الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إيمان مالكي ساحر إيراني ينافس بريشته تكنولوجيا الكاميرا

إيمان مالكي ساحر إيراني ينافس بريشته تكنولوجيا الكاميرا
30 يوليو 2008 23:42
''ملاحظة توضيحية'' كان أول ما قرأته عن الفنان الايراني إيمان مالكي عندما أرسل لي أحد الأصدقاء منذ أشهر، بريدا الكترونيا تضمن عددا من لوحاته، وكانت تقول الملاحظة التي تشيد بعبقرية الفنان: ''يجب أن أنبهك أن اللوحات التالية رسمت باليد وليست تصويرا فوتوغرافيا''!، نظرت للوحات فأصابني الذهول ورحت أجول في متاهات الشبكة الالكترونية في بحث مضن حول هذا الفنان الذي لم أعثر له إلا على موقع الكتروني شخصي بالإنجليزية والفارسية، لكنه لا يحكي سوى أسطر معدودة حول حياته وتخصصه ودراسته، تاركا كل شيء للوحاته الغنية التي كانت قادرة بالفعل على النطق بكل طلاقة· على المعبر الآخر وجدت عشرات مواقع المنتديات العربية التي يتبادل فيها الشباب لوحات مالكي بالآلية البسيطة نفسها دون محاولة التعمق في أسلوبه بشكل نقدي، اللهم إلا من موقعين أو ثلاثة كان أحدها لمجموعة من الشعراء الشباب العرب الذين اختاروا له لوحة عنوانها ''ذاكرة هذا البيت''، ونسجوا عليها بالتوالي مقاطع شعرية من وحيها وموقع أخذ على الفنان تأثره بالصورة الفوتوغرافية، ثم عثرت على ملحق لصحيفة عربية كتب فيه أحد النقاد (الدكاترة) مقالة صغيرة عن الفنان بدأها بعنوان مضحك مبكي قال فيه: ''أيمن مالكي يعيد البهاء للواقعية في الرسم''، ثم تبعه بعنوان عريض يقول: ''ابتعاث رامبراندت وديلاكروا''! فأضحكني ذلك الجهل الفاضح، كيف؟ ولماذا؟ الإجابة في الفسحة التالية· من هو أيمن مالكي؟ كما أسلفت لا توجد معلومات وافية عن هذا الفنان، سوى أنه فنان ايراني شاب من أبناء هذا العصر، فكان سبيلي الوحيد هو الامعان في لوحاته وقراءتها قراءة متأنية، خلصت منها إلى أنه فنان شعبي بسيط، واستثنائي مجد ومجتهد في الوقت ذاته؟ فلوحاته مفعمة بشخوص المجتمع الايراني البسيط، والوجوه التي يرسمها نعرفها، نكاد نلمس ألمها وبوحها وجدران فقرها، ونكاد نعايش حالها وواقعها، جوعها وعوزها وآمالها وأفراحها الصغيرة· إيمان مالكي هو ابن تلك الوجوه التي رسمها ويرسمها يوما بعد يوم، وهو ابن البيئة الحميمة التي ننتمي إليها جميعا، وهو يشكل إحدى خلاصات نتاج حضارة شرقية شملتنا بظلالها منذ آلاف السنين، وهو ابن هذا العصر الذي يقدم لنا الحداثة والعولمة بيد، ويشدنا للوراء باليد الأخرى، هو ابن المجتمع الإيراني المفطور على البساطة، والبساطة وليس أي شيء آخر، ففي لوحاته لا نجد أثرا لوجاهة الإرث الامبراطوري الثقيل الذي أطيح به أول الثمانينات، ولا تراكمات عباءة الملالي التي صعدت منذ ذلك الانهيار ذاته، بل نجد الوجوه الايرانية الشرقية البسيطة التي تقاسمنا معها السماء والبحر والخبز والفاكهة والموسيقى الشعبية والعمارة والزخرفة التقليدية القديمة، تلك الوجوه التي هي مرآة لنا أيضا في أحد وجوهها· يمتلك مالكي شأنه كشأن كل معاصريه من الفنانين الشباب أدواته الفنية القوية التي جذبته على نحو واضح للاتجاه المثالي للواقعية الكلاسيكية الصارمة، والراسخة قبل اختراع الكاميرا، بل إنه يبرع في الرسم إلى حد إمكانية مقارنة أعماله ومضاهاتها بالصور الفوتوغرافية، نظرا لاهتمامه الشديد بأدق وأصغر التفاصيل، عبر روح ذات حساسية عالية بالضوء، لا تذكرنا فعليا إلا بعبقرية رامبرانت في رسم النور والاحتفاء به، وهذا استذكار مشروع ومنطقي ومبرر، أما أن يتم ربط هذا الفنان بديلاكروا فهو أمر مسيء ومعيب في حقنا قبل حق مالكي، ذلك أن ديلاكروا لم يكن سوى أحد وجوه الاستشراق الاستعماري الذي ما فتئ يسيء إلينا حتى اليوم، بدليل أن سياح العولمة الغربيين الذين يزورون القاهرة للمرة الأولى، يتوقعون مصادفة الجمال والهوادج وحريم الحرملك فور مغادرتهم لبوابة مطار القاهرة بفضل إرث لوحات السيد ديلاكروا!· وبإيجاز شديد أقول إن إيمان مالكي فنان ونموذج أكثر أصالة من ديلاكروا وأشباهه ومستنسخاته، فهو ابن هذا الشرق نفسه ولاحاجة به للاستشرق الزائف المضلل· أما من يعيب على مالكي استنجاده بعالم وأدوات التصوير الفوتوغرافي بزعم أنه يسجل الواقع كما هو فلا يضيف له شيئا، فهذا أمر فيه تفصيل كثير، أوجزه في أنه لولا فضل اختراع الكاميرا، لكان الرسامون لا يزالون قابعين في أطراف الغابات حتى اليوم ليرسموا المناظر الطبيعية والحياة الصامتة، فالحق أن ظهور الصورة الفوتوغرافية كان الحافز الحقيقي للفنانين التشكيليين للانطلاق نحو المستقبل للتجديد والإبداع والمغايرة والتحرك، فولدت بذلك كل المدارس الفنية الحديثة التي أثرت التشكيل الفني المعاصر، ولا بأس من اقتباس بسيط للإنجليزي ''هنري فوكس تالبوت'' أحد آباء اختراع التصوير الفوتوغرافي الذي يقول: ''التصوير الضوئي هو الطريق الملكي إلى الرسم''· كيف يرسم مالكي؟ سؤال تجيب عليه لوحاته نفسها أكثر من أي شيء آخر، ففي لوحة يتركها الفنان بدون عنوان، يرسم طفلة تنظر إلى طفولة نائمة في حضن أمها، في حين تهرب نظرات الأم في اتجاه محايد يحير المشاهد: فهل هي تنظر للماضي أم أنها تسرح في المستقبل؟ وهكذا يشرك مالكي متلقيه في قراءة اللوحة بعفوية· أما في لوحة ''فأل حافظ'' فيحيلنا الفنان لظاهرة خاصة بالمجتمع الفارسي، حيث لا يكاد يخلو بيت إيراني من ديوان الشاعر الشهير حافظ الشيرازي، فوفقا لتقاليد قديمة، يأخذ الإيرانيون طالعهم من الديوان، حيث يقوم الشخص المتقدم في السن أو من عرف عنه صفاء النية بفتح عشوائي لصفحة من ديوان حافظ، ثم يقرأ الشعر الموجود بصوت مرتفع ويقوم بتفسيره مع محاولة لأخذ إشارات من الشعر بشأن نية صاحب الفأل!· وفي لوحة ''شقيقتان وكتاب'' نرى حالة جميلة وبسيطة لتأمل مركب، فالأخت الكبرى تقرأ متأملة، بينما تنشغل الصغرى بتأمل فعل قراءة أختها نفسها وما يكتنف ذلك من غموض تحاول النفاذ إليه· في حين تبدو لوحة ''منشر الملابس'' لوحة عادية للوهلة الأولى رغم المجهود الكبير الذي يبذله الفنان لرسم ثنيات الألبسة وخطوطها والملمس المختلف ما بين أطراف القماش المرنة وباقي سطح النسيج العادي، وقبل هذا كله ذلك الإحساس غير العادي بهيئة الرطوبة· أما في لوحة ''ذاكرة هذا البيت'' وهي أكثر لوحات مالكي فتنة للشعراء الإيرانيين والعرب، نجد مشهدية أخاذة لفتاة غارقة باستسلام في عالم الكتابة، لدرجة أن العصافير البرية الصغيرة المعروفة بحذرها الجم، لا تكاد تشعر بوجودها أو حركتها، فتحط بالقرب منها لتلتقط فتات الأرض وهي مطمئنة، ناهيك عن البراعة في رسم بقع ومساقط ضوء الشمس على الجدران والأرض· في حين يستعرض الفنان كل موهبته في لوحة ''فتاة أمام النافذة'' ليرسم بدقة وبراعة فائقة الدرجات المختلفة لدفء الاضاءة المنعكسة من الخارج، ودرجات سطوعها المختلفة على وجه ويد الفتاة ولباسها بشكل خاص، والجدار والستارة بشكل عام· وفي لوحة أخرى بلا عنوان أيضا، يترك فيها مالكي مطلق الحرية لخيال المتلقي في تحديد موضوع اللوحة، من مثل إن كانت الفتاة الواقفة الحاملة للطفل على سطح المنزل، أما أو أختا للطفل، مركزا كل اهتمامه على البراعة في رسم الملابس وليس المشهد الذي يتم النظر إليه في الشارع، حيث يمكن ملاحظة التعقيد الواضح للباس الطفل البرتقالي ووشاح الفتاة الأبيض ومعطفها البني الداكن، ما يعكس بوضوح التباين اللوني العال التركيز في اللوحة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©