الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ناصر الظاهري... الحكي مفتوحاً على عوالم المهمشين

ناصر الظاهري... الحكي مفتوحاً على عوالم المهمشين
6 ابريل 2011 21:35
رغم أنه من القاصين الذين لا يتركون للقوالب الفنية التقليدية أن تحكم عملهم الإبداعي، ويميلون إلى التجريب خاصة في مجال القصة القصيرة، إلا أن القاص ناصر الظاهري لا يخرج في مجموعته القصصية الجديدة “منتعلاً الملح.. وكفّاه رماد”، الصادرة حديثاً عن مشروع “قلم” أحد مشروعات هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، عن السمات الفنية الأساسية التي ينبغي أن تتوافر للقصة القصيرة كفن يمتلك شروطه الإبداعية والجمالية، ففي غالبية قصص المجموعة نقع على اشتغال فني ملموس إن لجهة الحدث أو الشخصية أو التوتر الدرامي أو الخاتمة أو النهاية من جانب، وعلى التوازن الدقيق بين جميع عناصر القصة من جانب آخر. والظاهري في مجموعته القصصية التي تحتضن بين دفتيها 16 قصة يقع معظمها في صفحتين أو ثلاث، وهو الحجم الذي يعتبره أغلب النقاد حجماً مثالياً للقصة التي يكتبها ناصر الظاهري: قصة اللحظة أو الموقف، باستثناء “حجر الرغبة” التي اتسعت لـ 16 صفحة، يحرص على توافر هذا الشرط البنائي على صعيد الشكل... ليس فقط لأنه يتيح له أن يمسك بتوتر الحدث ودفع الملل بعيداً عن القارئ بل أيضاً لأنه يمكنه من الإمساك بالقارئ الذي يبقى معه مشدوداً حتى يصل إلى نهاية القصة، فالشكل ـ وإن ظن البعض أنه أقل أهمية من المحتوى في فنون أدبية أخرى ـ يفعل فعله الباتر في القصة القصيرة، لأن مواءمته للمضمون وطبيعة الحدث المقصوص تعود على الكاتب بمنافع كثيرة أقلها حماية قصته من الترهل والكلام الفائض عن حاجة القص والتوهان في أحداث جانبية قد لا تخدم الحدث المفصلي أو الاساسي الذي يقوم عليه بنيان القصة، وبالطبع ستكون القصة عرضة لكل هذا إن طالت من غير دواعٍ فنية. صوت السارد تأتي جميع القصص على لسان القاص/ السارد الذي يحكي عن أبطاله، ويخبرنا عنهم. وفي هذا النوع من التكنيك القصصي يتاح للكاتب أن يرسم تفاصيل الشخصيات بدقة ويكشف عن طبائعها وسماتها النفسية. أن يدخلنا الى عوالمها الداخلية وصراعاتها الوجودية وتشظياتها ومعاناتها وإخفاقاتها الروحية من دون أن يهمل وصفها الخارجي وملامحها الجسدية التي تأتي أشبه بلقطات مصور يلتقط الوجوه وتجعداتها والأجساد وهياكلها، وما يوفره كل هذا من خدمة للموضوع الذي هو محل القص. ويغيب الحوار عن قصص المجموعة كلها ليترك جسد النص بكامله لفعل السرد، ومرة ثالثة تأتي “حجر الرغبة” استثناء من هذه القاعدة حيث يحضر فيها الحوار، ثم تكون هذه القصة استثناء للمرة الرابعة حيث تتعدد فيها الشخصيات (المثّالة والأعمى والصبي الذي سيصبح في المستقبل مثّالاً يعيد تشكيل الذاكرة البعيدة مع المثّالة في تمثال أو نحت يقيمه لها مؤدياً طقوسها التي كانت تؤديها مع منحوتاتها أو نصوصها الحجرية)، في حين أن باقي القصص تقوم كلها على شخصية واحدة، وهي ثيمة من الثيمات الفنية المتعارف عليها نقدياً في هكذا نوعية من القصص. ربما تكون مسألة صدفوية بحتة أن يتكرر رقم 16 ليكون القاسم المشترك بين عدد القصص المنشورة في المجموعة وعدد صفحات هذه القصة، لكن الاستثناءات السابقة/ القرائن تدفعنا إلى تلمس قصدية ما ربما أرادها الكاتب، لا سيما أن هذه القصة “حجر الرغبة” تحتشد بتفاصيل إنسانية وفلسفية دقيقة عن ماهية الإبداع وطقوس إنجاز العمل الفني وأحاسيس مبدعه نحوه وغيرها مما يضيء عالم الإبداع الغامض وبهائه غير المعلن، وهي الوحيدة التي حظيت ايضاً بـ(تقديم) منه، على غير عادته في نشر قصصه... هذه مجرد إشارة نترك للنقد مسألة إضاءتها وسبر مدلولاتها الفنية والمضمونية. أبطال على قارعة الحياة باقتصار القصة على شخص واحد هو البطل المتوج، صاحب اللحظة المسرودة، لا يعود ثمة مكان للصراع مع أبطال آخرين داخل العمل، وفي هذه الحالة يصبح الصراع داخلياً ينمو مع البطل وفيه، ويعلو بتوتر الحدث وينزل بانخفاص منسوب التوتر، من ناحية أخرى يتجه الصراع إلى الخارج على صعيد المضمون بحيث يصبح البطل مأزوماً في علاقته بذاته وبالآخرين. والنماذج الصراعية التي تعكسها القصص متعددة وكثيرة ومتنوعة بحيث تضيء على حالات إنسانية تعاني الظلم والقهر واللاعدالة وتتجرع الفقر وتوابعه، والوحدة التي تغرس أنيابها في الروح قبل الجسد، والعزلة المختارة أو المفروضة على أبطاله الذين ينتقيهم مما حوله، من مشاهداته اليومية، وخبراته الحياتية، ملتقطاً البعد الإنساني الدرامي في شخصياتهم التي تتحول بين يديه إلى قصص فنية. تماماً كما يفعل المصور مع لقطته المهمة، يسلك ناصر الظاهري مع أبطاله، يرسم تفاصيلهم الخارجية مركزاً على ما فيها من علامات فارقة أو خاصة، ثم يتعمق أكثر في تفاصيلهم ليضعهم في إطار الحالة التي يريد للقارئ أن يعيشها، ثم أكثر فأكثر يوغل في تفاصيل التفاصيل حتى يكاد القارئ يراهم أو يتخيلهم في ذهنه ويشم روائحهم ويسمع صدى ضحكاتهم أو تنهداتهم، متكئاً على لغة موحية، قادرة على التصوير والتجسيد، لا تغرق في التقريرية ولا تتخلى عن طابعها الأدبي الدال، من دون أن تجنح إلى شعرية فائضة أو مقحمة. ولأن القصة قصيرة تدور في زمن محدد وقصير هو زمن اللحظة التي لا تزيد على ساعة أو ساعتين فإن الحدث يأتي مركزاً ومكثفاً؛ يختار الظاهري قصته، حدثه، مشهده، بطله، ثم يصوغ هذا كله في شكل فني يعقده حيناً ويبسطه آخر، ثم في لحظة التنوير أو الخاتمة يحل العقدة التي حاكها لنا. والنهايات عند الظاهري لا تتسق وفق خط رؤيوي محدد، تارة تكون مفتوحة وتترك للقارئ أن يتخيلها فتتناسل منها في ما بعد قصص أخرى في عقل القارئ، وتارة مقفلة بالكامل وتنتهي بها القصة كعمل فني. تارة تكون مفاجئة تماماً وتحقق انزياحها إلى حيث لا يتوقع القارئ، وتارة تكون متوقعة لكن الطريقة التي يصوغها بها الظاهري تكسبها شيئاً من الدهشة. من قارعة الحياة، من على أرصفتها المتعبة بأنينهم، من المهمشين والمسحوقين والفقراء والمتعبين يلتقط الظاهري شخصيات قصصه، يعرفهم بأسمائهم الواضحة حيناً ويقوم بتجهيلهم أحياناً، في الحالة الأولى تكون القصة أقرب إلى حدث عابر، مرَّ وترك أثره في ذاكرة القاص أو المكان ولم يبق منه سوى القصة التي أخذت حيزها في الكتاب، وفي الحالة الثانية، يكون التجهيل إمعاناً في إيضاح البعد العام، الإنساني، القابل للتكرار مرة بعد مرة ما دامت ظروف إنتاجه قائمة. وفي تلك القصص التي فضل فيها الظاهري لعبة التجهيل على تسمية أبطاله بأسمائهم بدا أن القاص يحقق غرضين: الأول؛ الإيحاء للقارئ بأن هذه الشخصية لا تخص اسماً بعينه، أو رجلاً بذاته، بل هي حالة اجتماعية وإنسانية يمكن أن تكون قصة أي أحد، وفي أي مكان، وفي أي زمان. وأن البطل ليس سوى نموذج/ عينة/ لشريحة كاملة مغدورة ومتروكة لآلامها، بمعنى أن المشكلة التي يبوح بها النص ليست مشكلة فردية رغم كل المؤشرات التي تحكي عن الشخصية الموجودة في النص. والثاني؛ أن القاص ليس بعيداً عن مثل هذا الألم بل معني به تماماً، كما أن القارئ ينبغي أن يكون معنياً به... ها هنا، يزج الظاهري القارئ في همّه القصصي، في مضمونه، ليتقاسما المعنى والمبنى والمسؤولية الأخلاقية عن الحال التي يجري عنها السرد. يمتلئ القارئ، بهذا المنحى الإنساني يبرز من خلال تعدد الأمكنة في قصص المجموعة التي تجول في: الإمارات، العين، بيروت، لندن، عمّان، الصين، وهي الأماكن التي سماها القاص بالاسم مبدياً اهتماماً بتعريف القارئ بالمكان الصريح، فيما أبقى المكان في أحيان أخرى للنص ليشي به، فهو لا يذكره صراحة بل يلقي على عاتق الإشارات الثاوية في المتن القصصي أن تقوم بالمهمة. وثمة المكان الأصغر/ مكان القص نفسه الذي يتجسد أحياناً في غرفة أو منزل أو فندق أو طائرة أو شارع أو محترف فني، كلها تتوافر فيها تلك البيئة الخصبة للحكي عن قصص الناس التي تتجسد في كلمات يخيل لك وأنت تغلق الكتاب أن بها رغبة حارقة للخروج من سجن النص/ لمغادرة الورق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©