الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما تصبح صعقة الحب علاجاً صعباً

عندما تصبح صعقة الحب علاجاً صعباً
30 يوليو 2008 23:42
فيلم ''جنون'' من إخراج فاضل الجعايبي، هو في الأصل مسرحية للمخرج نفسه عن كتاب: ''يوميات خطاب عصامي'' الصادر باللغة الفرنسية، للطبيبة ناجية الزمني، وسبق أن تمّ عرض المسرحية في المهرجان الفرنسي بمدينة افنيون، في دورته الخامسة والستين، وكانت أوّل مسرحية عربية تعرض في البرنامج الرسمي للمهرجان منذ تأسيسه، وذكر شهود عيان حضروا العروض الخمسة للمسرحية أنّ الجمهور الفرنسي وقف مصفقاً أكثر من خمس دقائق بلا انقطاع تحية منه للمسرحية في خاتمة كل عرض· وقد أشادت كبريات الصحف الفرنسية، مثل ''لوموند'' و''الفيغارو'' و''ليبيراسيون'' بالعمل الفني للمخرج التونسي· وهناك إجماع في تونس على القول إن تجربة الجعايبي المسرحية، هي الأكثر حداثة وطلائعية، سواء في مستوى مقولاتها الجمالية، أو خطابها الثقافي والفكري التقدمي· وتمّ تحويل المسرحية إلى فيلم يروي لقاء بين أخصائية في العلاج النفسي، وشاب اسمه ''نون''، وهو منحرف، وأميٌّ، ومصاب بالانفصام، والانفصام مرض ذهني يتمثل في انشطار الذات وفقدان المريض للواقع مع انطوائه على ذاته· فالبطل عمره 25 عاماً، عاطل عن العمل، غادر مقاعد الدراسة منذ أن كان عمره 12 عاماً، ودخل الإصلاحية (سجن الأطفال) منذ أن بلغ الخامسة عشرة، ودخل سجن الكبار منذ أن بلغ السابعة عشرة، وانتهى في مستشفى المجانيبن ولم يبلغ الرابعة والعشرين· والشريط قد يصدم المشاهد لأنه يريه عالماً غريباً، هو عالم المرضى النفسانيين، ويعري مشاكل الفقر والانحراف وغياب القيم المرجعية والفكرية، فالأحداث تجذب دائماً نحو الأسفل، نحو الغرق، وعالم المريض بالانفصام كما يظهر في الفيلم، عالم غريب شديد الخصوصية، عالم محتقر، ومطموس وموضع لرفض متعدد الأسباب، على حد تعبير جليلة بكار نفسها· الصور المألوفة ينتمي بطل الفيلم ''نون'' إلى عائلة فقيرة، كثيرة المشاكل، وهو بصفته مريضاً، وبفضل هذيانه يكشف للمتفرج دلالاتٍ كثيرةً حول الحياة، والحرية، والعائلة· وتؤكد جليلة بكار، التي اقتبست النص، وقامت بدور الطبيبة في كلّ من المسرحية والفيلم، أن ما جذبها في النص والشخصية هو حالة الشاب ''نون''، فهو يقاوم، ومشدود إلى نداء الحياة، وبذلك يصبح شخصاً جذاباً ومثيراً للإعجاب· وهذا فعلاً ما يكتشفه المشاهد للفيلم، إذ يرى شاباً سلخته الحياة بلا رحمة، يسقط في الجريمة، ويحاول رغم ذلك أن يلملم أشلاء نفسه الممزقة بفضل امرأة هي طبيبته، والطبيبة كما جاء في التعريف بها، هي ''من آخر حلقات الطوبائيين''· ويقول الناقد المسرحي والأكاديمي عبدالجليل المسعودي، إن النص يقودنا إلى مكاشفة عالم الجنون، والانحراف النفسي، بعيداً عن إعادة إنتاج الأحكام المسبقة، والصور المألوفة، والمعاني المستلهمة، من خلال علاقة طبيبة نفسية بمريضها الفصامي· وتشاطره جليلة بكار الرأي عندما تجزم بـ: ''إن الشيء الذي يحفزها أكثر ويشدها بقوة عند هذا المريض، هو قدرته على أن يكون في المدار الإنساني بفضل أو بالرغم من انحرافه الذهني وهذيانه··· وأن حديثه المتعدد الدلالات حول الحياة، والموت، والعائلة، والسلطة، والمسؤولية، والحرية، هو في الحقيقة كلام يتنزّل في صميم الجوهر الفلسفي كلام: مسكون بالمفارقة، بعيداً عن الابتذال، والموضع الجماعي المرتبط عادة بهؤلاء الذين لا حق لهم إلا في الكلام المستلب بعد أن يتم منعه ومصادرته طويلاً''· أما الطبيبة ناجية الزمني صاحبة الكتاب الأصلي الصادر باللغة الفرنسية وعنوانه ''يوميات خطاب فصامي''، فهي تعلن أنها تشعر لأسباب غامضة تعرفها، بأن هذا المريض متفرد ومختلف، وأنّ شيئاً ما في داخله قابل للإنقاذ''، مضيفة: ''هذا الشعور القوي الطارئ موسوم بخاتم حاجة عمياء، لها طعم التمرد والغيظ، طعم غامض للشعور بالظلم، هذا الشعور الذي أسميته بعد فترة طويلة ''صعقة حب علاجية''· التأثيرات الاجتماعية يلاحظ المتفرج أن المتحركين في الفيلم هم أشخاص ينتمون إلى عائلة واحدة، فهناك الأم التي يعتريها الشك في طريقة معالجة الطبيبة لابنها، أما شقيق ''نون''، فهو مروج مخدرات، ووسيط عهر يدفع بأخواته إلى البغاء، وهو ''يغذي كرهاً لأخيه المريض، مساهماً بذلك في تعميق سقوطه في عالم الجريمة والجنون''· والفيلم هو عبارة عن رحلة علاجية ووجودية للمريض وطبيبته، والسؤال الذي يطرحه المتفرج وهو يتابع الأحداث: ''هل ستنجح الطبيبة النفسية في إعادة تركيب شخصية المريض المدمرة لتحقق المصالحة بينه وبين الحية؟''· والحقيقة أن فاضل الجعايبي توفق في تصوير حالة الفرد تحت وطأة التاثيرات الاجتماعية، ورغم سوداوية المناخ الإنساني والاجتماعي في الشريط، إلا أن الجعايبي يؤكد أنه ينظر في أعماله المسرحية والسينمائية بصدق إلى الواقع، نافياً ما يقال عنه من انبتات وقطيعة مع المجتمع التونسي· بين المسرح والسينما ''جنون'' الذي حصد لحد الآن العديد من الجوائز من بينها جائزة الجمهور بمهرجان نانت ،2007 ليس فيلماً ممسرحاً، وليس مسرحاً مصوراً للسينما· ويعترف محمد علي بن جمعة الذي يؤدي دور ''نون'' بأن الفيلم يقترب في أداء الممثلين فيه من الأداء المسرحي، مضيفاً أنه أسلوب موجود ومعمول به في العالم· وليست هذه أول تجربة للفضل الجعايبي في تحويل مسرحية من إخراجه إلى فيلم، فقد سبق أن أخرج منذ عديد سنوات عديدة فيلم ''العرس''، ومسرحية ''عرب'' واليوم فيلم ''جنون''، وكل هذه الأفلام تدور في فضاءات مغلقة، فالعرس تم تصويره كله في شقة قديمة بالمدينة العتيقة لتونس العاصمة، و''عرب'' تم تصويره في كنيسة، وفيلم ''جنون'' تدور أحداثه في مستشفى للأمراض النفسية، وتم تصويره في بناية لم تكتمل، وهي البناية التي كانت ستحتضن مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية لو بقيت الجامعة في تونس، ثم تحولت البناية اليوم بعد انتهاء الأشغال إلى مقر للتلفزيون التونسي·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©