الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فاطمة المزروعي

فاطمة المزروعي
6 ابريل 2011 21:36
إنهم يدفعونكِ بسرعة، ربما قد تعودتِ على تلك السرعةِ أثناء قيادتكِ لسيارتك بتهورٍ شديد، ولكنكِ في هذه اللحظة لا تريدين أن يفعلوا هذا الأمر، تحاولين أن تخبريهم بأن معدتك تؤلمك، وأنك سوف تتقيئين بعنف، تحاولين إشعارهم بأن هناك خطباً ما.. نعم هناك خطب ما في أجهزتك الحيوية، إنها لا تستجيب لك.. يحاولون معك، يحاولون كل ما يستطيعون، إنك ترينهم بمعاطفهم البيضاء، تشعرين بروحكِ معلّقة بين السماء والأرض، تشتاقين إلى سماعِ صوتِ أمك وهي توقظك، تطلب إليك بحنان أن تنهضي حتى لا تذهب عنك الحافلة.. تنظرين من تحت لحافك إلى إشراقة الصباح، وخيوط الضوء اللامعة تخترق الستائر، تختبئين تحت الفراش، تداعبك بقبلاتها الدافئة، لا، لا وقت للنوم يا عزيزتي، هيا انهضي.. لا يا أمي؛ لا يزال هناك وقت، هيا يا أمي؛ أيقظيني الآن، أيقظيني في هذه الزحمة، فنومي ثقيل جداً، والحافلة سوف تذهب ولن تنتظرني طويلاً.. بمقدورك سماعهم، وإحساسك بسماعة الطبيب الباردة على صدرك، بإمكانك أن تخبريهم أنك بخير، تفتحين عينيك وتنهضين، تشرعين في الكلام والاسترسال كعادتك، هيا انهضي، لا وقت لديك، سوف يعلنون موتك، لن ينتظروا كي تفتحي عينيك، سوف يعلنون ذلك بحزن، ثم يضعونك في ثلاجة الموتى، ويُقفلُ عليك الباب، سوف تعودين وحدَك، كالوَحْدة التي عايشتِها أثناء وفاة والدك، وخروج والدتك إلى سهراتها الليلية، إنك تخافين من الليل وتخشينه، ذلك الليل الذي يأتي مسرعاً، حاملاً معه الخوف، كخوف الوحدة في هذه الثلاجة، برودتها تُزعِجُك، بل تضيف في داخلك رعباً آخر، رعب التجمُّد، تصرخين بأعلىَ صوتك، تصرخين، ولا يسمعكِ أحد سوى الموتى من حولك، فسمعهم خفيفٌ جدا، ولا تريدين أن تضيفي إليهم إزعاجاً آخر غير ما يشغلهم في تلك اللحظة. في الصباح الباكر، يفتحون الثلاجة، حيث جثتك، يخرجونكِ، يحملونكِ برفق كي لا تتألمي، ولكنك تريدين أن تشعري بهذا الألم، فهو الذي يبقيكِ في أذهانهم حيَّة؟ فهذا يوم آخر يمكنك أن تري فيهِ ضوء الشمس قبل أن يواروكِ تحت التراب.. يحملون نعشك، ولا تعرفين عددهم بالضبط، ربما ثلاثة هم أو أربعة، يضعونك في عربة الإسعاف. يبدو أن أحدهم مهموم، وصديقه يسأله: ما بك؟ فيجيب الشاب المهموم: زوجتي مريضة، وحالتها ليست مستقرة، والعملية مُكْلِفٌة جدًا، ووظيفة نقل الموتى هذه لا فائدة منها. صديقه يهمس في أُذُنِه: لا بأس، والحمد لله أننا وجدنا هذه الوظيفة. يصمت، ثم يعاود الحديث، يبدو حديثه أقرب إلى الهمس، أحاول أن أُنصت إليه، إنه يشير بأصابعه إليّ... يسأل صاحبه في لهجة شك: هل تتوقع أنها تركت أموالاً كثيرة لأسرتها؟ يقولون بأنها سيدة ثرية.... مهلاً، من أين جاءَ بهذا الكلام؟ من الذي له الحق بأن يتحدث عنِّي بهذه الطريقة، لا بد وأنها “أم ناصر” جارتي الثرثارة، إنها سيدة حقود تثير العديد من المشاكل، كانت تتصيد الرجال بعد وفاة زوجها، ولقد تسببت في إيذاء ابنتها وأصابتها بالعديد من المشاكل النفسية، إنها لا تحبني منذ أن انتَقَلَتْ للسكن بقُربي، لا بد إنها أشاعت كل تلك المعلومات عني، وتحدثت عني بكل تلكَ الأكاذيب.. ولكن صاحبه يبدو مهموماً أكثر: يا أخي “أذكروا محاسنَ موتاكم”، ولا تصدق كل شيء، بصراحة لقد تعبتُ من هذه الوظيفة، سئمت، بحيث أصبحتُ أرى الموتَ يزحف إليَّ كل يوم، ويقبض روحي.. أغادر مكاني، لا، إنها السيارة تغادر بي، وصوت الرجلين يخفت تدريجياً، لم يرافقاني في العَرَبة، كنت أتمنى أن أستمع لبقية حديثهما، ولكن الصوت بدأ يخفت حتى اختفى تماماً، وبدأت حواسي تشمِّر عن ساعديها، كلها بدأت تستيقظ بشكلٍ عجيب لم أعهدهُ في نفسي عندما كنت على قيدِ الحياة، أشم رائحةَ العشب الأخضر، إنها رائحة الحرية. أسمع رفرفة الطيور، لقد شغلتني الحياة، وأبقتني سنوات وسنوات خلف مكتب، أعملُ بصمت والعمر يمر، من دون أن أشعر بطعم الحرية، ولا زقزقة العصافير في هذا الصباح، كم تمنيتُ لو أعود إلى الحياة يوماً واحدا فقط، لا ساعة واحدة، كي أستمتع بكل هذا الجمال وأحس بطعم الحرية، بعد قليل سوف يبكون عليك، على جثتك، ويلثمون وجهك ويُوْدِعونك هذا التراب، هيا، انهضي، واستمتعي بوقتك، لم تعودي مكبَّلة بالقيود، ولا بذلك المكتب والشاشة التي تقابلك ليلَ - نهار، ونظارتك الطبية التي لا تتركيها إلا ساعة نومك، هيا انهضي من قبرك، قبل أن يواروا جثتك التراب، حينها لن تستطيعي.. سوف تذهبين إلى المنزل، ستجدين والدتك هناك تصرخ فيك، كي لا تفتحي الشباك وتنظرين منه إلى الشارع.. ـ يا بنت؛ أغلقي التلفاز، ودعيني أنام، فهذه الأغاني من الشيطان.. تتمنين عودتها وصراخها، صراخ أمك العجوز الذي كان في الماضي يقض مضْجَعَكِ، وحياتك، ووحدتك، تمنيت في هذه اللحظة لو أنها تعود، فسوف تخبرينها بأن صراخها سيمفونية عذبة، تعجبك على الرغم من حدتها، تلمحينها تتحرك في المنزل، تتذكرين المنزل بتفاصيله؛ حتى ملابسك، ومزهريتك بألوانها الحمراء والصفراء، وقطتك “نوسة” التي تنام بدلال في سريرها الصغير، حتى مكتبتك الصغيرة التي تحوي جرائد ومجلات قديمة، تدورين هنا وهناك، في هذه اللحظة تتمنين عودتك إلى هذا المنزل. تتمنين سماع صوته وهو يناديك من خلف نافذة غرفتك، تفتحينها بحذر خوفاً من والدتك، ترينه واقفاً، يناديك باسمك، تفرحين، وتخجلين، تشيرين له بيدك كي يبتعد، ولكنه يظل خلف نافذتك، وتظلين أنتِ خلف النافذة، تتمنين أن تحتضنيها وتظلين بقربها طيلةَ اليوم.. عندما تلتقين به في سيارته، يأكل معك وجبتك المفضلة من “ماكدونالدز”، تظلين تتحدثين عن زواجك منه وعن أطفالكم، يخبرك بأنه يريد أطفالاً بعدد أصابع يديك، ويختار لهم الأسماء التي يفضلها ويحبها، تريدين أن تدوري معه في أرجاء هذا العالم، سوف يحدِّثك عن المستقبل، تتحركين صوب البحر، تنظرين للغروب، لا تريدين مناقشة أي أمرٍ في هذه الدقائق.. هيا انهضي؛ لتمارسي حريتك في هذه اللحظة، بالكاد تتحركين في مكتبك، تظلين قابعة خلف جهاز الكمبيوتر، ساعاتٍ طويلة ومديرك لا وقت لديه، يريد هذا وذاك، وأنت ما زلت قابعة خلف ذلك الجهاز، تقومين بالأعمال كافة بصمت، وهو ينالها جاهزةً من دون أي تعب، والفضل في تفوقه يعود إليك أنتِ.. تسيرين أنت وهو في المكان نفسه، تقفين بجواره خجلى، سوف يسألكِ أسئلته المعتادة عن المطر والطعام، والأطفال، وتستغربين منه كيف يستطيع وفي آن واحد أن يجمع كل هذه المواضيع مرة واحدة، تمشين معه متأملة البحر كعادتك، لم تتوقعي بأن النهاية سوف تأتي، لم تكوني تتوقعين هذا الأمر، حتى زواجك منه لم يتم.. تشعرين بالغربة أكثر فأكثر، ويظل تعبك يكبر، صوت أمك هو مصدر ضعفك، مصدر هزيمتك، وسهرك في الليالي، تتأملينه أكثر، هو يتألم من أجل رحيلك، ولكنه سوف ينساك، حينما يوارون جثمانك التراب، سوف يكتفي بالحزن فترة عليك، ليبدأ حياته من جديد. عندما التقيت به كان مجرد عميل جاء إلى مكتبك كي تنهي معاملة له، نظر إليك طويلاً، لم يتحدث في أي تفاصيل أخرى غير العمل، وبعدها أصبح يزورك مراراً، وأصبح هناك عمل بينكما، كنت تعلمين بأنه لم يكن عملاً بمعنى العمل بقدر ما كانت فرصة له من أجل رؤيتك. تسيرين بنشاط في الجامعة، فقد كنتِ حديثَ الطالبات والأساتذة، تخرُّجك بامتياز في كلية الإدارة والاقتصاد هو مرحلة من مراحل عمرك، كانت الثانوية هي مرحلة وانتهت، ولكن ذكرياتها بَقَيتْ في ذاكرتك، تتذكرين تفاصيلها أحياناً بسعادة وأنت تسردين في دفتر مذكراتك بعضاً منها.. الآن تلعبين لعبة نط الحبل مع صديقتيك “نورة” و”لمياء”، تقفزين بسعادة وقوة، وضفيرتاك تعلنان مرحلة مراهقتك، تمسكين القطة من ذيلها، تسحبينها في المنزل، فتؤلمك بأظافرها القاسية، وتترك في وجهك أثراً تحاولين إخفاءه ولكنه واضح، فتخبرين صديقاتك به، وأنت تضحكين على طفولتك، لا تزالين تركضين كعادتك نحو دكان “حمزة” تسرقين من محله حلوى “ الخطمي”، تركضين في سكيك الحارة. تعودين من المدرسة حاملة حقيبتك الثقيلة، ودفتر واجباتك، تنظرين إلى إخوتك الصغار، وهم يشاهدون الرسوم المتحركة، تقبعين في مكانك، تلعبين بعروستك، تذكرين بكاءك عند دخولك المدرسة لأول مرة، واختباءك خلف عباءة أمك. كنت تبكين والمعلمة تحاول إرضاءك، تحضر لك الحلوى وتحاول أن تعرفك بنفسها، ولكن لا تزالي متعلقة بثوب والدتك، عند عودتك، تعد لك وجبة الغداء، وتجلسون معاً حول المائدة كعائلة، ينقصها والدك، تذكرين الحادث المروع الذي حدث له، تذكرين التفاصيل، لأن والدتك احتفظت بقصاصة الجريدة التي تصف الحادث الذي ذهب فيه والدك ضحية لشاب متهور. تبكين بصوت عالٍ، فولادة أمك بك كانت صعبة جداً، وكان والدك ينتظرك بفارغ الصبر بعد زواجه من أمك، خمس سنوات وهو ينتظرك، وعندما تولدين يطبع على جبينك قبلة حنونة.. تبكين في ألم، وأنت تتذكرين موت والديك، تتذكرينهما وصوت بكائك يعلو.. وصوت بكاء آخرين يثير ضجيجهم الخارجي سكون قبرك.. لا بأس دعيهم يتحدثون، لا بأس.. لا بأس فصمتك بالنسبة إليهم نهائي.. لأنك ببساطة ميتة..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©