الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفيلسوف في عصر الرعاع الدموي

الفيلسوف في عصر الرعاع الدموي
1 ابريل 2015 21:40
يحدوني السؤال دائماً عن الكيفية التي يمكن فيها أن تصبح المعرفة الفلسفية أكثر من كونها مجرَّد تخصص معرفي أكاديمي مختبئ داخل أسوار الجامعات، يترهَّطها معتكفاً بين أروقتها، بل كذلك الكيفية التي يصبح فيها الفلاسفة أو أصحاب المعرفة الفلسفية أو المتفلسفة أو أهل الفلسفة مجرَّد (معلِّمي) حكمة فلسفية فقط داخل أسوار معينة دون غيرها، من دون بخس حق المعلِّم وهو الذي كاد أن يكون رسولا؟؟ في غضون ذلك، راق لي قراءة مقال الزميل الدكتور (رائد جبار كاظم)، التدريسي في (الجامعة المستنصرية)، الذي جاء إلى عنوان «أستاذ الفلسفة من الوظيفة الجامعية إلى الوظيفة الاجتماعية»، لما فيه من دعوة حاثة لتفعيل دور الأستاذ الجامعي أو معلم الحكمة الجامعي ـ الأكاديمي في راهن عصرنا الذي تشي دمويته بما لا يُحمد عقباه في ظلِّ بربرية العقل التدميري الذي يتسلَّح به رهط رعاعي ضال بات يقمع الإنسان ويقتله ذبحاً وحرقاً على مرأى العالم الذي صار قرية مصغَّرة يجتمع إليها همس البشر في آن زماني واحد فتتناقل صور لاهوت البشاعة بين أطراف المعمورة دون حرج ولا إبطاء وموانع. لا شك أن الراهن الدموي يمثل (حدثاً) بل (استثناءٌ) نافر الحضور، ويمثل أيضاً ظاهرة ظلامية رعاعية تدميرية لا تمل من تغييب بنيان الله في الأرض (الإنسان)، وهو ما يتطلَّب الإصغاء الحقيقي إلى دور (صاحب المعرفة الفلسفية) = (المتخصِّص بالمعرفة الفلسفية تداولاً وتفكيراً)، و(المتفلسف) ذلك الكائن المعرفي الذي لا يمكن النظر إليه بوصفه المتحذلق (Pedant)، بل الشخص المعرفي الذي يُفلسف الوعي بوصفه مَلَكَة الإنسان الأكثر افتتاناً بصوت الحرية والعدالة والسلام الإنساني والبيئي والمجتمعي والكوني حتى يحوز نعت (الفيلسوف)؛ الفيلسوف هو صاحب العقل الإصلاحي التعميري مقابل رهط تدميري همجي تدفعه غرائزه المتوحشة إلى القتل بكل صوره البشعة، وإنزال فداحة عدمية صاخبة لا يستحقها الإنسان الذي قطع أشواطاً من التقدُّم المعرفي والعلمي والجمالي والروحي لتهذيب بشاعة الوجود البشري غير الأصيل تلك التي يمثلها الشر القميء الذي يرزح فيه. يعاني الحراك الفلسفي المعاصر في العراق من هيمنة الاشتغالات الفلسفية المتطابقة مع كينونتها المعرفية على حساب علاقتها المعرفية المتوثبة مع حراك الواقعي اليومي، وهو بذلك لا يكرِّس تاريخانيته الأصيلة، إنما انسداده التاريخي، ونسيانه للتعامل الحيوي مع صيرورة الحال البشري بكل صوره اليومية التي باتت سريعة الأثر والحضور الكارثي. مهندس المعرفة كان ذلك وما زال أمره طبيعياً في ظلِّ حداثة الإقبال على تجديد الدرس الفلسفي في العراق، ومحاولة العودة إلى موروث العراق الفلسفي الريادي التنويري الزاهر الذي بدأ في العالم العربي والإسلامي منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري بمدينة الكوفة مع جابر بن حيان (101/ 117 ـ 193/ 194هـ)، الذي، وعلى هامشه الفلسفي، ابتنى واصل بن عطاء (81 ـ 131هـ) في مدينة البصرة عمارة النَّظر العقلي الكلامي عبر تطلُّعات الاعتزال العقلي، ومن ثم أخذ الفيلسوف الكندي (185 – 256هـ) زمام المبادرة حتى بدا المهندس الميداني للمعرفة الفلسفية بين الكوفة وبغداد في ظل أنوار (بيت الحكمة) الذي انخرط في مشروعه المعرفي والفلسفي والعلمي النهضوي ذاك بُعيد تأسيسه عام 217 هجرية حتى صنع مجده الذهبي لأنه انطلق من رؤية تاريخانية أدركت أهمية خلق بنية معرفية منظَّمة من حيث التكوين والغايات فكان زمانه وعصره. إن كل ذلك، يتطلَّب اليوم تحقيق (فتح) جديد الحضور للمعرفة الفلسفية، ولصاحب هذه المعرفة معاً في تناغم خطابي فلسفي مؤثث بروح الانفتاح الأصيل مزدوج الفاعلية، الانفتاح على الذات؛ ذات المعرفة وذات الفيلسوف معاً، والانفتاح على الآخر، على العالم من حولنا في الآن ذاته. كان الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر قد تحدَّث عن (الفتح) = (Erschlie?ung) = (Opening) الذي يلعبه (الدازين) عندما يمارس وجوده في حدوث ما، فقال: «ينطوي حدثان أو حدوث الدازين في ماهيته على الفتح والتفسير. وانطلاقاً من هذا الضرب من كينونة الكائن، الذي يوجد على نحو تاريخاني، تنبثق الإمكانية الوجودانية للشرح والإدراك الصريح للتاريخ» (1). فما يحتاجه صاحب المعرفة الفلسفية، إنما هو الوعي الأصيل بهذا (الفتح) في كينونته وكائنيته معاً، فهو الكفيل بجعل هذا الكائن المعرفي يترجَّل من كونه المعرفي المعزول وغير التاريخاني صوب الانخراط في المجتمع ليمارس وجوده ودوره التاريخي، ويجعل من معرفته الفلسفية تمارس تاريخانية (Geschichtlichkeit) = (Historicity)؛ فعلها الحقيقي الأصيل بوصفها أحد ضروب الحدوث في لحظة زمانية تنتج ذاتها عبر تأويل وتقويض فاعل للتحديات الذاتية والموضوعية التي تخصُّه هو دون غيره كموجود معرفي وكأنطولوجيا بشرية؛ كوسيط جامعي بين المعرفة الفلسفية وتلميذها الجامعي، وكوسيط بين المعرفة الفلسفية والمجتمع خارج أسوار الجامعة، كمستحضِر لإرادة الرغبة بالتنوير، والتخلُّص من الشعور الحاد بالغربة السلبية، وتفادي التعالي على أنموذج فيلسوف يمكن أن يكون هادياً لمشروع تنويري ما، وتبديد مخادعة الحدوث التاريخاني لفعل التفكير الفلسفي التي يبدها هذا الطرف أو ذاك، والنَّظر إلى ما يجري كاستثناء وحدث. تجربة مزدوجة 1. لا يمكن لأي دور معرفي أصيل يضطلع به الفيلسوف أو صاحب المعرفة الفلسفية من دون التوافر على إرادة حقيقية بالتنوير، وهي إرادة تعود إلى الذات/ ذاتها بداية في كل مرَّة لفتح إمكاناتها على الوجود والحضور بمعنى الفتح على الغير أو الآخر المحلي في أقل تقدير، فمن دون الإيمان بقدرة (الذات) على ممارسة ما هو تنويري لا يمكن الانطلاق نحو الوجود والحضور الفاعل فيه. يتخذ التنوير هنا طابع تجربة ذاتية مزدوجة بدايةً؛ تنوير معرفي وتنوير مجتمعي، وكلاهما يتظافر لخلق مقروء فلسفي عن الوجود منفتح على اللحظة التاريخية حتى يكتسب ويتحصَّل على تاريخانية حدوث اللحظة وانبثاقها في ضرب من الوجود معاً. وهذا يعني أن التنوير ليس فقط التخلص من قصور العقل عن أداء دوره، إنما قصور الذات البشرية عن ذلك وهي تعيش إحباطها الغريب، وقصور الرغبة بفعل تاريخاني ينبثق من صميم الذات البشرية حتى يبدو لي أن التنوير هو فتح المعرفة على العيش معاً في العالم من حولنا، وعدا ذلك لا تمثل معرفة الفيلسوف إلا كينونة تتغنى بذاتها لإرضاء رغباتها المعرفية معزولة في برجها المظلم. ولما كانت الفلسفة وطن العقل، فإن فعل الفيلسوف التنويري يتخذ من العقل دُربة ودرب له. وإذا كان «عصر التنوير الأوروبي عدَّ التراث المكتوب للنص المقدَّس موضوعاً للنقد» (2)، فإن الفيلسوف التنويري المأمول لا بد له من اتخاذ الواقع المتحرِّك موضوعاً للتفلسف والنَّقد كمَهمة فلسفية وكتجربة ذاتية مرتبطة بوجوده ككائن يُفلسف اللحظة بأفق مزدوج المسار؛ أفق ذاته على الواقع، وأفق الواقع على ذاته عبر اعتماد العقل بما له من أحكام صادقة لا تأخذ البشر إلى دروب غارقة في أوحال التجريد المطلق المنغلق على ذاته، وذلك يتطلَّب وثبة نقدية عقلية تأويلية استثنائية ترعى مسؤولية الانخراط الأصيل في الحياة والوجود. غربة الفيلسوف 2. إن غربة صاحب المعرفة الفلسفية في العراق هي غربة الصاحب نفسه في العالم عبر العصور، بل إن غربة الفيلسوف هي خاصته التي له؛ فالفيلسوف في مائدة الجهلاء غريب، ولنا أن نسأل: ألم يكن سقراط غريباً بين قومه؟ ألم يكن جابر بن حيان غريباً في كوفته؟ وهكذا؛ فالفيلسوف لا يبدو سوى «غريب دوماً وهو يرتدي أفكاره الجديدة» (3)، إذا ما أذعن إلى صوت ذاته التنويرية، وإرادته بفتح وجوده المعرفي والذاتي على غيره في العالم هنا أو هناك. إن الشعور الإيجابي بالغربة، غربة الفيلسوف، يمكن أن يكون موئلاً للانطلاق نحو الحرية والإبداع والتحدي والتصدي شرط أن يكون إيجابي الحدوث. هكذا كان سقراط غريباً لكنه انتفض على قصوره وخيباته وإحباطاته وهو يواجه عدمية ما حوله، ولا معقولية ما يجري بينه وغيره عبر التخلُّص من الشعور السلبي بالغربة، الذي لا يعدو أن يكون طاقة سلبية تعوق الانطلاق بإرادة التنوير الحقيقي؛ تنوير الذات بذاتها وتنويرها بغيرها. بذلك اقترب سقراط من الناس، كما تطالب مقالة الدكتور رائد جبار كاظم، وهو الدرس التنويري السقراطي الذي لا بد من شحذ قواه، واستنفاره، والعمل به رغم التحديات، وهو شحذ يتطلَّب وعياً فلسفياً مغايراً وفاعلاً لدور الفيلسوف أو صاحب المعرفة الفلسفية في العراق الذي يسميه بعضنا بـ (المتفلسف)، وغيرنا يسخر حتى من وصفه بذلك أو بـ (صاحب المعرفة الفلسفية)، وتلك كارثة عمى البصيرة المعرفية التي تجتاح مجتمعنا الذي يستكثر هذه الأوصاف على المشتغلين بالحقل الفلسفي العراقي. إن وعي الفيلسوف بأنه الكائن الغريب بين نفر لا يمل من ترهيطه في بؤرة أن يكون غريباً على الراهن، لا ينبغي اعتباره السد الأخير والنهائي للوجود والحياة؛ ذلك أن استنفار الدور التنويري العقلي النَّقدي الاستثنائي للفيلسوف أو صاحب المعرفة الفلسفية لا ينبغي أن يغادر - هذا الكائن الخلاق - الشعور بأنه (الغريب) في مجتمع معرفي أو وطني أو قومي أو كوني، فذلك من الحوافز التي تجعله أكثر صدقاً وولاءً للفلسفة شرط أن يتخلَّص من الشعور السلبي بالغربة نحو شعور حيوي يفكك بمقتضاه سطوة ذلك الشعور الضار؛ إذ من الممكن أن تكون غريباً في مائدة الجهلاء، وأن تكون غريباً في وطنك أو أي وطن بديل، لكنكَ لا يمكن أن تكون غريباً في وطن المعرفة؛ فهو مرعاك الذي لك، وبضاعتك في تداول الحياة والتأثير في وجود الحياة بكل صوره وأشكاله وطبائعه وتحولاته. ماضوية بائسة 3. إن تداول دور الفيلسوف على نحو تاريخاني، بمعنى اشتغال إمكانات التفكير الفلسفي الأصيل وفق زمنية راهنة، يتطلَّب استحضار أنموذج فلسفي قطع شوطاً جباراً في تبيئة المعرفة الفلسفية في الحياة، ولنا في الماضي، ومن دون السقوط في ماضوية بائسة، نماذج حرّة؛ منها: سقراط، جابر بن حيان، الكندي، الفارابي، ابن سينا، الغزالي، ابن طفيل، ابن رشد، فجمع هؤلاء كان غريباً قلقاً في مجتمعه، لكنه الجمع الذي حرَّر إرادة التنوير المعرفي لديه من طاقتها السلبية صوب نقيضها فرسم بذلك مرجعية له كفيلسوف بما يجعله أنموذجاً يمكن أن يُحتذى. إن ما يعاني منه الحراك الفلسفي العراقي على صعيد الإنتاج الفلسفي التواصلي الخلاق هو مسحة التعالي على أنموذج فيلسوف ممكن أن يُحتذى، بل ممكن أن يُتداخل معه، وهذا العماء موروث عن مناهج تعليم الفلسفة نفسها التي فُطرنا عليها في بغداد والكوفة سوى من أدرك فخها المقيت وتخلَّص منه. 4. إن الفعل المعرفي الفلسفي التاريخاني الأصيل، وفي ظل العصر الدموي الذي يحاصر الوجود البشري من كل جانب، لا بدَّ له أن يضطلع، وعبر صاحب المعرفة الفلسفية أو الفيلسوف أو المتفلسف أو أهل الفلسفة، بتركيز النظر في (الاستثناء)، في (الحدث)، أو، وبحسب آلان باديو، «أن تلقي الفلسفة ضوء على قيمة الاستثناء؛ قيمة الحدث، قيمة الانقطاع، وأن تفعل هذا بمواجهة استمرارية الحياة، وبمواجهة التحفُّظ الاجتماعي» (4). بات الراهن يُنتج استثناءاته الكبيرة، إنه يُنتج أحداثه المروَّعة والمروِّعة في آن واحد، فكل صور الموت والدمار والخراب التي كانت تجري في الماضي هناك لا تدريها إلاّ بعد حين، أما الآن فكل الذي يجري هناك تراه هنا والآن، وما يجري هنا والآن يراه غيرنا الذي يعيش هناك، ولعل جريمة حرق الطيار الأردني بغض النظر عن صدقها أو كذبها، وكذلك جريمة ذبح الأقباط المصريين، بل وما جرى في العراق بُعيد الاحتلال الأمريكي البشع من ذبح وقتل وإعادة تفخيخ للجثث مقطوعة الرأس، خير أمثلة على ذلك، فكلها (أحداث)، كلها (استثناءات) مدوية وصارخة الحدوث تستدعي صاحب المعرفة الفلسفية للتفكير فيها على نحو تاريخاني ولا يجب أن نزيحها إلى النسيان لكي لا نخرج أصلاً من التاريخ، ونكون بذلك أصحاب معرفة خارجة عن التاريخ بينما ينتج الرهط التدميري الرعاعي الذي يقتلنا ذبحاً وحرقاً ويشوينا على نار هادئة حتى يحيلنا عدماً؛ فلقد رأينا كيف يذبح الدواعش تراثنا على نحو مُستباح، ورأينا كيف أقبلوا على استخدام (السيوف) في تهشيم اللقى الأثرية في (مُتحف الموصل) نهاية فبراير 2015، وكذلك تفخيخ وتفجير (مسجد الخضر) التراثي بالموصل نفسها وهو المسجد الذي يعود إلى القرن التاسع الهجري، وبالتالي تدمير (مدينة نمرود) التاريخية مطلع فبراير 2015. إنها سيوف الذبح التي استخدموها في قتل العراقيين والعرب في غير مكان عبر إرهابها الجديد، إرهاب صار «يسطو على الثورات العربية، ويريد تحويل الشعوب إلى رعاع، والدولة إلى خلافة، والمرأة إلى جارية، والمدن إلى حطام، والبشر إلى جثث ورؤوس متناثرة هنا وهناك، إرهاب يريد شعوباً تأكل أبنائها، وأبناء يدمّرون مدن آبائهم، وعصابات ما بعد حديثة لا إنسانية للتجارة بشعوبها، هذا هو الإرهاب الجديد الذي حوّل الله وعباده إلى مُكنة للتجارة بالسلاح والأرواح» كما تقول أم الزين المسكيني؛ إرهاب صار أصحابه «يتجوّلون في قلب العواصم العربية على ظهور الدبّابات في شكل من الغزو البربري، والوقاحة اللاهوتية، والعراء التشكيلي، والصفاقة الكلبية؛ فتراهم يقتّلون ويذبّحون قُرى بأكملها وعائلات وعشائر، وينثرون الرعب والخراب حيثما حلّوا؛ كلّما دخلوا مدينة إلاّ وصارت ركاماً» (5). الفيلسوف المأمول لقد راق لي استحضار وصية الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الرابعة (من بين وصايا أخرى) وهو يفكِّر حال الفلسفة في أثناء ملتقى عُقد في (جامعة باريس العاشرة) خلال تشرين الأول/ أكتوبر 1984 تحت عنوان (لقاءات بين المدرسة والفلسفة) قائلاً: «إن الفلسفة تتجاوز مؤسساتها، ويجب عليها تحليل تاريخ ووقع مؤسساتها الخاصة، ويجب عليها أيضاً أن تظل حرة في كل لحظة، وألاّ تطيع سوى الحقيقة، وقوة السؤال أو الفكر، ومن حقها أن تقطع الصلة مع كل رباط مؤسساتي؛ فما هو خارج المؤسسة يجب أن يتوافر على مؤسساته دون الانتماء إليها» (6). إن أنموذج الفيلسوف المأمول راهناً، لا بدَّ له أن يستحضر إرادة الرغبة العقلية الحقيقية بالتنوير بعيداً عن أية ميول جهوية أو أسطورية أو خرافية متعالية كما كان التنوير الأوروبي في بعض أشكاله الذي استركن في باحات ذلك وسقط في فخاخها مهزوماً. والتخلُّص كذلك من الشعور الحاد بالغربة السلبية بتفكيك - هذا الشعور - ودحره صوب الانفتاح عبر التفاعل الخلاق بين الفيلسوف والمعرفة والواقع المعاش، وكذلك تفادي التعالي على أنموذج فيلسوف يمكن أن يكون هادياً لمشروع تنويري ما، وتبديد مخادعة الحدوث التاريخاني لفعل التفكير الفلسفي التي يبدها هذا الطرف أو ذاك من دعاة اليأس الذاتي الذين عجزوا عن امتداد معرفتهم الفلسفية وملامستها مع حراك الواقع المجتمعي خارج الإطار المؤسساتي. والنَّظر إلى ما يجري في الواقع كاستثناء وحدث وانقطاع لا مجرَّد صيرورة غُفل تأتي وتمر وتذهب بحيث تهيئ - هذه الثلاثية المفهومية - لبنية المعرفة الفلسفية طابعها في أن تكون استثناءً وحدثاً وانقطاعاً معرفياً، وتهيئ تجربتها التاريخانية أيضاً لولادة فيلسوف الاستثناء المعرفي، فيلسوف الحدث المعرفي، فيلسوف القطيعة/ الانقطاع المعرفي الفلسفي. بهذا يمكن أن تصبح المعرفة الفلسفية التنويرية أكثر من كونها مجرَّد تخصص معرفي أكاديمي خبيء أسوار الجامعات سجينها. ....................................................... الهوامش: (1) مارتن هيدغر: الكينونة والزمان، ترجمة: د. فتحي السكيني، مراجعة: إسماعيل المصدق، ص 674، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2012. (2) هانز جورج غادامير: الحقيقة والمنهج.. الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة: علي حاكم وحسن ناظم، مراجعة: د. جورج كتورة، ص 377، دار أويا، طرابلس، 2007. (3) آلان باديو وسلافوي جيجك: الفلسفة في الحاضر، تحرير: بيتر إنغلمان، ترجمة: يزن الحاج، ص 34، دار التنوير، بيروت، 2013. ملاحظة: (النُّصوص المقتبسة في هذه الدراسة هي خاصَّة بما رود في الكتاب بقلم آلان باديو). (4) آلان باديو وسلافوي جيجك: المصدر السابق نفسه، ص 26. (5) د. أم الزين بنشيخة المسكيني: في تأويل الإرهاب، (مقال) منشور في موقع الأوان الإلكتروني، 25 شباط/ فبراير 2015. (6) جاك دريدا: عن الحق في الفلسفة، ترجمة: د. عز الدين الخطابي، مراجعة: د. جورج كتورة، ص 567، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2010.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©