الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اللون الواحد.. الكثير

اللون الواحد.. الكثير
6 ابريل 2011 21:35
تحاول أليسيا غراو، الفنانة التشكيلية الإسبانية أن تقدم عدة عناصر في بنية أغراض لوحاتها: أولها، الصمت الذي نجد أغلبه لديها مرتبطاً بما هو روحي، الهدوء في البحر، الأواني الساكنة، والكؤوس الشفيفة بالأبيض المنساب بعذوبة الفجر، عبر لوحاتها “طبيعة صامتة” التي تجسد فيها اللاحركة والجمال وهو جالس في أوانٍ. ثانيها، التوحد في الأشياء، حيث المآذن البيضاء والقباب التي ترى في الأفق البعيد وقد ران هدوؤها في فضاء خالٍ تماماً. ثالثها، الضجيج في المدن، ازدحامها المتنافس وهيكلها المتراص وعالمها المشرئب وجزئياتها التي لا تحد. سلمان كاصد لكن كيف لها أن تجمع كل هذه العناصر في بنية واحدة، ذلك ما نحاول قراءته في هذه الأعمال: في لوحة “الفتاة الجالسة على الكرسي”، إطراقة هادئة وتأمل شفيف، يخالط وجه فتاة بحزن وألم، حركة مخفية لديها وهي المتكئة على مسند الكرسي، ووجهها المتدلي يوازي كفها المتدلية وثمة بياض في ملابسها يوازي بياض الفراغ على أرضية اللوحة. هذا الصمت الذي نجده في اللوحة هو ذاته نجده في عالم الطبيعة الصامتة، حيث فنجان القهوة المملوء، وإناء الحليب وباقة الزهور وصحيفة لم تقرأ بعد. في لوحة أخرى نجد أكواباً جالسة على حافة طاولة يجمعها البياض إلا كوبين اثنين زرقاوين يمنحان اللوحة خروجاً عن المألوف، أما الزهور في آنيتها وباصفرار فإنها تمنح اللوحة بعداً نرجسياً. التناول واللون تتكرر هذه اللقطة في 7 لوحات من 30 لوحة عرضتها أليسيا غراو في معرضها بأبوظبي مؤخراً بتنظيم من هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، حيث قدمت أعمالاً ذات طابع خاص بها، وينم عن شفافية في التناول واللون، وحملت عناوين منها “الميناء” و”الداخل” و”الفتاة الجالسة على الكرسي” و”الفتاة على الشاطئ” و”الغرفة” و”الشاطئ” و”أبوظبي” و”المدينة” و”الدراجة” و”اللعب” و”فندق شنغريللا” و”الفتاة” و”الليمون” و”الزهور” و”الزهور 2” و”الطاولة” و”الافطار” و”شارع زايد” و”الجدار” وغيرها. في لوحة “المسجد” نجد مئذنتين وقباباً بيضاء، وبحراً في خلفية المعرض وحدائق بأشجار كثيفة تحيط بالمسجد، ثلاثة ألوان فقط في اللوحة الأبيض، والأزرق، والأخضر، من ظلال القباب، من ظلال البياض من وهج الأبيض في فضاء اللوحة تتخلق الأشياء “القباب، المآذن”. من الأبيض يخرج الأبيض، هذا ما أرادت أن تقدمه إليشيا غراو حيث الشفافية تمنح شفافية مكتنزة في داخلها،، حيث السماء لم تكن لديها زرقاء هي بيضاء مثل بياض المئذنة، مثل بياض القبة. الأبيض والأزرق هناك عنصران يدخلان في جميع الأعمال بحساسية مفرطة لدى غراو، وهما عنصران لونيان “الأبيض والأزرق” فقط ربما يكسر نسقهما الأحمر بوردة هنا أو هناك، أو اللون الصحراوي بسقف بناية بعيدة، الأبيض لا يتدرج لديها، والأزرق في أجمل تدرجاته، الأبيض يتراقص بين اللون الحليبي أو لون الوهج الصافي وكأننا لا نبصر تدرجاً فيه. في لوحتها “كوخ على الشاطئ” نتحسس الصمت تماماً، العزلة، الهدوء، السكون الشفيف، الأشياء في اللوحة لا تعني شيئاً سوى الدلالة المليئة بالمعنى البعيد، السماء بيضاء توازي جدران الكوخ البيضاء وسقفه القرميدي الأزرق يوازي لون البحر الممتد، أما الأرض فتبدو بلون الرمل. هذا الوصف يتكرر في أغلب أعمال أليسيا غراو، ففي لوحتها “الفتاة والبحر والطائرة الورقية” نجد بياض السماء يوازي بياض قميص الفتاة وبنطالها المزرق يوازي لون البحر، والشاطئ بلون الرمل، هذه التوازيات يكسرها لون الطائرة الورقية الأحمر، مثلما تكسر الوردة بلونها الأحمر نسق الأكواب البيضاء فوق طاولة بيضاء في أعمالها “الطبيعية الصامتة” يتكرر هذا النسق في 6 أعمال حيث تستخدم أليسيا غراو لونين “الأحمر والأزرق” وينكسر نسقهما بلون أحمر لوردة أو طائرة. في لوحتها “الفتاة على الشاطئ” تقدم أليسيا غراو جزئية جميلة، بحر/ أزرق، سماء/ بيضاء، أرضية رملية،، فتاة بقميص أبيض وبنطال مزرق شريط يوازي البحر. هنا تتلاعب أليسيا غراو بمكان اللون، وكميته، ودلالته. في لوحتها مدينة “أبوظبي” نجد إليشيا غراو تنحو ذات المنحى في استخداماتها اللونية حيث تبدو الأبراج بيضاء توازي السماء البعيدة في عمق اللوحة وهي تطل على البحر وبين كل الأبراج هناك برج أزرق يوازي البحر. أصل الحكاية يتراءى لنا لأول وهلة، حيث نبصر أعمال غراو أنها قد أنجزت بالألوان المائية كونها ألواناً باهتة، شفافة، ولكن حالما نقترب من اللوحة وفي لحظة مواجهتها لها وجهاً لوجه نكتشف أنها نفذت بالزيت على الجمفاص، ولكن بألوان باهتة تميل الى لونين لا ثالث بينهما الأزرق والأبيض. في منطقة أخرى من أعمال غراو نجدها تحاول أن تحكي حكاية عبر تقسيم العمل الواحد الذي يجزأ لديها الى أقسام في أغلبها متساوية الأبعاد منها عملان مقسم كل منهما الى قسمين، وعمل ثالث مقسم الى 6 أجزاء، بينما قسم عمل رابع الى 3 أجزاء ويأتي هذا التقسيم للعمل الواحد حاملاً دلالة يمكن تأويلها على أنها حكاية تسرد ضمن مراحل تكمل بعضها بعضاً. وقد نتساءل لماذا تقسم أو تجزئ أليسيا غراو الطبيعة الصامتة الى 6 أجزاء، الجزء الأول كوب الماء والوردة البنفسجية، والجزء الثاني كوبان في صحن أبيض، والجزء الثالث ليمونة صفراء في صحن أبيض، والجزء الرابع وردتان بنفسجيتان، وثالثاً حمراء بين كوب مملوء بالماء، والجزء الخامس قنينة ماء والسادس وردتان حمراوان في كوب ماء. في ثلاث لوحات، الأولى طفل على الشاطئ، والثانية طفلة على الشاطئ، والثالثة طفلان على الشاطئ يلعبان. هذه هي حكاية أليسيا غراو، بكل بساطة أنها تريد أن تروي أي شيء لمجرد أن تحكي، لكي ترسم عالماً شفيفاً، ليس فيه أي تعقيد وربما وجدت عالم البحر والطفولة والطبيعة الصامتة، هو الأقرب تجسيداً لمفهومها الفني. من هنا نقول إن عنصرين من العناصر الثلاثة وهما الصمت، التوحد قد تجانسا كثيراً في توجهات أليسيا غراو، ولكن تبقى دهشتها بعالم الضجيج والمدن قائمة، مستفزة لها، كونها تمتلك رؤية حضارية، غربية، ابنة المدن الكبرى، مدريد، برشلونة. تلقط أليسيا غراو ضخامة المدينة، ألقها، زحامها، من خلال شوارعها في أغلب أعمالها التشكيلية فهي تدخل للمدن والشوارع، من تقاطعاتها، وكأنها تريد أن تسرد حكاية الضجيج في داخلها، فلا تستطيع سوى أن تنظر إلى المدينة من الخارج، من فضاء الشارع المزدحم، لا من تراص الأبراج المتعانقة مع السماء. تلك عوالم غراو التي حاولت تمثلها في الأعم الأغلب باستلهام من أبوظبي المدينة التي منحتها مجمل موضوعات أعمالها. من الملاحظ أن غراو قد اشتغلت على الكليات في الأجسام بعيداً عن الأجزاء، وبهذا التوجه كانت أكثر ذكاءً في تقديم عملها متجنبة الوقوع في إخفاقات تمثل واقتناص الجزئيات الصغيرة التي تحتاج الى جهدٍ عالٍ ووقت طويل، بينما يبيح لها الاشتغال بالكلي على التعامل مع الجسد ككتلة واحدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©