الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكاية القرية القابعة على حافة العالم في الطريق إلى سانتا ماريا

حكاية القرية القابعة على حافة العالم في الطريق إلى سانتا ماريا
7 أكتوبر 2009 00:29
عندما أوقف ذلك الشرطي الحدودي حافلتنا الصغيرة تلك المكتظة بالركاب، في نقطة التفتيش في وسط غابات بوليفيا، وطلب جواز سفري، كنت أنا الشخص الغريب الوحيد في ذلك المكان، بقية الركاب من المواطنين البسطاء. سألني الشرطي بعد أن فتح على صفحة ألصقت بها تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة الأميركية، إن كنت أميركياً رغم أن جواز سفري بيده، أخاله لا يعرف الإنجليزية، ولا أي لغة أخرى سوى لهجته المحلية.. احتار من أين أكون فلم يسمع قط باسم بلادي، بل إنه لم يعرف كيف يقرأه وإن كان مكتوباً بالإنجليزية، ولم ألمه فهو يقضي طوال يومه في هذه النقطة، في تلك الغابة التي تحيط بها غابات ومرتفعات أخرى.. غير أنه كان لطيفاً، وهو يرحب بي في بلاده وإن كان قد استغرب وجودي في هذه الأنحاء، وزادت دهشته عندما أخبرته أنني قادم من بلدة سانتا ماريا. فتلك قرية صغيرة نائية تقع في وسط الغابات، واستغرب ماذا يمكن لرجل غريب أن يفعل هناك، بل وساورته الشكوك في أهدافي ودوافعي.. فشرحت له بخليط من الإسبانية والإنجليزية، أنني في زيارة لصديق قديم يدعى الفونسو تيرير، وهو ضابط متقاعد يملك مزرعة في تلك القرية النائية ويعيش فيها.. ويبدو أنه اعتقد أنني زميل سلاح، وأنني ضابط أيضاً فرفع يده بتحية عسكرية، وهو يطلب مني التفضل بركوب الحافلة.. قصة طريفة الواقع أن لبلدة سانتا ماريا قصة طريفة، فبعد رحلة طويلة مضنية إلى تلك البلدة البائسة، تمكنت من الوصول إلى منزل ألفونسو الذي كان يفترض أن يأخذني إلى موقع بين الجبال الجنوبية، يعتقد كثير من الأهالي، كما يقول ألفونسو، إنه موقع بلدة تاريخية قديمة، ويمكن أن نجد فيه دلائل على وجود مدينة ملعونة تعود لإحدى الحضارات البائدة.. أخذني ألفونسو إلى حديقته الخلفية وهي تفضي إلى مزرعته التي يزرع فيها القهوة وبعض الفواكه، وتوجد فيها أيضاً أشجار جوز الهند التي أصر على أن نتناول عصيرها الطبيعي، فهو يقول إنَّه غني بالطاقة التي لا غنى عنها لأي رجل.. تجارب العيش ألفونسو هذا طريف لطيف، عجنته السنين بخبرات مختلفة وعلمته الحياة أشياء كثيرة، كما يقول، في تجاعيد وجهه تستطيع أن تلمح ذكاء وفراسة حادين، على رغم تقدم العمر، عيناه تلمعان كلما ابتسم، وهو يعلق تعليقاً ظريفاً، ويمسح بيده على شعيرات رأسه المتبقية.. هو أيضاً يعتبر نفسه مغامراً، ويضحك وهو يتذكر مغامراته في البرازيل، حيث أنشأ ورشة لتحويل السيارات القديمة التي يتخلص منها أصحابها لعدم صلاحيتها إلى سيارات مكشوفة السقف تلقى رواجاً بين الشباب، جنى من ذلك مالاً جيداً ضيعه على مغامرات نسائية بعد انفصاله عن زوجته الثانية، ثم انتقل إلى كولومبيا ليبدأ مغامرة جديدة لم تلاق نجاحاً قبل أن يقرر العودة إلى بلدته هذه ليكمل مغامراته التي لا تنتهي، ثم قص عليَّ قصص مغامراته النسائية، وزواجه من أكثر من واحدة حتى استقرت به الحال مع زوجته الحالية.. هذه هي المرة الأولى التي التقيه فيها، لكن سبق أن تحدثت إليه عبر الهاتف، عن طريق صديقي ابن أخيه «يوجين» الذي عرفته في تامبا بولاية فلوريدا الأميركية، حيث يعمل ويقيم منذ سنوات.. الرجل المقدس قبيل غروب الشمس، جاءت طفلة في الخامسة من العمر، أو ربما أصغر مع جدتها المسنة، وهي تبكي وتقول اتركوني أرى الرجل الغريب، اتركوني أراه، ترجم لي ألفونسو ما معناه أنها سمعت من جدتها أن هناك رجلاً جاء من الشرق الأوسط، يعتقدون أنه رجل مقدس كما قال.. وضحكنا، وقلت إنني أبعد ما أكون عن القداسة. لكن ربما وجدها ألفونسو وأهله مزحة لطيفة لإسكات الطفلة، فأدخلوها لرؤيتي، فجاءت على استحياء واقتربت مني فاحتضنتها ومسحت دموعها، فأمسكت بلحيتي غير المرتبة، وقد توقفت عن البكاء وشعرت بالسعادة، وهي تلتقي بهذا الرجل الغريب المختلف عن أهالي القرية الفقراء.. ما أن غادرت الطفلة، هي وجدتها منزل ألفونسو، حتى تناقل أهالي البلدة الطيبين المؤمنين قصتها مع يسوع المخلص الذي وصل إلى منزل ألفونسو الرجل النبيل الكريم، الذي يعتبره الأهالي الأب الروحي لكثير من أبناء البلدة.. هكذا وجدتني في المساء محاطاً بعدد من أهالي البلدة المؤمنين الذين توافدوا على حديقة ألفونسو الخلفية، بغية الخلاص والمباركة والغفران.. في رحاب الخدعة وربما وجدها ألفونسو الطيب فرصة لإبراز دوره الريادي في البلدة، وكسب مزيد من محبة الناس وتبجيلهم له، ولذلك طلب مني أن لا أرد هؤلاء المساكين الطيبين خائبين مكسورين، وأن أستمع إليهم على الأقل حتى لا يفقدوا الأمل على ما فيهم من بؤس.. وفعلاً وجدتني أستمع إليهم وإلى شكاواهم من الفقر والبؤس والمرض، وخشيت أن يؤمنوا فعلاً بأنني رجل مقدس، فكان عليّ أن أقنعهم أولاً بأنني لست كذلك، فحدثتهم عن عيسى عليه السلام وأمه مريم القديسة، كما وردت قصتهما في القرآن الكريم.. وأوضحت لهم معنى الإيمان بالله الواحد الأحد وحقيقته وجوهره، وتحدثت عن عقيدة التوحيد وعن المشيئة الإلهية وضرورة التسليم بها والاستسلام لها، موضحاً أن عيسى ابن مريم لم يكن ابناً لله ولا تجسيداً لله في الأرض، إنه رسول الله ونبيه وكلمته.. ووجدتني أقص عليهم كيف تعلمت المسيحية مثلهم، عندما كنت طفلاً صغيراً، عندما كانت الممرضات في المستشفى الوحيد في مسقط رأسي في بلدة صغيرة يطلق عليها اسم العين، يأتين كل صباح ليصطحبنني أنا وأمي المريضة لنؤدي قداس وصلوات الصباح، تلك الصلوات التي مازلت أتذكر مقاطع منها، رغم اختلافها عن عقيدتنا وما نؤمن به.. وأخبرتهم كيف أنني تأثرت بتلك الصلوات لاحقاً عندما كبرت، ووجدتني مدفوعاً إلى البحث ودراسة هذا الدين بهدف الاطلاع والمعرفة، ثم توسعت في دراساتي وقرأت عن البوذية والكونفيوشسية والهندوسية.. كنت أتحدث وألفونسو يترجم، والأهالي يستمعون بصمت ويهزون رؤوسهم إعجاباً أو استغراباً، لكنني تنبهت إلى أنني تحمست للحديث وتشعبت كثيراً عن شكاوى هؤلاء البؤساء، بل واكتشفت أنهم لا يفهمون أصلاً عما أتحدث وماذا أعني.. إنهم لا يعرفون ما يدور خارج قريتهم هذه، كل ما يعرفونه يتعلق بحياتهم اليومية، بمزروعاتهم البسيطة وحيواناتهم القليلة، وبصلواتهم التي يؤدونها كل أحد في كنيسة قريتهم الصغيرة البائسة.. ووجدتني أعود إلى شكاواهم البسيطة، بعضهم يريدني أن أبارك محاصيل القرية وحيواناتها وأطفالها، ووجدت بعض المسنين الذين يحدوهم الأمل في التخلص من أوجاعهم وهم يشكون من الآلام في الصدور والرؤوس والعيون. طبيب رغماً عنه ووجدتني أقيس النبض بطريقة تقليدية مستخدماً إبهامي وأسألهم عن نوعية الطعام والماء الذي يشربونة محاولاً تشخيص أمراضهم بقدر ما أوتيت من معلومات في الصحة العامة، ووجدتني أسكن ما يعانون بأقراص الإسبرين التي اعتدت أن أحمل عدداً منها تحسباً، ووجدتني لا أجد غير الغذاء لأصفه لعلاجهم فأصف لهم الكثير من الخضار والفواكه مع ضرورة غسلها جيداً بالماء قبل تناولها، وكذلك يجب غلي الماء لتنقيته قبل تناوله، ووصفات من الأعشاب التي توجد في الغابات المحيطة بهم.. قبيل منتصف الليل أويت إلى الفراش، وافقت من النوم في وقت ما وقد أصبت بإسهال حاد، ولم أتمكن من النوم بعدها حتى الصباح، وقال ألفونسو إن معدتي لم تتقبل الماء والقهوة اللذين شربناهما ليلة البارحة، فلا تتم تنقية الماء هنا وهو في الغالب ملوث بالنسبة لأبناء المدينة، ويحتاج الأمر للتعود عليه.. قبل منتصف النهار كنا في طريقنا إلى حيث موقع البلدة الأثرية التي تبعد ساعة أو أكثر قليلاً من هذه البلدة.. قال ألفونسو إنه لم يذهب إلى تلك البلدة من قبل، لكنه يعرف أنها في هذا الاتجاه.. منصات فضائية وبعد ما يزيد على ساعة تركنا السيارة، فلا يمكنها تخطي الصخور الملساء التي تمتد إلى مسافة بعيدة، كأنها حاجز طبيعي يعلن انتهاء حدود منطقة الغابات وبداية منطقة الهضاب والوديان.. لم تكن الصخور مرتفعة كثيراً وتمكنا من تسلقها بسهولة.. وما أن تخطيناها حتى وجدنا أنفسنا أمام هضبة صخرية منبسطة على مد البصر، سرنا بخط مستقيم ليس أمامنا أي علامة أو دلالة، لاشيء سوى الحجارة الصخرية داكنة اللون التي تجعلك تشعر بالرتابة والملل.. عندما تنظر إلى الأفق لا ترى سوى الجبال البعيدة ذات القمم المسطحة الغريبة كأنها منصات إطلاق مركبات فضائية عملاقة، بعد مضي فترة من المسير وصلنا إلى جرف سحيق.. وكأن زلزالاً في زمن ما من الأزمنة الغابرة شق الأرض إلى نصفين.. وكأن تلك القمم أو المنصات العملاقة كانت جزءاً من هذه الهضبة في يوم ما، أو لعلَّ هذه الهضبة هي منصة أو قمة أخرى لجبل قد لا يكون مرتفعاً من الجهة التي تسلقنا منها، لكنه حتماً شاهق العلو إذا نظرت إليه من أسفل الوادي السحيق.. اقتربت من حافة الجرف السحيق فتساقطت حجارة إلى ما لا نهاية محدثة دوياً يتلاشى شيئاً فشيئاً في الوادي السحيق، المنظر مرعب ولا يمكن تجاوز هذا الجرف من هذا المكان، لابد من الاستدارة إلى جهة أخرى والبحث عن مكان للعبور إلى الجهة الأخرى.. قال ألفونسو إنه لم يكن يعلم بوجود هذا الجرف، وإنه لم يعد واثقاً من معلوماته حول وجود تلك البلدة القديمة، ربما تكون في الضفة الأخرى من الجرف، لكنه ليس واثقاً من طول هذا الجرف أو الشق.. الرجوع إلى المدنية لم يشجعني ألفونسو على الاستمرار في أي من الاتجاهين لا نحو الشمال ولا نحو الجنوب، فهو يعتقد أن هذا الشق قد يكون ممتداً حتى البحر.. ولم يتركني أكمل الطريق وحدي وأصر على أن نعود أدراجنا إلى قريته.. لم أجد مبرراً للمكوث طويلاً في سانتا ماريا، وعدت إلى أن وصلت إلى ذلك الميناء البائس الذي لم أعرف اسمه أو عنوانه، ثم تدبرت أمري منه إلى أن وصلت إلى هنا في لاس بالماس التي تعتبر بمثابة المدينة بالنسبة للقرى والبلدات المجاورة.. يوجد فيها مطار محلي صغير تصل إليه طائرة صغيرة وحيدة كل أسبوع.. ستحملني إلى العاصمة قبل نهاية الأسبوع، فأتمكن من العودة إلى بلدتي التي أصبحت مدينة..
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©