الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العادي يصادر الدهشة ويقصي المفاجأة

العادي يصادر الدهشة ويقصي المفاجأة
30 يوليو 2008 23:40
تأتي رواية ''أوكي مع السلامة''، وهي الأحدث صدورا، للكاتب اللبناني رشيد الضعيف، منسجمة مع أعماله السابقة، خاصة الأخيرة منها، مثل ''عودة الألماني إلى رشده''، و''تصطفل ميريل ستريب''، و''ليرننيغ إنجليش''، لجهة الخروج المدروس عن النمط المألوف للأعمال الروائية، حيث لا وجود لحبكة تقليدية، ولا لتطور مدروس للشخصيات، كما يغيب عنها عنصر المفاجأة الذي ينتظره قراء الروايات عادة· لم يكتف المؤلف بهذا القدر من التباين المقصود مع النسق الروائي المتعارف عليه، بل ذهب إلى ما هو أبعد، عندما اختار كاتبا بطلا لروايته أي مكافئا له في المهنة، ليغدو منجزه أقرب إلى المذكرات اليومية التي يستعين بها المرء عادة على تمرير الوقت، دون أن يكون في التفاصيل المروية ما يحقق عنصر الإدهاش المتلازم عادة مع الفعل الإبداعي· غرابة العادي قد يكفي الإستناد إلى هذا التوصيف للإستنتاج أن الضعيف تعمّد، مرة أخرى، تقديم عمل حكائي قائم على العادي والمألوف إلى درجة المبالغة، لعله يسعى للقول بين سطور رواياته أنّ الواقع ينطوي في ذاته على قدر كاف من الغرابة، وهو لا يحتاج بالتالي إلى إعمال المخيلة الروائية لتوليد الأحداث وتوليف المواقف· من المؤكد أنّ الكاتب يسعى إلى ممارسة فعل الإختلاف مع السائد، وهذا حق من حقوقه، بل ربما هي إحدى موجبات السعي إلى التمايز، لكن الإغراق في العادية لا يملك بالضرورة وعدا بالإرتقاء إلى مستوى محاولة لإرساء قواعد جديدة للرواية، بقدر ما يتيح الاستكانة إلى فكرة ملحة تهيمن على المتابع لأعمال الكاتب، مفادها أن رشيد الضعيف يبدي حرصا على ترسيخ حضوره، وتأمين ديمومته في المشهد الروائي اعتمادا على الروتين والعادة وحدهما، وذلك عبر رفد هذا المشهد دوريا بعمل سردي متجدد، دون أن يكون العمل مطالبا، وبالتالي مبررا، بتقديم إضافة نوعية مثرية سواء في سياق الكم الروائي المنجز، أو حتى على مستوى تطور المسيرة الإبداعية للكاتب نفسه· إذا أضفنا إلى ماسبق واقعة استدعاء الكاتب لأحداث وشخصيات واقعية، وتضمينها في سياق بنيته السردية، تحّول العمل بين أيدينا إلى نتاج وثائقي متطرف في حياديته، حيث نقع على إستشهاد بالمقدم التلفزيوني زاهي وهبي، وعلى حوار بين الكاتب البطل وبين المفكر الراحل هشام شرابي الذي دعاه لتعلم اللغة الإنكليزية، ولو متأخرا، كذلك فعل أستاذ الأدب المقارن في إحدى الجامعات الألمانية أسعد خير الله· هذه المبالغة في وقعنة ملامح الشخصيات لا تبدو مساعدة على تحريض الطاقة التخيلية لدى القارىء، وهي أحد الاستهدافات المحورية في الاستراتيجية الروائية عادة· البدء من الخاتمة يبدأ الكاتب روايته من النهايات، نهاية علاقة جمعت البطل بإمرأة مطلقة عاشت الجزء الأكبر من حياتها في أميركا، ونهاية الروابط العائلية التي تصله بأسرته بعد أن كبر الأبناء وتفرقوا، واتجهت الأم نحو الجزء الأخير من عمرها، ناهيك عن حياة البطل الستيني التي شارفت على نهايتها، حيث صار القادم من العمر أقل من المنقضي، والنهاية عادة هي إحدى السمات المألوفة لإنطلاق العمل الروائي، فالكاتب يبدأ روايته بعد أن يكون قد إنتهى من رسم خطوطها العريضة، ووضع الشخصيات المكونة على طريق الفعل الدرامي المنتج· يدخل الراوي في إطار الفلاش باك محافظا عليه حتى السطر الأخير من روايته، يستعيد احداثا يومية معلقا على تداعياتها الذاتية وراصدا آثارها فوق النفس، ومقيما حالة من المواءمة بين التفاصيل المعاشة وبين المستجدات السياسية والأمنية التي يضج بها الواقع، يتصنع إقصاء للحدث السياسي وخروجا من إطار تلقي مفاعيله، في الوقت الذي يمنحه حضورا فاعلا وصلة بالغة التأثير على نظرة البطل إلى نفسه وإلى الآخرين، قد يمثّل هذا التناقض المقصود الحجر الأبرز في عمارة الضعيف الروائية، حيث يبرع في تأطير ما يرغب في الإشارة إليه من باب إصطناع التجاهل والتغاضي حياله، أي أنه يضعنا ببساطة أمام حالة نزوع إلى الإثبات من مدخل النفي· العجز اللغوي مجددا تبدو اللغة الإنكليزية عنصرا راسخ الحضور في الهاجس الروائي الذي يحرك رشيد الضعيف، بطله يعشق إمرأة لبنانية عاشت الجزء الأكبر من حياتها في أميركا، وبالرغم من أن العلاقة العاطفية تبدأ من إعجابها بمحاضرة للكاتب صاغها باللغة العربية، إلا أنّه سرعان ما تبين لطرفي الصلة أن الإنكليزية معبر إلزامي في مسار التواصل بينهما· تبدو معاناة البطل واضحة في عجزه عن بلوغ النشوة اللغوية، التواصل يبقى قاصرا، وثمة مفردات كثيرة وضرورية تظّل خارج إطار التداول· في النهاية، التي يبدأ منها الكاتب روايته، تقرر هامة الإفتراق عن شريكها، الذي لايجد ما يرد به على قرارها المفاجىء، سوى التعبير التقليدي المحايد حتى الوجع: ''أوكي مع السلامة''· ينجح الكاتب في الإيحاء لقارئه أنّ مفاجأة ما تنتظره في أحد منعطفات السطور، لكنّ الخاتمة تحيله إلى قدر وافر من خيبة الأمل، فالأحداث تغلق أبوابها على ما كانت قد بدأت به، والمواقف الروائية يجري إختزالها إلى مجرد مونولوغ يطغي عليه طابع أقرب إلى الهذيان المنظم، قد تجد هذه الإشكالية محاولة لتفسيرها على ضوء الفكرة القائلة أنّ الروائي الناجح هو الذي يموه العبء السردي لمنجزه خلف نسيج من رشاقة اللغة، وإنسيابيتها، لكنّ رشيد الضعيف في ''أوكي مع السلامة'' يبالغ في التخفف من تلك الأعباء حتى تنتفي ضرورة تمويهها أصلا·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©