الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أسيجة الدوغمائية

أسيجة الدوغمائية
1 ابريل 2015 22:07
الدوغمائية هي بنية الحقيقة التي ترتكز على معطيات خارجية عن العقل النقدي المستقل، وهي خارجة عن سلطته ولا تخضع للفحص والدراسة العقلية النقدية. إنها كل ما يضعف أو يقتل التفتح الأقصى للإنسان أو يعرقل هذا التفتح أو يحرفه عن مساره الصحيح أو يلغيه. وهي كل ما يحول بين الإنسان وبين تحقيق حريته في هذا العالم لتحقيق رسالته الإنسانية ضمن مناخه الاجتماعي والثقافي والكوني. الدوغمائية هي الشيء الذي تنتفض الروح ضده فورا وترفضه بقوة، ولكنه مع ذلك يستمر في فرض وجوده على أرض الواقع مظهراً عجز الإنسان على تجاوز تناقضاته التي يتخبط بها. إنها كل شيء يقتل في الإنسان إنسانيته ونزعته نحو الإبداع، كل شيء يخنق نسمة الحرية الخلاقة في داخله.. هي دائما موجودة، ولكنها تتضخم بالطبع في مجتمعات القمع المغلقة التي تنعدم فيها الحريات، وتقوم بتقليص العقل واختزاله بهدف تأمين بقاء القيم الهشة المنزوعة من سياقاتها، ومن سياقات الحداثة لتحيل العقل إلى عقيم لا يمارس إلا هيمنة من نمط أيديولوجي. ومازال مصطلح الأصولية غامضاً وملتبساً؛ ولكنه يستعمل للدلالة على التعصب المتمركز حول الدين والمرتبط بتأويلات خاصة لحقائقه ولمعطيات المعرفة الدينية والمبادئ التي تدعو إليها. احتكار التراث مشكلة العقل الإسلامي الكبيرة اليوم هي احتكاره التراث لصالح مفهوم الحقيقة المطلقة، التي تسجن المسلم داخل سياج دوغمائي مغلق، وداخل نموذج للإنتاج التخيلي المكرور المشروخ لتاريخه. إن الأزمة التي طالت كل المسلمين في مجال المعرفة الإسلامية، هي أزمة فكرية وحضارية مركبة فعدم تعريض هذا الفكر للنقد طويلاً يتحمّل مسؤولية رئيسية في سيادة الدوغمائية التي تتغذّى من الخطاب الأصولي المطلق المهيمن اليوم. هناك رواسب ثقافية واجتماعية ينبغي أن تزحزح ويتم تجاوزها، وقوى سياسية يجب أن تعرى لأنها تحاول باستمرار أن تحتكر «المقدس» لنفسها بسبب نقص مشروعيتها ومشروعية أجنداتها. حتى أن أحد سمات السياج العقائدي المغلق لهذا الفكر هي رفض كل محاولة للتمييز بين العاملين الديني والسياسي، فلا يستطيع المسلم المعاصر أن يتخيل أنه يمكن فصل الدين عن السياسة أو الجامع عن الدولة. الصعوبة الكبرى التي تواجه العالم الإسلامي اليوم هي في كيفية تحرير العقل النقدي من القيود التي فرضها العقل الدوغمائي. ولكي نتجاوز الأذية الدموية لهذا السياج الشائك، لابد من تطبيق القراءة التاريخية للخطاب الإسلامي، قراءة تقدم إطاراً فعلياً لتحليل وتأويل جميع أشكاله المعاصرة، على جميع مستوياته، مما قد يشكل عنصراً حاسماً في مواجهة الفكر الأصولي الذي يهيمن على المجتمعات العربية والإسلامية اليوم. وتكمن الخطورة ممّا نشهده من استخدام الحركات الأصولية للفكر الديني المغلق بوصفه أداة وقوّة لاعقلانية لكنها في نفس الوقت كفيلة باستقطاب الشباب. وماهو واضح أن مشكلات زمننا الراهن تعود إلى الماضي البعيد وتمتدّ جذورها في أعماقه، بحيث بات يصعب فهم هذا الحاضر وتشخيص معضلاته من دون الغوص عميقاً في أعماق تاريخنا، وذلك لأنها باتت تشكل مظاهر ودلالات تمثّل حالة ذهنية وعقلية يصعب التشكيك في قوتها وفي كونها محركة أساسية وفعّالة للتاريخ. التنظير والتطبيق تعتمد الثقافة الأصولية الدوغمائية على القراءة الحرفية الظاهرية للأيات القرآنية، الدالّة على العنف وعلى وجوب إخضاع الأمم جميعها إلى الإسلام، في تجييش الشباب وخوض المعارك على أكثر من جبهة. ويرفض الأصوليون بكل فئاتهم استخدام المنهج التاريخي في قراءة مثل هذه الآيات وكونها نزلت في مرحلة من التاريخ الإسلامي خلال الفتوحات، ويصرون على قراءة النص القرآني على أنه وحدة واحدة، وأنه لا اجتهاد في النص، وأنه يصلح لكل زمان ومكان ولكل الأمم. وهذا هو أحد أخطر العقبات الأساسية أمام قراءة منفتحة للنص الديني تميّز فيه بين ما هو فعلاً صالح لكل زمان ومكان من قيم روحية وإنسانية، وبين ما هو خاص بمرحلة محدّدة من التاريخ لم يعد لها أي وجود في عصرنا الراهن. ترفض تلك الجماعات، وبحدة عنيفة، كل ما أنتجته الإنسانية من إبداع فكري وأدبي وفني، وتحرمه على افرادها باسم الله، فربما من الخوف نشأت وعلى الخوف تربت، والتخويف اتخذته منهجاً لفرض وجودها. من الواضح دائما أن العنف يجند الأيديولوجية بقدر ما تحرض الأيديولوجية على العنف، ولكن لماذا يتم تجنيد الأيديولوجيات الدينية على وجه الخصوص؟ إن الطابع غير العقلاني والمطلق هو الذي يجعل الأديان مفيدة لتأجيج صراع خطير. ولم يكن هذا لينجح مع التوجه العقلاني الذي يفترض أن جميع الصراعات يمكن حلها عن طريق المفاوضات. قصة إسباني في هذا السياق قرأت ذات يوم قصة عن قوات الميليشيات في الحرب الأهلية الإسبانية التي وجدت نفسها تلجأ إلى كنيسة ولم تستطع النوم إلى أن أطلقوا النار على جميع رؤوس التماثيل والرموز التي تصوروا أنها تراقبهم وتشهد عليهم. ومع ذلك ليس هناك ضرورة لأن يكون الارتباط بواسطة الدين، فقد يكون هناك ولاء مطلق متعصب أعمى وانغلاق فكري ثقافي متشدد حتى من الملحدين المستعدين للتضحية بحياتهم بالسهولة التي يضحون بها بالآخرين. والتاريخ يشهد على تضحيات الجيش الأحمر في عام 1945، والمتطوعون الشيوعيون في الحرب الأهلية الإسبانية، والفيتكونغ وحلفاؤهم، كل حارب بشجاعة استثنائية ووحشية أيضاً. ومن جهة أخرى كانت هناك موجات من الإرهاب في السبعينيات من القرن العشرين، مثل عصابة بادرماينهوف في ألمانيا، والمنتورينوس في الأرجنتين، والألوية الحمراء في إيطاليا، ونمور التاميل في سري لانكا. ولكن الجزء الأكبر من العنف المتعصب في العالم كان تحت شعارات دينية. وليست القضية فيما لو إذا كان «الدين»، من الناحية الأخلاقية، أفضل أو أسوأ من غيره، فقد تكون الأيديولوجيات العدمية والعنيفة أحيانا دينية وأحياناً أخرى إلحادية. إن أحد الأشياء التي تغذي التعصب هو مسافة بعده وغربته عن الثقافة المحيطة به. وهذا بالتحديد ما يشعر المعتقدات بالغربة والتهديد. فتنتج هذه المتلازمة شكلاً مخففاً يدعى «الطوائف» الدينية، لكنه في أشكاله المرضية الحادة فإنه يولد متعصبين غاية في الخطورة. يملك البشر بالفعل خيالاً رائعاً وخلاقاً في إيجاد الطرق دائما للكراهية وامتهان إنسانية بعضهم البعض، متجاهلين أي اعتبار لقدسية أي دين، عندما ينغلق هذا الخيال على تصور محدود. أسباب قهرية ولكي نكون منصفين فإنه كانت هناك دائماً أسباب قهرية عديدة بدأت منذ زمن طويل تحرف المسارات باتجاه التصلب الأيديولوجي الهوسي، وتدفع تلك الجماعات إلى خلع القداسة والتعالي على القوانين البشرية السائدة في المجتمعات الإسلامية منذ التاريخ الأول للإسلام. لأنه تم اكتشاف أن تعزيز ثقافة التعصب تبقي العديد من النظم المهترئة على قيد الحياة، سواء أكانت من خلال سياسة الإقصاء، من خلال أجندات متطرفة، أو من خلال استغلال المخاوف الوهمية والإحساس بانعدام الأمن. وبفضل هذا النفاق المذهل للسلطة السياسية التي حكمت العديد من المجتمعات الإسلامية نجدها اليوم هي تجثم، شاءت أو أبت على موقد الكراهية، مع عواقبه المباشرة ضد الإنسان في موطنها، ثم باتجاه باقي العالم. وليس بمقولة جديدة، ولا بفكرة خافية على أحد اليوم أن النخب الوطنية التي حكمت بعد الاستقلال لم تفعل شيئا لتلبية حاجات الناس وفشلت في مشاريع التنمية والإصلاح، بل وهي التي مهدت لظهور الحركات التي تحاربها الآن بالحديد والنار. اتبعت تلك الأنظمة سياسة تقوم على محاربة الفكر النقدي والعقلاني، بل نحت في اتجاه تشجيع الفكر الأصولي المحافظ تحت حجة الدفاع عن التراث والهوية، هذا من حيث الشكل. لكن سياسة الأنظمة الداعمة لمثل هذه الحركات الدينية إنما كانت تقوم على تقديم رشوة بين يدي التأييد من قبل هذه الحركات الجماهيرية لإسباغ مشروعية على الحكم بعد أن فقد هؤلاء الحكام أيّ مشروعية شعبية لسلطتهم. وفي نفس الوقت فإنها مهما حصل لن تشجع على توليد تيار ثقافي فلسفي منفتح، فكيف لا ينصر التيار الدوغمائي وقد خلق من أجله الاغتراب الاجتماعي الموسع، والفقر الإنساني الشامل المؤسس على القهر والقمع والتجويع، وعن طريق اعتماد سياسات تعليمية ـ إعلامية، تمحو الأمية نعم ولكنها تمنع العقل الفاعل. التغييب الطويل للحريات العامة والخاصة، وفرض الثقافة الأحادية المؤطرة، هو الذي سمح في الواقع بأن تكون الرعية الخاضعة للسلطة الحاكمة نسخة طبق الأصل عن حكامها في تبنيها الفكر السلطوي، وثوابت الرأي الأحادي، ورفض الاعتراف بالآخر، تقديس الثبات والعادات، إلغاء المبادرة الفردية، وإلغاء الحوار والفكر النقدي. يقول الكواكبي أن: الجماعة التي يطول عهدها بالاستبداد، تتطبع بأخلاقه ومشاربه، حتى يغدو الاستبداد فيها طبعاً وطبيعة. كانت المجتمعات الإسلامية في وقت قريب مجتمعات دينية معتدلة رغم محدودية ثقافتها، لكن الخطير أنه يتم اليوم امتصاص حتى المجتمعات الإسلامية المعتدلة في دوامة هذا التعصب وهذا العنف. على مايبدو أن الغرب يحبذ انتشار الأصولية والتطرف ويحبذون انحراف الإسلام نحو العنف السياسي. ومن ثم يدينون هذا الانحراف فيما بعد بطريقة غير صحيحة واحتقارية مستفزة. صحيح أن الفقر والقمع والانغلاق السياسي في دول الشرق الأوسط هو المسؤول عن خلق التطرف الديني، ولكن الأوضاع المتردية تلك كانت مبرمجة من قبل استراتيجيات التوسع والهيمنة واقتسام العالم من جانب القوى الكبرى التي تتحكم باقتصاد العالم وتحسم قراراته السياسية، وتشجع الثقافة الدوغمائية المغلقة.. كل ذلك كان يتم بعلم القوى المتحكمة وتحت ناظريها. هامش مع ص 13 الحل والثمن من الطبيعي أن تتضافر الإكراهات الداخلية والاكراهات الخارجية لكي تجعل أحوال العالم العربي والإسلامي في وضع لايحتمل ولايطاق، وبالتالي كان الانفجار محتوماً، والتوجه نحو التطرف الثقافي والممارسات الإرهابية العنيفة نتيجة طبيعية. ففي ظل الفراغ الثقافي الكبير الذي تشهده المجتمعات العربية والإسلامية لم يبق إلا النزعة التبشيرية العتيقة لتملأ هذا الفراغ، والناس يميلون إلى الاستعصام بتراثهم في أوقات الشدة والضيق. وهذا ينطبق على شعوب الأرض، لأن النزعة التبشيرية هي ما يعطي بعض الأمل بالخلاص عندما يقتلع الناس من جذورهم وأرضهم وإنسانيتهم، وتمارس بحقهم كل الانتهاكات الإنسانية العنيفة. الدوغمائية هنا مدرسة فكرية دخيلة غير أصيلة، رافضة للتاريخ ومساره وخبرة مجتمعاته، تحاول أن تجد لها موضعاً في هذا الزمن القائم على الإقصاء والإلغاء والاستغلال، بإيجاد صيغ جماعية تأويلية للدين، تستطيع من خلالها التأثير على مسارات التحولات السياسية والدينية. ومن خلال الاستعصام والتمترس خلف السياجات الشائكة للفكر الجامد والثقافة المؤطرة العقيمة باعتبارها منهجاً عنيفاً لإثبات الذات التي لم تنتج سوى العنف حلاً، والدم والدمع ثمناً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©