الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين «سجن» عمارة و«مفتاح» أركون

بين «سجن» عمارة و«مفتاح» أركون
1 ابريل 2015 22:08
هذا الاستلاب في الماضي «المؤسطر» هو أول سمة من سمات العقلية السلفية. وبالتالي فالتقدم بالنسبة لها يعني العودة إلى الوراء لا السير إلى الأمام. وهي تحتقر الفلسفة العقلانية أيا تكن حتى ولو كانت بحجم فلسفة ديكارت وكانط وهيغل، ناهيك عن أرسطو وأفلاطون.. فهي بالنسبة لها ليست إلا لغو الكلام ولا تساوي قشرة بصلة. لماذا؟ لأنها فكر بشري زائل أما هي فتتوهم بأنها تمتلك الفكر الإلهي الذي لا يحول ولا يزول. وقل الأمر ذاته عن فلسفة الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن الطفيل.. كلها مرمية في سلة المهملات أو محرمة من قبل الفقهاء القدامى والمعاصرين. وأما مفاهيم من نوعية حقوق الإنسان وحرية الضمير والمعتقد وتحرر المرأة وفلسفة الأنوار فتعتبر بمثابة الشر المحض. كل ما استجد في التاريخ البشري على مدار العصور الحديثة ملغى وباطل. كل الحضارة خارج قوس. كلها رجس من عمل الشيطان. هذا هو معنى العقلية السلفية. هذا هو معنى «الجهل المقدس» الذي لا يزال يتحكم بالتربية والتعليم والثقافة في العالم الإسلامي حتى اللحظة وبخاصة في المجتمعات المحافظة جدا. نحن نتاج هذا الفكر السلفي الذي يتفجر حاليا بالقنابل والحمم والشظايا. ثم أن نظرتها للأديان الأخرى خاطئة تماما. لماذا؟ لأنها ليست قائمة على معرفة حقيقية بها وإنما على رفض مسبق وعلى يقينيات دوغمائية متحجرة لا تقبل النقاش. مصارعة التنين السلفية لا تعترف بتاريخ الأديان المقارنة ولا يخطر على بالها على الإطلاق. وأصلا هو ممنوع منعا باتا في معظم الجامعات العربية والإسلامية. لكن متى تشكلت السلفية؟ قبل ألف سنة أو ألف ومائة سنة ونيف. فأكبر سلفي في تاريخنا هو الإمام أحمد ابن حنبل (855م) الذي كان على عظمته وإيمانه متشددا في الدين. وكان رافضا لتحكيم الرأي والعقل في الشؤون العقائدية على عكس الإمام أبي حنيفة. وقد دخل في معركة هائلة مع المعتزلة والمأمون وخرج منها منتصرا بعد أن انحاز له المتوكل الكاره للاعتزال والفلسفة. بدءا من تلك اللحظة انتصر النقل على العقل في تاريخنا. وبالتالي فهزيمة العقل في العالم الإسلامي قديمة جدا وليست حديثة العهد على عكس ما نتوهم. إنها تعود إلى انقلاب المتوكل على المأمون. ونحن ندفع فاتورة ذلك الانقلاب الارتجاعي أو الرجعي حتى اللحظة. ولذا يصعب علينا جدا إعادة الاعتبار إلى العقل والفلسفة في العالم العربي حاليا. فنحن نناضل ضد ألف سنة من الجمود والخروج من التاريخ لا ضد سنة أو سنتين. نحن نصارع التنين! ثم تواصلت السلفية كخيط طويل، طويل، لا ينقطع على مدار العصور الانحطاطية بدءا من لحظة ابن تيمية في القرن الرابع عشر وحتى لحظة الإخوان المسلمين في القرن العشرين مرورا بلحظة محمد بن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر وآخرين عديدين. وتوجت أخيرا بكل الرموز السلفية والإخوانية التي احتلت الساحة وأصبحت نجوما تلفزيونية.. اللحية والكرافات قد يقول قائل: ولكن هناك فرق بين التيار السلفي/ والتيار الإخواني. والجواب هو أنه فرق في الشكل لا في الجوهر. فالسلفيون يلبسون القميص ويرخون لحاهم الطويلة في حين أن الإخوان يلبسون الطقم الحديث الأنيق بثلاث قطع مع الكرافات ويشذبون لحاهم أكثر ويهندسونها بشكل أفضل. هذا هو الفرق. إنه شكلاني محض. ربما كان الإخوان مسيسين أكثر ولكن السلفيين أصبحوا أيضا مسيسين مؤخرا. فهناك أحزاب سلفية مثلما أن هناك أحزابا إخوانية تخوض الانتخابات. ولكنهم جميعا متفقون على رفض حاكمية العقل معطين الأولوية لحاكمية النقل. ومؤخرا هاجم السلفي الجديد محمد عمارة المفكر الجزائري الراحل محمد أركون لأنه نادى بحاكمية العقل لا النقل. ولكنه أخطأ في فهم عبارته المترجمة خطأ عن الفرنسية على النحو التالي: «الحداثة تعني القول بمرجعية العقل وحاكميته وإحلال سيادة الإنسان وسيطرته على الطبيعة محل إمبريالية الذات الإلهية». هذه العبارة صحيحة تماما ما عدا الكلمات الثلاث الأخيرة. وهي من ديكارت لا من أركون. فمصطلح «إمبريالية الذات الإلهية» ليس أركونيا على الإطلاق لأن أركون لم يكن ملحدا، ولم يهاجم الذات الإلهية في حياته كلها. ولكنه هاجم امبريالية الجهل المرسخ وظلاميات القرون. وقد أطبقت على العالم الاسلامي بعد موت ابن رشد ولا تزال متواصلة حتى اللحظة. هذه هي الإمبريالية التي يدينها محمد أركون. وطالما تأسف لأن فكر ابن رشد تحول الى مشعل حضاري في أوروبا ومات في أرضه الخاصة بالذات: أي أرض الاسلام. أركون كان مفكرا عقلانيا مؤمنا على الطريقة الفلسفية الحديثة تماما كصديقه بول ريكور في الجهة المسيحية. وكان معتزا بتراثه الإسلامي كل الاعتزاز وبخاصة في جوانبه الإنسانية والعقلانية التنويرية. على طريقة السلفيين الانغلاقيين الذين كفروا الفلاسفة،ووضعوا العقل في ثلاجة،وأخرجونا من التاريخ. هذا شيء مؤكد يا دكتور عمارة. في الواقع أن الدكتور عمارة الذي لا يشك أحد في علمه التقليدي وسعة اطلاعه هو مثال على العديد من المثقفين العرب الذين تراجعوا عن خط التنوير بعد صعود الموجة الأصولية في السبعينات من القرن المنصرم. ولكنهم ظلوا يدعون الحداثة من جهة، ثم يدافعون عن المواقف المتشنجة والانغلاقات الفكرية! ولا أعرف كيف يستطيعون التوفيق بين شيئين متنافرين أو متناقضين إلى هذا الحد. إنه يعتقد بوجود مفهوم واحد للدين هو المفهوم السلفي القديم. انظروا محاولته اليائسة لاسترجاع طه حسين والشطب على تراثه التنويري العقلاني. وبالتالي فالايمان الواسع العميق الذي يهضم أفضل ما أعطته العصور الحديثة من فتوحات علمية وفلسفية مشبوه عنده أو حتى غير معروف. إنه يجهله تماما وظل متشبثا بالايمان الضيق للعصور الغابرة: أي ايمان ما قبل الحداثة. وهذا يعني أنه عاجز عن إقامة المصالحة بين العلم/ والإيمان، أو بين الفلسفة/ والدين كما فعل ابن رشد سابقا وكما يفعل أركون حاليا. ولكن ابن رشد بلورها تحت سقف القرون الوسطى، أما أركون فبلورها تحت سقف الحداثة. وشتان ما بينهما. تخمة تراثية ينبغي أن نقول له بكل احترام: هذا المنظور القروسطي القديم يشلنا يا دكتور عمارة ويحبط طاقاتنا، إنه يبقينا في مؤخرة الأمم والشعوب. وبالتالي فمحاولتكم فاشلة لأنكم تريدون حصرنا داخل الإطار الضيق والمتعصب للعقلية السلفية الإخوانية. ونحن نقول لا عودة إلى الوراء. نحن بحاجة إلى الإيمان المستنير الذي يشحذ الهمم ويفتح الآفاق ويحرر الطاقات لا إلى الإيمان الظلامي القديم الذي يعمي ويصم. لقد شبعنا من التخمة التراثية. شبعنا تكرارا واجترارا على مدار القرون. وبالتالي فنحن بانتظار ظهور مفكر كبير يدخل أمتنا في عصر الحداثة العلمية والفلسفية التنويرية. نحن بحاجة إلى مفكر كبير قادر على مصالحة الإسلام مع الحداثة الكونية. ذلك أن الحداثة حدث روحاني خطير في تاريخ البشرية وليست فقط حدثا ماديا أو تكنولوجيا كما يتوهم الكثيرون. الحداثة ليست فقط سيارات وطائرات وإنما هي اختراق معرفي هائل واكتناه لسر الأشياء.. لقد غيرت نظرتنا للعالم والكون. الحداثة فتح الفتوح.. لقد حررت الإنسان من القيود والسدود. لقد فجرت الطاقات الإبداعية وحررت الروح المغلولة بالأصفاد. لهذا السبب سبقنا الغرب يا دكتور عمارة وخلّفنا وراءه بسنوات ضوئية. بل وسبقنا الشرق أيضا. كل الأمم تنهض ما عدانا نحن. ولكن كيف ينهض من هو مقيد بالأصفاد التراثية؟ أعطني حريتي أطلق يديا! نعم لقد آن الأوان لكي نخرج من مستنقع الجهل والتكرار والاجترار والانشداد الدائم إلى الماضي الذي تحول إلى طوطم أو صنم محنط. هذه هي الأصنام التي ينبغي تحطيمها وليس تلك التحف الفنية الرائعة في متحف الموصل! العقدة والغيبوبة لهذا السبب أقول بأن المشروع الإخواني السلفي المستدير نحو الماضي باستمرار هو مشروع عقيم. لقد آن الأوان لكي نتحرر من «العقدة السلفية»، لكي نشفى من «الغيبوبة التراثية». لقد آن الأوان لكي نفهم تراثنا بشكل صحيح فنأخذ منه الجوهر ونطرح القشور. وجوهره هو القيم الروحية والأخلاقية والتنزيهية العليا للتراث العربي الإسلامي الكبير. لكن كيف يمكن أن تتحرر من عقدة نفسية مهيمنة عليك منذ ألف سنة أو يزيد؟ هذا هو السؤال. كل مشروع أركون الفكري ليس الا محاولة بطولية ـ وأكاد أقول سيزيفية ـ للإجابة عليه. لهذا السبب أقول إن مشروع «نقد العقل الإسلامي» فتح ثغرة في جدار التاريخ المسدود للعرب. ولكن بدلا من أن نشكره ننقض عليه! إني أفهم أن يهاجمه المثقفون المحافظون في العالم العربي. ولكن لا أفهم كيف يهاجمه المثقفون الذين يدعون الحداثة والحرية والعلمانية ناهيك عن الديمقراطية! ينبغي أن ندخل هنا قليلا في صلب الموضوع لتوضيح الصورة. من الصعب أن تجد مثقفا عربيا واحدا يقول لك بأنه ضد الحداثة والحرية. ولكن نادرين هم أولئك الذي يعترفون بأنه لا يمكن التوصل إلى الحداثة بدون نقد القدامة نقدا جذريا لا هوادة فيه. فبعد (داعش) و(القاعدة) و(بوكو حرام) ما عادت أنصاف الحلول تكفي.. وبالتالي فعلاقتهم بالحداثة والحرية والديمقراطية أوهى من بيت العنكبوت. إنها علاقة شعاراتية، ديماغوجية، انتهازية. وينطبق ذلك بشكل خاص على الحركيين السياسيين الفارغين أو المفرغين من أي همّ فكري عميق. كيف يمكن أن نؤسس دولة مدنية حديثة تتسع أحضانها للجميع ان لم نفكك الثوابت الاخوانية والمسلمات السلفية؟ ـ ما هي المسلمات السلفية التي تتحكم بالعقلية العربية منذ ألف سنة؟ كنا قد ذكرنا بعضها سابقا ولكن يمكن أن نضيف النقاط التالية: أولا: السلفية تعتقد بأن الحقيقة اكتشفت مرة واحدة وإلى الأبد في الماضي ولا يمكن أن يحصل أي شيء جديد أو مفيد بعد العصر الأول. وبالتالي فلا داعي لكل الفلاسفة والعلماء الذين توالوا على مدار التاريخ. ولا داعي للكتب والفلسفات والثقافات التي «تبعد عن الله» كما تقول داعش. تكفينا كتب ابن تيمية. سجن عقائدي ثانيا: السلفية سجن عقائدي كبير إذا ما دخلته لا تستطيع الخروج منه لأن وهج الضوء قد يعميك. فمن كثرة ما تعودت على العيش في الظلام أصبحت تنكر شعاع النور. تذكروا أسطورة الكهف لأفلاطون. أحيانا يخيل لي أن السلفية صرح شامخ يقف خارج الزمن ومسيج بالأسلاك الشائكة من كل الجهات. هذا ما شعرت به عندما دخلت جامعة سلفية لأول مرة. انها بيتنا القديم- والعزيز- الذي يوشك أن ينهار على رؤوسنا. هذا ما شعرت به عندما دخلت جامعة سلفية لأول مرة. على أي حال ينبغي أن تحصل طفرة نوعية في الفكر العربي لكي ينتهي العصر السلفي الإخواني ويبتدئ العصر الآخر. ما دمنا لا نتجرأ على ما فعله ديكارت عندما قال عبارته الشهيرة: «ولذلك قررت تدمير معظم أفكاري السابقة» فسوف نظل سلفيين ماضويين. المقصود أنه بعد أن كبر واكتشف الحقيقة العلمية أو الفلسفية قرر تفكيك كل الأفكار التقليدية المتوارثة أباً عن جد. وهي الأفكار التي تلقاها من البيت والعائلة والكنيسة والمدرسة والتي كانت تفرض نفسها كحقيقة مطلقة لا تقبل النقاش. أو بالأحرى قرر وضعها على محك التساؤل والشك: فما نجح في الامتحان أبقى عليه وما سقط تخلى عنه. وهي عملية صعبة جدا وعسيرة على النفس لأنه ليس من السهل أن تتخلى عن أفكار رضعتها مع حليب الطفولة. فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر. من منا يتجرأ على تفكيك القناعات الطائفية أو المذهبية التي تشربها من بيئته وعائلته عندما كان غضا صغيرا بعمر الورد؟ من يستطيع أن يخوض المعركة مع نفسه وأعماقه التراثية على المكشوف؟ ينبغي أن تكون ديكارت لكي تتجرأ على هذا. أما السلفية فتحشو عقلك باليقينيات الإطلاقية حشوا. انظروا المدارس الطالبانية والوهابية التي فرخت القاعدة وداعش تفريخا. ثالثا: أخطر هذه اليقينيات القطعية للسلفية القديمة والمعاصرة تكفير كل الأديان الأخرى. نقول ذلك على الرغم من أن هذا التكفير يتعارض صراحة مع العديد من الآيات الكريمة كالآية التالية مثلا: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (البقرة. 62) أو كالآية التالية التي قد تدهشك من كثرة انفتاحها. ولم أفهم أبيات ابن عربي الشهيرة عن «دين الحب» إلا عندما قرأتها. فلولاها لما تجرأ على كتابة تلك الأبيات الخالدة. تقول الآية الكريمة: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا أن الله يفصل بينهم يوم القيامة أن الله على كل شيء شهيد» (الحج. 17) انفتاحية القرآن لاحظ حتى الذين أشركوا هم بشر أيضا! شيء لا يكاد يصدق. وهذا أكبر دليل على أن القرآن كان أكثر انفتاحا بكثير من الفقهاء. «فأينما تولوا فثم وجه الله».. الإيمان القرآني العظيم مفتوح على مطلق الكون ويشمل برحمته البشرية جمعاء. ولكن الفقهاء هم الذين جمدوا المعاني القرآنية وقلصوها كما كان يقول أستاذنا أركون. لقد أخذوا بالحرف ونسوا روح النص المؤسس وجوهره. ومعلوم أن «الحرف يقتل والروح تحيي» كما يقول العلماء. لقد فاتهم المقصد الأسنى للنص الأعظم. كانوا أصغر من أن يفهموه أو يرتفعوا إلى مستواه. وهكذا قضوا على الانفتاح القرآني وأسسوا الانغلاق التكفيري النابذ للآخرين، الحارم لهم من نعمة الله. كل التراث الإسلامي تنبغي إعادة قراءته من جديد على ضوء الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة. وإلا فلن نخرج من هذا المغطس حتى ولو بعد مليون سنة! أنا أحيانا أتساءل: هل ابن تيمية أهم من القرآن أو بنفس معصوميته؟ يبدو ذلك. فهو يشكل المرجعية العليا لكل الحركات السلفية والإخوانية المعاصرة. ابن تيمية لا يُناقش. ابن تيمية يُنفذ كلامه حرفيا. نقطة على السطر. ثم إليكم هذه الآية الرائعة الداعية إلى الانفتاح والتعايش والاعتراف الصريح بالتعددية: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم أن الله عليم خبير» (الحجرات. 13) الخ... وبالتالي فنحن الحداثيين عندنا بذور كثيرة واعدة، عندنا مرتكزات ثمينة في القرآن الكريم والتراث العظيم. ويمكن أن نبني عليها ونؤسس الحداثة العربية الإسلامية التي طال انتظارها. ولكن ينبغي الاعتراف بأن هناك آيات أخرى تميل إلى التكفير إذا ما أخذناها على حرفيتها ونزعناها من سياقها التاريخي. وهي التي يعتمد عليها المتطرفون لارتكاب التفجيرات العمياء. بل ويعتبرونها تنسخ الأولى. بمعنى أن كل ما هو كوني وإنساني وأخلاقي في تراثنا منسوخ. وكل ما هو عنيف وإرهابي وظلامي صالح وساري المفعول إلى أبد الآبدين. الأمور معكوسة تماما. والتراث مغتصب حاليا ومختطف من قبل هذه الجماعات التي شوهت صورتنا وصورة ديننا وتراثنا في شتى أنحاء العالم.. أليس من غريب الأمور أن الإخوان المسلمين الذين يدعون الوسطية والاعتدال يختزلون القرآن الكريم إلى آية واحدة بل وكلمة واحدة: وأعدوا! مسلمات سلفية رابعا: السلفية لا تكفر الأديان الأخرى فقط وإنما المذاهب الأخرى أيضا. فكما أنه لا يوجد إلا دين واحد صحيح على وجه الأرض بحسب منظورها، فإنه لا يمكن أن يوجد إلا مذهب واحد صحيح داخل هذا الدين. انظروا حديث الفرقة الناجية: هناك فرقة واحدة في الجنة وبقية الفرق في النار. وحتى لو كنت من أفضل الناس أخلاقا وسلوكا فانك مدان إذا لم يشأ لك الحظ أن تولد في أحضان «الفرقة الناجية». هذا هو المنطق الذي يتحكم بالعقلية السلفية كلها. ولكن منطق الحداثة الكونية يقول لنا بأن كل الناس الطيبين الذين يحبون الخير ويفعلونه بقدر المستطاع هم من الفرقة الناجية أيا تكن أديانهم أو طوائفهم ومذاهبهم. هكذا نلاحظ أن منطق السلفية مضاد تماما لمنطق الحداثة. ومعلوم أن السلفية القديمة قبل ألف سنة كفرت المعتزلة وأباحت دمهم بنص الاعتقاد القادري الصادر عام 1017 ميلادية. وقد استتابوهم فمن تاب عفوا عنه ومن أصر على موقفه قتلوه. ثم حرقوا كتبهم حتى اختفت من ساحة التداول أو كادت. ولهذا السبب أبيدت فرقة المعتزلة من التاريخ الإسلامي ولم يبق لها أي أثر في حين أنها كانت مزدهرة جدا إبان العصر الذهبي. نلاحظ أن داعش لم تعد تستتيب أتباع المذاهب الأخرى عندما تقع عليهم وإنما تقتلهم مباشرة دون نقاش. ليس هدفي أن أحصي كل مسلمات السلفية. فهي عديدة. ولكن يمكن القول بأنها سجن توتاليتاري كبير. اقرأوا تعريف حسن البنا للإسلام أو للنظام الإسلامي. شيء مخيف. تكاد تختنق. لا تستطيع أن تتنفس. انه يتحكم بكل شاردة وواردة في حياتك اليومية. قبل موته بقليل فكك محمد أركون الجدران العازلة لهذا السجن العقائدي الرهيب الذي يكبل العالم العربي حاليا. انظروا كتابه: «ألفباء الإسلام: لأجل الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة». وقد ترجمناه إلى العربية تحت عنوان: «تحرير الوعي الإسلامي. نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة». في رأي محمد أركون فإن العرب والمسلمين ككل منغلقون على أنفسهم داخل سجن عقائدي كبير عفى عليه الزمن ولكنه لا يزال ساري المفعول حتى اللحظة. ولن يدخلوا التاريخ ولن يلحقوا بركب العالم المتقدم ما لم يفككوا جدران هذا السجن التراثي الرهيب ويخرجوا منه. ينبغي أن نعترف بأن الفكر العربي لم يواجه بعد يقينياته التراثية المتحجرة على عكس الفكر الأوروبي. من هنا تقدمهم وتأخرنا. فالعديد من المثقفين العرب (حتى ممن يدعون الحداثة!) يرفضون مراجعة اليقينيات القروسطية القديمة بحجة أنها «من ثوابت الأمة». وبالتالي فلا يجوز المس بها حتى ولو ذهبت بنا في داهية وأوصلتنا إلى داعش! ومعلوم أنه لا حل ولا خلاص من دون غربلتها ومراجعتها تماما كما فعل فلاسفة الأنوار الأوروبية مع اليقينيات المسيحية المشابهة. هامش ثاني مع موضوع هاشم صالح مراجعات المسيحية قد يقول قائل: ولكن المسيحية كانت أيضاً سجناً كبيراً، وكانت تكفر كل الأديان الأخرى من خلال الفتوى اللاهوتية التالية: «خارج الكنيسة الكاثوليكية الرومانية المقدسة لا نجاة في الدار الآخرة ولا مرضاة عند الله». بمعنى: كل الأديان الأخرى باطلة بل وحتى كل المذاهب المسيحية الأخرى باطلة ما عدا المذهب الكاثوليكي البابوي. وهذا يقابل تماماً حديث الفرقة الناجية عندنا. وأجيب: هذا صحيح. ولكن مفكري المسيحية في أوروبا تجاوزوا هذه المقولة واعتبروها لاغية بعد انعقاد المجمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني (1962 ـ 1965). واعترفوا عندئذ بأن هناك عدة طرق تؤدي إلى الله لا طريقاً واحداً إذا ما خلصت النوايا وصلحت الأعمال. وهكذا اعترفوا بالإسلام كدين حقيقي مرضيّ عند الله بعد أن كانوا قد عادوه وكفّروه زمناً طويلاً. بل واعترفوا بالأديان غير التوحيدية أو غير الربوبية كالبوذية والهندوسية. بل واعترفوا بغير المؤمنين أو غير المتدينين على الإطلاق وفتحوا مكتباً في الفاتيكان للحوار معهم. وهم أتباع الفلسفة التنويرية الخارجة على كل الأديان والطقوس ويمثلون الأغلبية في أوروبا حالياً. هذه الثورة اللاهوتية التحريرية التي حصلت في أوروبا قبل خمسين سنة بالضبط، لا يزال العالم الإسلامي عاجزاً عن تحقيقها حتى الآن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©