الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

واقعية سحرية وذاكرة شخصية تمتحنان السائد السينمائي العربي

واقعية سحرية وذاكرة شخصية تمتحنان السائد السينمائي العربي
10 أكتوبر 2009 01:05
أثناء تقديمه لفيلم افتتاح مهرجان الشرق الأوسط الدولي بأبوظبي في القاعة الكبرى لقصر الإمارات ليلة أمس الأول، تحدث بيتر سكارليت المدير التنفيذي للمهرجان بحماس عن باكورة أعمال المخرج المصري أحمد ماهر والذي حمل عنوان «المسافر»، وأثنى سكارليت على مخرج الفيلم الذي أمضى فترة طويلة من حياته في إيطاليا، وأنه ــ أي المخرج ــ معجب بعوالم الروائي الكولومبي الشهير جابرييل جارسيا ماركيز، هذا الحماس الذي أظهره سكارليت قد يفسر الخيارات الفنية لمدير المهرجان الذي يهوى الأفلام الشخصية والأعمال المستقلة والذاتية، هذا الهوى المستمد بطبيعة الحال من مناخات واتجاهات الأفلام التي يعرضها مهرجان «ترايبيكا» السينمائي الذي ترأسه سكارليت لفترة ليست بالقصيرة، جاء هذا التقديم أيضاً بمثابة تمهيد لأجواء الفيلم المشحونة بملامح الواقعية الإيطالية الجديدة وسينما المؤلف والواقعية السحرية، وهي خلطة غريبة ونادرة في التجربة السينمائية العربية التي لم تألف وضع كل هذه الطرائق التعبيرية المختلفة في فيلم واحد. إبراهيم الملا يبدأ الفيلم بتعليق مقتضب لصوت الراوي ـ عمر الشريف ـ حول زمن الفيلم الذي يعيد النبش في تفاصيل ثلاثة أيام فقط من حياة الراوي تمثل رمزياً الانعطافات الثلاث الكبرى في التاريخ المصري الحديث (الحرب العالمية الثانية، وحرب أكتوبر، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر)، ويلمح الراوي أيضاً لتجربته الشخصية المرهقة وبحثه المضني عن مشاعر الحب التي لم يعثر عليها أبداً. اليوم الأول يعود بنا إلى خريف العام 1948 في مدينة بورسعيد بالتحديد، عندما يأتي «حسن» الشخصية المحورية في الفيلم كي يلتحق بوظيفة عامل تلغراف، يقوم بدور حسن في هذه الحقبة الممثل (خالد النبوي)، عندما يلتقط حسن برقية تفيد بوصول فتاة أرمينية (نورا) ـ سيرين عبدالنور ـ على ظهر إحدى البواخر للقاء خطيبها المصري (فؤاد) ـ عمرو واكد ـ يقرر حسن تقمص دور الخطيب ومقابلة الفتاة، ولكن الأسلوب الذي يتبعه المخرج في مطاردة تفاصيل هذا اللقاء يوحي ومنذ لحظاته الأولى بالاستعداد لتجربة مشاهدة مختلفة وغير تقليدية، فعمل المخرج هنا لا يذهب باتجاه انفعالات الممثل ولا يركز على واقعية الحدث أو اكتمال اللقطة موضوعياً، بل يوجه طاقته الإبداعية وأسلوبه الإخراجي باتجاه الكادر أو الحيز البصري لعين المتفرج، وذلك من أجل خلخلة هذا الكادر واللعب على الطاقات الخفية وغير المطروقة لحركة الكاميرا وتوليف المشهد المبتكر ومفاجأة المشاهد بتنويعات مربكة ولكنها لا تتخلى عن جمالياتها أيضاً، ففي مشهد اغتصاب حسن لنورا في الطابق السفلي للباخرة، ترتفع الكاميرا فجأة نحو سطح الباخرة ويطغى صوت الغناء الحي، ثم تهبط الكاميرا مرة أخرى إلى لقطة متتابعة ولكنها مقتطعة جزيئاً من الكادر نرى فيها جزءاً واحداً من جسد حسن ونورا، وعندما تتجرأ الكاميرا أكثر للخروج من حالة الممانعة أولاً ثم التلصص ثانياً، نجدها وهي تتحرك كي تعرض واقعة الاغتصاب في منتصف الكادر تماماً ولكن بحيادية بالغة ودون ترجمة بصرية عنيفة، وتمضي اللقطة بسلاسة وانسياب رغم دموع ناديا وصدمتها النفسية، كما استحوذت على مشاهد الباخرة الكثير من المشاهد الغرائبية والانتقالات المفاجئة التي تختصر الزمن من خلال التوليف والمونتاج البصري الذي لا يتقصد الإدهاش والتغريب بقدر ما يسعى إلى تحويل الزمن الواقعي إلى ما يشبه السحر الملموس الذي ينشأ عادة في الخيالات المكثفة لأحلام اليقظة، فعندما يتم إنقاذ حسن بعد سقوطه في مياه البحر كي يثير انتباه ناديا، فإن هيئة (فؤاد) الخطيب الفعلي لناديا هي التي تخرج من جسد حسن وهو مسجى على أرضية الباخرة، وهي لقطة تختصر وتكثف وتنتقد الثرثرة البصرية التي عادة ما نراها شائعة في الأفلام العربية، ومن المشاهد اللافتة في الفيلم يبرز مشهد الحريق الذي يفتعله حسن في الباخرة كي يثير مرة أخرى انتباه ناديا، حيث نرى المخرج وهو يستثمر هذه الحادثة كي يبوح بلغته الواقعية السحرية ومرجعياته الأدبية المنحازة للخرافات والأساطير التي يمكن أن تنشأ في قلب الواقع الملموس، فمنظر الخيول المنتحرة التي تخرج مذعورة من إسطبلات الباخرة وترمي بنفسها في البحر كانت أحد المناظر الجمالية الرابحة في الفيلم، وكذلك منظر الطاووس الذي يحمل دلالات أسطورية باذخة كان هو الآخر منظراً يرتقي بالمألوف إلى ما هو مفارق ومتجاوز لهذا المألوف، وقد يكون لإمعان وإصرار المخرج أحمد ماهر في فيلمه الأول على حشد هذا الكم من المشاهد الغرائبية دوراً في إحداث صدمة سلبية لدى المشاهد المعتاد على النمط التقليدي، ولكن ما يحسب للمخرج أن معظم هذه المشاهد لم تأتِ اعتباطاً وكانت منفذة بطريقة جيدة ومن خلال رؤية شخصية وخيال ذاتي يعزز من قيمة الخيال والحدس والحلم، ويستبعد المعالجة الظاهرية للشخصية، وإملاءات الحبكة بشروطها المكانية والزمانية التي تطمس التخييل وتمجد الواقع. وهذا ما رأيناه واضحاً في الجزء الثاني من زمن الفيلم الذي يتقدم بنا إلى خريف العام 1973 وفي مدينة الإسكندرية بالتحديد عندما نرى حسن وهو في الخمسينات من عمره تقريباً يحاول حل لغز الفتاة ناديا ـ تقوم بدورها سيرين عبدالنور أيضاً ـ التي تلجأ إليه عندما يموت شقيقها التوأم علي الذي يشبه حسن تماماً، والذي تعثر ناديا على صورته الملتقطة على ذات الباخرة التي تزوجت فيها والدة ناديا من فؤاد، هذا الشبه الكبير يثير شكوك حسن في أن ناديا وشقيقها علي هما الثمرة المحرمة لحادثة الاغتصاب البعيدة التي طواها النسيان، ولكنها تبعث مجدداً هنا والآن كي تعيد كل الأحداث والذكريات المطمورة إلى السطح مجدداً، ولكن هذا اللقاء العاصف والمفاجئ لا يعالجه المخرج بشكله السردي المباشر، ولكن يتخذ مسارب وأنفاق ودهاليز مدوخة موضوعياً وبصرياً، حيث نلاحظ الجهد الجمالي المميز للمخرج في تكوين المشهد ومنح اللقطة فرصة للهدوء والاسترخاء بعيداً عن القطع الحاد والانتقال السريع المشوش لعين المتفرج، وهذه التكوينات البصرية غالباً ما تأتي مرادفة للحالة الداخلية والحيرة الذاتية للشخوص المحكومة بالمصادفات والأقدار الغريبة. هذه المصادفات التي يمكن لها أن تحول المأساة إلى ملهاة في فارق زمني بسيط وغير ملحوظ، فبعد دفن علي شقيق ناديا في القبر ذاته الذي دفنت فيه والدته يتحول سرادق العزاء فجأة إلى خيمة عرس عندما يصر صديق علي المجنون وتنفيذاً لوصية الراحل على تنفيذ وصيته المتمثلة في الزواج من شقيقته ناديا، وهنا أيضاً يستثمر المخرج هذا الوضع السوريالي كي يلعب على وتر المتناقضات التي تلون حياة البشر وتجعلهم أسرى لمباهج وأحزان تطوح بهم في مسارات غريبة وضارية. في الجزء الثالث والأخير من متواليات العبث المروض والمعتنى به جيداً هذا الفيلم الإشكالي والمثير للجدل، يأخذنا المخرج الذي هو كاتب الفيلم أيضاً إلى القاهرة في خريف العام 2001 كي يصور لنا ذروة الحالة الوجودية المربكة لبطل الفيلم حسن الذي يقوم بدوره وهو في خريف العمر الممثل الكبير عمر الشريف والذي يلتقي بالشاب «علي» ابن ابنته المفترضة (ناديا) كي يبحث فيه عن جذوره القديمة وكي يحل لغز النتائج التي ترتبت على حادثة الاغتصاب التي جرت قبل ستين عاماً، في ما يشبه إعادة تدوير لعجلة الزمن وفتح لصندوق الأسرار الذي يخبئ الكثير من البهجة والكثير من الذنب أيضاً. يصور لنا المخرج في هذا الجزء الطبيعة الروحانية التي يفرضها شهر رمضان على سلوك وتصرفات القاهريين، وذلك من خلال مشاهد تطغى عليها اللقطات العفوية والحميمية ويكثر المخرج في هذا الجزء من استخدام اللقطات العلوية، والكاميرا المحمولة خصوصاً في مشهد المطاردة الشرسة التي تجري بين الحفيد المفترض «علي» وبين منظم مراهنات صراع الديكة، كما يزدحم هذا الجزء باللقطات التي تكسر حدة الواقع وتحتفي بالرموز والدلالات الروحية والدينية مثل طيور الحمام التي تحلق في منزل الجد وسرب الطيور البيضاء الذي يخترق سماء المدينة والمطر الذي يغسل المستشفى وتلك العصافير السوداء التي تمشط مياه النيل، وهي خطابات بصرية تحاور التساؤلات المحيرة التي تطرحها فكرة الموت ومراجعة الماضي والتصالح مع الحاضر، وهي ذات الدلالات التي حاول عمر الشريف أن ينوع أداءه على وقعها و وأن يتلمس خيوطها بخبرته الأدائية الطويلة، وبأسلوبية المخرج أحمد ماهر المتسمة بالجرأة والتجريب واستدعاء الذاكرة الشخصية من أجل اقتحام ذاكرة بلد وهواجس أجيال وندامات تحتفي بما تبقى لديها من فرح!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©