الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الخجل والحب وساعي البريد

الخجل والحب وساعي البريد
2 يونيو 2010 20:20
أمور كثيرة تجعلني أتساءل: هل الحب هو الحكاية؟ هل يوجد حب بلا حكاية؟. هل توجد حكاية بلا حب؟ الحب هو حكايات... حكايات... حكايات. تماماً كما قيل بأن الحياة هي: كلمات... كلمات... كلمات. حكايتي، حكاياتي مع الحب. فإذا كنت قد أحببت فعلاً فإن ذلك الحب ما هو إلا حكايات، أو لأقُلْ، تحول إلى حكايات، وإذا ما كنتُ أحب الآن، فإن حبي هذا، الذي أنا عليه وأفعله، حكاية. حكايتنا، حكايانا مع الحب، في الحب، وللحب لا تنتهي، ولن تتوقف، وليس لها آخر، كما أن ليس لها أول. يقولون إن أول الحكاية الحب، تماماً كما يقولون إن أول الحياة: كلمة. ولأن عرشه كان على الماء، أو ما زال، لن نكف عن حمل كؤوس الغرق. تحولنا، أي ما يُحدثه الحب فينا وبنا سمّيناه نهاية، فقط كي نولد من جديد، وعذابنا تحول إلى أحجار من ضحك، فقط لأن عيوننا كانت تزرع السحب وتحصد الأمواج. خجلنا هو السبب في الفراق، والفراق الذي عبث بجياتنا أغلق كهوف دواخلنا بصخور الخجل. وكان هذا بالتحديد هو حال صاحبنا الآسيوي (لا أتذكر الآن، ما هي البلاد التي حددها الخبر الصحفي الذي قرأته قبل أسابيع، والذي وقعت فيها الحكاية: ولكنه في نواحي فيتنام أو كمبوديا...)، ذلك الذي ظل مستتراً ومخفياً لأكثر من سنة. فالموظفة الشابة، وعندما عادت إلى منزلها في يوم من الأيام طرق منزلها ساعي البريد كي يسلمها رسالة غرامية من مجهول. الرسالة كما يمكن أن نتخيلها تعترف بالأنشداد، تعلن عن الإحساس بهذا التجاذب الذي يسري مفعوله في جسد الدقائق، في تقلبات الأنفاس، في ردهات التفكير. طوت الموظفة الرسالة ووضعتها في الخزانة، أو مزقتها ورمتها في قمامة النسيان، ولكنها في اليوم التالي، وعندما عادت إلى المنزل طرق ساعي البريد نفسه الباب، ومعه رسالة أيضاً. - من المرسل؟ تسأل، والساعي لا يعرف. لا يعرف حقاً، فالمحب يصدح بأحاسيسه، بانجذابه، بمشاعره، ولكن لا يصرح بنفسه. لا يعلن حبه، شخصية حبه، إذا صح التركيب، إنه يخجل من إزالة رداء التستر، خوفاً، وربما من أن يُطرد، كما طرد العُراة، عراة التفكير وعراة الداخل وعراة الخلايا الخفاقة من جنان التدفق الذاتي، الكهرباء الخنثى، المياه التي ما زالت سعيدة في جعبة الحجر. إنه غير مستعد بعد للدفاع عن هذا الحب، فكل إعلان يلزمه دفاع، يلزمه خوض المستحيل، وإزاحة الفرق، وطي المسافات ما بين حبال الوريد، والحياة في المابين، والسكن في طوابق الموجة العليا، في رمال الأحلام المتداعية. - ولكن من هو يا ترى؟ هكذا كانت تتساءل الموظفة. فهي، ومنذ استيقاظها في الصباح بدأت خلايا ما في رأسها بالاستيقاظ. خلايا كانت نائمة في تفاقم ضيق الحياة، في ارتصاص الجسد تحت طبقات هواء الحاجة إلى كل شيء، في ذوبان مياه الروح وتلاشيها خلف ستائر الوجوه المتحركة. من هو هذا الذي يحبها؟ ويحبها هي، هي شخصياً على وجه التحديد؟ من هذا؟ كيف يكون؟ تبحث عنه في البيت، ولكن لا أحد معها إلا ظلالها التي تعبر المرايا، والباب الذي تتركه واقفاً في جدار البيت حين تخرج إلى الشارع، وتبحث عنه، في وجوه عمال الدكاكين، المتسكعين في فضاء الحي، المائلين على جذوع الأشجار من الضجر، أو من التعب، أو من الحنين. المراوغين الهواء، مهرجي أطراف الأشجار، وحملة جثمان النهار إلى الليل، وكهنة الليل إلى معبد الشمس. تبحث في وجوه المارة، في الأيادي المتدلية والتي تكتب القلق على صفحات الهواء، في الخطى التي ترن قرب المنحنيات وكأنها تطرق على زجاج نوافذ المجهول. تبحث عنه ولا تجده، تبحث عنه من بين زملائها في العمل، فتستبعدهم، وأصدقاء أصدقاء صديقاتها فتستبعدهم، شبان القرابة، وأبناء الجيران السابقين، ورفاق الجامعة ومرتادي مطاعمها وحاناتها المفضلة. تستبعد كل هؤلاء، وتبحث عنه. تبحث عنه حين العودة من العمل، تبحث عنه في هدأة الظهيرة، في كآبة الغروب، في الوحدة التي تنتفخ في الليل كما تنتفخ القطط كثيفة الشعر من البرد، وفي ما قبل النوم، في الأفكار التي تفتش رمل الرأس قبل النوم، وفي الأحلام، وفيما بعد النوم، في الغموض الذي ينسدل على صحراء الرأس بعد النوم. الرسائل تتوالى، وساعي البريد يزداد طرقه على الباب. في كل يوم رسالة، بل في كل يوم أكثر من رسالة، الأسبوع الأول يمر، وهي تقرأ الرسائل، وتضعها في الخزانة أو تمزقها وترميها في قمامة النسيان. وفي الأسبوع الثاني كان يمكنها، وقبل الغروب، أن تقف على الباب، فيأتي ساعي البريد مهرولاً فيسلمها الرسالة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة لهذا اليوم. تقف معه قليلاً. تسأله عن أخباره. يسألها عن أخبارها. يتبادلان الكلام والحكايات والوجع الخفيف الذي يمر على سماء الحياة كالسحب، والعيون المغمضة عن أمواج المرايا المتدفقة، يتبادلان ضحكات الواقفين، وخلجات الوحيدين، والآراء التي لم يسبق أن قالاها لأحد. الشهر الأول يمر. السابع يمر، وساعي البريد يحمل الرسالة، في كل يوم رسالة أو أكثر. يطرق الباب، أو يجدها واقفة على الباب، فيقف معها. - من هذا العاشق الخفي الغامض؟ يسأل هو، أو تسأل هي، من أين يرسل رسائله، بالتأكيد يمكن تتبع خطواته، فهو يذهب إلى مركز بريد من مراكز هذه البلدة القليلة، ولعدة مرات، إلى أي مركز يذهب؟ هل يمكن أن نحدد ذلك؟ يتساءلان، ليس المستحيل، ولكن يمكنه كذلك أن يذهب إلى عدة مراكز؟. كيف يمكن مراقبة عدة مراكز في الوقت نفسه، كما أن إدارة البريد التي يعمل فيها الساعي لا تسمح أو لا تعرف الجهة التي تأتي منها هذه الرسائل؟. يمكن طبعاً أن يطلب من زملائه التعاون بشكل شخصي، ولكن رسائل ذلك العاشق المجهول، عادية الغلاف، ولا تختلف عن أغلب الرسائل التي تصل إلى المركز، وهي بالآلاف. ما العمل إذن؟ يتساءلان. هذا سر، ومن الشيق ودواعي النفوس، والإثارة الكشف عن سر، وإن ثمة ما يثيرهما، هما بالتحديد، للكشف عن هذا السر بالذات، فضح هذا العاشق الغامض، اختراق ضعفه، تمزيق غشاء خجله، طرده من جنة الاختباء. الشهر الثامن يمر. وفي التاسع يلد القمر حمامة بيضاء في كأس الشجرة قرب نافذة الموظفة الشابة التي بدأت في جمع الرسائل. هذه رزمة الشهر الثاني حتى الخامس، وهذه رزمة الخامس حتى السابع، وهذه رزمة السابع حتى التاسع، وهذه رزمة العاشر والحادي عشر. أكثر من خمسمائة رسالة وصلتها من ذلك العاشق المجهول حتى الآن، ومئات من الطرقات تلقاها بابها من ساعي البريد، ومئات أخرى وقفا، هي والساعي عند الباب يتبادلان الخطوات التي بالإمكان أن تقربهما من معرفة السر. وبعد كل وقفة كانا يقتربان أكثر، أو يحسان بأنهما يقتربان من الكشف. يحددان الدروب الأقرب إلى قلب المتاهة، يفتحان كل مرة جحراً في جبل المجهول، يعرفان كل مرة أكثر عن الذي كان عليهما أن لا يعرفاه، الخفي صار يحوم كالفراشة على شمعتها الموقدة، الطريدة كانت تقودها إلى الفخ نصيحة الدّم. وقع المجهول، وانكشف العاشق، وفضح الخجل وسال الدم من بكارة السر. صاداه هي وساعي البريد صاداه، وقع في حبائل بحثهما، وأمسكت به رغبتهما في حياكة المستقبل، وجريان مياه دواخلهما في مزروعات الحاضر. صاداه. إنه هو. زميلها منذ سنوات في الوظيفة، ينظر إليها ولا يقوم ليتكلم، يرسل لها مئات الرسائل ولا يجرؤ على خلع عينيه ووضعها في إصبعين من أصابعها، يذهب إلى مركز البريد أكثر من مرة في اليوم، ولا يطرق باب بيتها كي يسألها عن الطقس هذا المساء. الجبان. ستذهب إلى مركز الشرطة كي تشتكيه حاملة هي وساعي البريد أكداس رسائله المريضة، فتقرر الشرطة حجز ذلك الخجول التافه كي يقدم لأقرب محاكمة، أما الموظفة الشابة وبعدما خرجت من مركز الشرطة تفاجأت، أو بدت كذلك، حين قال لها الساعي: - أنا أحبك يا... ولا يذكر الخبر الصحافي اسم تلك الموظفة الشابة، أو أنني لا أتذكره الآن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©