسكة قوية مصابة بالولع، ثم يصور هذا الولع بشيء من الطفولة التي يحلو للشعراء دائمًا أن يرتدوا إليها وينعموا ببراءتها·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©