الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأبنودي: أنا المصري الوحيد الذي حوكم بـ «قانون العيب»!

الأبنودي: أنا المصري الوحيد الذي حوكم بـ «قانون العيب»!
2 يونيو 2010 20:14
عبد الرحمن الابنودي شاعر الأصول وعاشق تراب مصر والعروبة والكلمة البسيطة القادمة من رحم الأرض .. أشعاره نغمات وتقاسيم للناي على ضفاف نهر النيل .. تأتي إلينا بروح نابضة حية مليئة بالحياة والدفء، وفي لون الطمي والخضرة.. نتحدث عن مجدد الأغنية الرومانسية .. وعن الكلمة التي أعادت للشعر نضارته وحيويته خلال ما يقرب من نصف قرن من العطاء.. انه الشاعر المبدع الذي كتب القصيدة – الرواية لأول مرة في تاريخ الشعر العربي منذ ديوانه (إسماعيل سيرة إنسان ).. الديوان الفريد في علاقته بين عامل في السد العالي وزوجته، وقد بلغ من جماهيريته إلى الحد الذي تغنى بها أهل الصعيد في مناسبات عديدة. مهما اختلفت الآراء حول (شعراء العامية) .. حيث يرى البعض فيهم النغمة الأصيلة المعبرة عن نبض الحياة ورجل الشارع في القرى النائية والمدن البعيدة، في حين يراهم آخرون نغمة (نشاز) في نسيج النغمة القومية للشعر العربي ويدللون على ذلك بمقولة عميد الأدب العربي الراحل الدكتور طه حسين حينما قال: “أخشى على الفصحى من عامية بيرم التونسي”..رغم كل ذلك تبقى هناك أصوات عامية بعيدة عن مواطن الشبهات والإشكاليات .. ومنها صوت الابنودي أشهر شعراء العامية الذي يستمد لقبه من اسم قريته (أبنود) الغائصة في أعماق صعيد مصر.. حيث تشكل هناك صوته وجاء مختلفا استثنائيا متعنا بأعذب القصائد. هنا حوار مع الابنودي يحكي فيه عن قضايا الشعر العامي وشعراء العامية وقضايا شائكة في حياته ومسيرته الإبداعية. حاولوا تدجيني.. واستعصيت ? في عهد الزعيم عبد الناصر كان صوتك مدويا.. هل خفت الصوت الآن قليلا؟ ? نعم هذا صحيح .. في عهد عبد الناصر ارتفع صوتي إلى مستويات لم أكن أتوقعها لاسيما بعد هزيمة العام 1967 مباشرة، لقد صرخت كأي عربي أو مثقف بأنه إذا كانت السلطة السياسية قد انهزمت عسكريا فإن الشعب لم يهزم .. لأن الشعب وهو الأغلبية الصامتة لم يستشر ولم يشارك مشاركة فعلية في الحرب.. فالحرب ومن أسف تكون دائما للعسكريين. ومن هذه الإشكالية والتناقضات جاءت الفرصة لإعلاء الصوت أو قل ( الصراخ بصوت عال) مواكبة لانكسار العسكرية السلطوية في ذلك الوقت.. ولكن هذا لم يمنع من أن نتغنى بكل إيجابيات وإنجازات مرحلة عبد الناصر، المرحلة المضيئة في تاريخ القومية العربية.. كما لم يمنع هذا السلطة من (اعتقالي) والاسترابة في صوتي دائما. ودعني استرسل قليلا لأخبرك عن فترة السادات فالأمر كان مختلفا إذ أصبح صوتي شديد الغضب ، مدافعا عن كرامة الشعوب العربية .. وتحديدا بعد معاهدة ( كامب ديفيد) حيث أغلقت أجهزة الإعلام في وجهي... فلجأت إلى التجمعات والأحزاب والنقابات صارخا بأعلى صوتي، متحملا في سبيل ذلك كل أنواع العسف والتوقيف .. ولعل الجميع يعلم أنني الوحيد من أبناء مصر الذي حوكم أيام المدعي الاشتراكي بمقتضى ما عرف بـ ( قانون العيب).. وكأن هذا القانون قد وضع خصيصا لمحاكمتي وحدي.. وكأنني قليل الأدب الوحيد في هذه الأرض.. لكن ما حدث كان في صالحي فلأول مرة تنقل شرائط الكاسيت صوتي إلى الناس من يد إلى يد. وتم ذلك بعد محاولات لتدجين شعري وكلماتي.. وحين رفضت هذا الأمر الابتزازي شعرا وسلوكا تعرضت لأنواع العقاب كلها. وأحمد الله أنني كنت وما زلت فخورا بأني خلال فترة الاعتقال قد أنجزت ديواني (المشروع والممنوع ) وديوان (الجزر والمد) اللذين طبعا بعد ذلك في بيروت أيام كانت عاصمة للنشر والإبداع وقبلة المثقفين العرب. وأحمد الله أن العصر بعد ذلك قد تغير، وان أعدائي في مصر ليسوا بالضراوة نفسها، ولقد أعدت طبع هذه الدواوين في بلدي بعد أن أصبحت هناك حرية تعبير حقيقية. غناء الناس ? توقفت عن كتابة الشعر في نهاية السبعينات ولكنك تواصلت مع كتابة الأغنية .. كيف تفسر ذلك؟ ? في الحقيقة أنا أفصل دائما بين فنين يتوسلان بالكلمة والإيقاع والموسيقى، وهما الشعر والأغنية؛ فالأخيرة صناعة يلعب الفن فيها دورا مهما .. لكنها أولا وأخيرا صناعة ولها تاريخ وتحديدا في العالم العربي. لقد كان الشعراء دائما وفي فترات معينة من التاريخ العربي يكتبون شعرا خاصا بالغناء وهو شعر خفيف سهل المعاني والخطاب، رقيق اللفظ (مموسق) ويسهل غناؤه على ألحان بسيطة، وربما كانت الموشحات هي الشعر حينما يتخلى عن تقاليده وصوره المركبة ليسهل أداؤه واستقباله من قبل كافة فئات الجمهور، على خلاف الشعر وهو تعبير صريح عن ذات معقدة وخبرة كبيرة بالجماليات وصراع خاص مع اللغة ومفردات البناء الشعري المحكم. إذن كاتب الأغنية عندي يختلف تماما عنه شاعرا، ففي الشعر لا يوجد ذلك الوسيط بيننا، أي أنني أحاور الأوراق التي هي جمهوري لحظة الإبداع مباشرة، أما في الأغنية فيشترك معي ملحن ذو ثقافة مختلفة وفهم ربما كان مغايرا تماما لمعنى ووظيفة وطبيعة وتوجهات فن الغناء. إلى جانب أن هناك مؤديا أو مؤدية وربما يكون على حظ قليل من الثقافة وخبرة عالية بالجمهور الذي أسهمت هي – أو هو – في تشكيله وطبعه بطوابع معينة ليستقبل أغنياتهما التي يبدو النص الشعري فيها عنصرا من عناصر عدة، ففي الأغنية أنا لا أخاطب الجمهور مباشرة ولكن اعلم أنني عامل في مصنع وان كنت أتسلل بروائح الشعر إلى الأغنية عبر النص وأحاول طبع الأغنية بطابعي الخاص. في الواقع لم اقصد يوما أن اكتب أغنيات، كانت تدهشني – وما زالت – أغنيات الفلاحين في قريتي (أبنود) فأهل هذه القرية الصغيرة في جنوب مصر يعملون في الزراعة وتجارة الحبوب وخلال كل مراحل عملهم يقومون بأداء أغنيات تخفف عليهم من عناء العمل الشاق في الأرض .. تلك الأغنيات والإيقاعات الحلوة تسللت إلى وجداني وعقلي منذ الطفولة ، وهي التي ربما شكلتني كشاعر وهيأت وجداني لحب الغناء والكلمة الخفيفة ذات المعاني الإنسانية الصادقة النابعة من المكان الأصيل. ومن المفارقات بين أغنيات الراديو وأغنيات القرية وجب وكان من الضروري أن يخرج شاعر في محاولة لحل هذا الانفصام بين نوعي الغناء ووظيفتهما، لذلك المتتبع لأغنياتي الأولى ومنها بالذات (تحت الشجر يا وهيبة) و(عدوية) و (آه يا اسمراني) هي محاولات لإفساح مكان في المذياع العربي لأغنيات قريتي البعيدة عن تفكير الناس. ولقد نجحت هذه الأغنيات وظلت إلى الآن مختزنة في ذاكرة الناس لأنها نابعة من أحلامهم وبيئتهم ولم تقفز على ذاكرتهم وإنسانيتهم. تجار الكلمة ? في هذا السياق إذن ما رأيك بتسمية كاتب الأغنيات بالشاعر الغنائي.. وهل تعتبر الأغنية نوعا من أنواع القصائد الشعرية؟ ? في القصيدة أنت تهدم الوجود وتعيد بناءه بترتيب جديد لتعكس في الواقع وجهة نظرك الخاصة في هذا الوجود، وكيف تراه وتشعر به، وكيف تجعل القارئ أو المستمع للقصيدة أن يشارك في الرؤية نفسها. أما الأغنية فهي لحظة (مجتزأة) أو قل (مبتسرة) من وجودك العام، فليس صحيحا أن الإنسان يكون حزينا دائما أو فرحا باستمرار وبلا حدود كما يحدث في الأغنية ، إلا إذا كانت هذه الأغنية لحظة منفصلة عن عالم الشعر الكلي وهذا هو طابع الغناء عامة ، فالأغنية لا تحتمل الصراع كما تستوعبه القصيدة ، ومن هنا أقول أنهما فنان مختلفان تماما. أما قضية الشاعر الغنائي فقد اتفق منذ القديم على أن كل الشعر العربي من العصر الجاهلي حتى الحديث هو شعر غنائي بمعنى انه ليس شعرا ملحميا ولا دراميا فمن امرؤ القيس حتى احدث شاعر يعتبر كل هؤلاء من الشعراء الغنائيين. بالطبع نحن لا نتحدث عن (كتاب أغنية الكليبات والفضائيات) فهؤلاء خارج نطاق التسمية.. إنهم ليسوا اكثر من تجار في الكلمة.. ومن باب الابتذال الأدبي وسوقية التسميات وإهانة المصطلحات أن نطلق تعبير الشاعر الغنائي كل من كتب أغنية أو بضعة كلمات متراصة.. فهم في الواقع لا يكتبون شعرا وإنما يكتبون نصوصا هزيلة مرتبكة ولا يجرؤن على كتابة قصيدة واحدة بالمعنى الحقيقي لمفهوم الشعر ولا اعرف ما الذي حدث وقلب الموازين وأصبح هناك خلط شديد بين الشاعر وكاتب الأغنية. لمن أكتب الأغنية الوطنية؟! ? هل من الضروري أن يكون للشاعر موقف سياسي محدد، ولماذا هجرت كتابة الأغنية الوطنية؟ ? أقول وبكل بساطة: إذا كان الفلاح يزرع لنا سنبلة القمح والصانع يصنع لنا أشياء تسهل علينا مشقة ومتاعب الحياة .. وإذا كان إنتاجهما ضروريا لحياة المجتمعات، فلا بد وان يكون للعمل الذهني أيضا وظيفة محددة وتلمس باليد، خصوصا أن هذا العمل الذهني يستمر وجوده أو يعيش على عرق العمل اليدوي؛ فأنا أؤمن بالهدف للأدب والفن، ولا أجد معنى لإبداعهما بدون وظيفة تنويرية توعوية تسهم في إزاحة الظلمات والعوائق من طريق تقدم الشعوب، وارفض تماما اصطلاح أو تسمية (الشاعر السياسي) ولا اعرف كيف يفرق الشاعر في داخله بين ما هو سياسي وما هو عاطفي وما هو وصفي وديني. إن زمن تقسيم أغراض الشعر ما بين فخر وهجاء ورثاء وبكاء على الأطلال انتهى مع موجات الشعر الجدية وغيرها من المدارس الشعرية، وأصبح الشاعر الذي يقسم ذاته بهذا التقسيم التعسفي شاعر بعيد عن عصره ولا يعرف شيئا عما يدور في العالم. أما شعر الأغنية الوطنية فلا أريد أن افتح المزيد من الجروح.. كيف تريدني أن اكتب شعرا وطنيا وقد توقف المد القومي بل انتهى؟ حينما كنت اكتب كان هناك صوت عبد الحليم حافظ، وكان هناك ملحنون كبار، وكانت هناك أحداثا كبيرة وحالات إنسانية تستحق التعبير، وكانت هناك انتصارات وحركات ترفض التسلط.. كانت هناك موجة من الخلق والإبداع والفكر .. بل قل ثورة لتأكيد الذات العربية وسط خضم الأحداث. ودعني أقول لك انه لا توجد الآن أغنية وطنية حقيقية. هناك تعبيرات عن حالات ومواقف؛ فحين يتوقف عهد البطولات تتوقف معه الكلمات، وما الذي يوجد اليوم سوى (هراء غنائي) لإثارة الغرائز وإضاعة جيلنا الجديد ضمن مشروع هجمة العولمة المعادي الذي نتحدث عنه في وسائل الإعلام والمؤتمرات ولا نفعل شيئاً!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©