السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ظرف النوّاسي

ظرف النوّاسي
2 يونيو 2010 20:27
كان ابن هفان من غلمان أبي نواس و تلاميذه، وقد توفي بعده بنصف قرن تقريباً، وكتب عنه أقدم سيرة كتبت عن شاعر عباسي بعنوان: “ أخبار أبي نواس” استهلها بأشهر ما عرف به وهو الظرف والدعابة وروح الفكاهة عندما تصبح شعراً لطيفاً مرحاً، يضمن له السيرورة وحب المتلقين غير المتحرجين، إذ يعتمد على المفارقات من ناحية واللماحية وسرعة البديهة والارتجال من ناحية أخرى، فيقول ابن هفان في أول خبر يرويه: “دخل أبو نواس على يحيى بن خالد، فقال له يحيى: أنشدني بعض ماقلت فأنشد: كم من حديث معجب لي عندكا لو قد نبذت به إليك لسرَّكا إني أنا الرجل الحكيم بطبعه ويزيد في علمي حكاية من حكى أتتبع الظرفاء أكتب عنهم كيما أحدث من أحب فيضحكا فقال يحيى: إن زندك ليرى بأول قداحة (أي أنك سريع البديهة مثل العود الذي يشتعل من أول ضربة)، فقال أبو نواس في معنى قول يحيى ارتجالا: أما وزند أبي علي إنه زند إذا استوريت سهل قدحكا إن الإله لعلمه بعباده قد ضاع جدك للسماح ومزحكا تأبى الصنائع همتي وقريحتي من أهلها وتعاف إلا مدحكا فهو يقدم نفسه على سجيتها من المرح وحب الدعابة اللطيفة التي تسر من يستمع إليه، فينتسب إلى لون من الحكمة التي تصدر عن طبع لا عن تكلف، وتأتنس بحكايات القصاصين ورواة النوادر في سردياتهم الممتعة، يتتبع الظرفاء ليستقي منهم مادته ويروي عنهم حتى يدخل البهجة على قلب من يحبه من جلسائه. فإذا ما لاحظ محدثه سرعة بديهته وانقداح شرارته الشعرية بالضربة الأولى زاده أبو نواس، الذي كان يكنى أيضا بأبي علي مثل كل من يسمى الحسن، فتفكه بنظم ملاحظته ومدح سماحته، مؤكداً له أن زنده بالفعل سهل القدح بالنار والمدح بالشعر السهل المتدفق، ٍوأن موهبته التي رزقه الله بها تعادل ما صاغه الإله لمخاطبه من ميزات تجعله قادراً على مزج الجد بالدعابة في سماحة ونبل، وأن قصارى همته وقريحته أن يعترف له بهذه الميزات ممتدحاً وعارفاً. وتتواتر أخبار أبي نواس بهذه الصفة المائزة منذ صباه، إذ يحكي ابن المعتز في طبقاته: “بلغني أن أبا نواس، وهو في الكتاب، وكان مليحاً صبيحاً، مرت به صبية وضية الوجه، فمازحته ساعة، ثم رمت إليه بتفاحة معضضة وانصرفت، فقال: شجر التفاح لا خفت القحل لا ولا زلت لغايات المثل تقبل الطيب إذا علت به وبها من غير طيب.. محتمل وعدتني قبلة من سيدي فتقاضت سيدي حين فعل” ويقال إن الذي رغب فيه والبة بن الحباب، حتى أخذه غلاماً فأدبه وخرجه إنما هو هذه الأبيات، إلى جانب ملاحته وجمال وجهه، مما كان له أبلغ الأثر في مستقبله. فمنذ صباه الباكر عرف شاعرنا كيف يتراشق مع صبية فاتنة بالتفاح والشعر، وكيف يفسر عضة التفاح بأنها سؤال للقبل، وكيف يجعل من حادثة بسيطة وطريفة مثار أبيات شعرية ممتعة، تقع من نفس أستاذه أجمل موقع، فيقرر أن يتولى مسؤولية تأديبه وتخريجه في مدرسة يمكن لها أن توصف بأنها مدرسة الظرف والحرية والإبداع التي لاتزال تستهوينا حتى اليوم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©