السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«ابن بابل».. قصة الحزن العراقي من مقابر سومر إلى بوابة عشتار

«ابن بابل».. قصة الحزن العراقي من مقابر سومر إلى بوابة عشتار
10 أكتوبر 2009 23:14
تبقى أهمية القصة في الفنون البصرية قائمة وذات نكهة، إذ هي العنصر الفاعل في النصف، فلولا وجودها الفعلي لا يحصل إلا ما هو عادي ومألوف، بل حتى العادي والمألوف يمتلك قصصيته. في العلاقة بين القصة والفيلم قضية، أهمها أن حدثين لا يمكن أن يحصلا مرة واحدة، إذ لابد من التعاقبية في المشاهد والأحداث حتى لو حاول المخرج كسر التسلسل الكورنولوجي عبر تهشيم الزمن والتقديم والتأخير الذي على المتلقي ـ حال الانتهاء من مشاهدة العرض ـ إعادة تركيب هذه الأجزاء، ومن هنا يأتي الاستمتاع. الواقعية ليست هي تناول الواقع كما هو، بل إعادة خلق الواقع وبناؤه في الفن، ولهذا يتطلب فهماً دقيقاً لأهم مفاصله، ما يغني وما لا يقدم شيئاً. الواقعية تجرعناها في اللامألوف الذي هو تحويل هذا المألوف اليومي إلى شيء مختلف في الفن. ولم أقدم هذين المفهومين حول علاقة القصة بالفيلم وكيف ننظر إلى مفهوم الواقعية إلا بسبب ما عرض أمس الأول من فيلم «ابن بابل» للمخرج محمد الدراجي وتمثيل ياسر طالب وشازاده حسين وبشير المجيد وسيناريو جينيفر نوريدج ومحمد الدراجي وماثل كاسي وإنتاج ايزابيل ستي وعطية الدراجي ودريد المنجم ومونتاج باسكال تشافانس وموسيقى كا أكوري وبطول 90 دقيقة وهو باللغة الكردية وبترجمة إنجليزية وصور في 35 ملم وكان عرضه في قصر الإمارات هو العرض الأول عالمياً. لمحمد الدراجي قبل هذا الفيلم فيلم آخر بعنوان «أحلام» في 2005. و»ابن بابل» داخل مسابقة الأفلام الروائية الطويلة يقرأ الواقع العراقي بما هو معروف وليس بما لا يعرف.. كيف ذلك؟ القصة كاملة قبل أن نجيب على هذا السؤال لنتصفح القصة التي تبدأ من شمال العراق حيث جباله وآلامه التي تطاولها وثمة امرأة كبيرة في العمر «أم إبراهيم» وحفيدها «حمه» قررا أن يجوبا العراق من شماله لجنوبه حيث الناصرية باحثين عن ابنها «إبراهيم» الذي هو أبو حمه. ويشد الرحال جنوباً حتى بغداد، وفي الطريق نفهم أن إبراهيم كان جندياً في زمن صدام حسين وقد أرغم على القتال في حرب ليس له فيها قضية. من خلال عين الرحلة هذه والتنقل بين المدن العراقية وبين العراقيين يكشف الفيلم عن حجم الدمار والعبث الذي وقع في هذا البلد. سائق السيارة التي أقلت الجدة والحفيد يتندر على «صدام حسين» حين أراد أن يقضي حاجته. والطفل يقيم علاقة بين اسم أبيه واسم النبي إبراهيم عندما يصل إلى بيت نبي الله إبراهيم في الناصرية «إذ إن ولادة النبي إبراهيم في سومر». سائق عربي وسيارة من القرن الماضي ونساء وقلة من الرجال باحثين جميعاً عن بقايا ضحاياهم، أو لنقل باحثين عن أسماء ضحاياهم في المقابر الجماعية التي بدأت تتكشف. الموتى ينهضون من جوف الأرض حاملين تساؤلاتهم لماذا؟ «الناصرية» مبعثرة، لم يبق منها سوى تمثال «محمد سعيد الحبوبي» شاعر الغزل الجميل وإمام اللغة في جبته ووقاره، في «الناصرية» ثمة مركز للبحث عن الضحايا، الأشياء مبعثرة، الجدران مهدمة المدينة مستباحة ومهمشة، والشوارع مقفرة والعويل والصراخ والنواح يأتيك من كل جانب، والنساء يذهبن إلى المركز باحثات عن أسماء أبنائهن أو أزواجهن في القوائم التي تأتي إلى هذا المركز تباعاً. ولا تزال حالة الانتقام تمارس حيث تظهر سيارة «بيك آب» حاملة مقتولاً بعثياً تمت تصفيته قبل ساعات ليطرح في الطريق. بين الأنقاض يبحث «حمه» عن القضية. فهو يعرف تماماً أن أباه ليس هنا، ومن خلال هذا البحث بدأ يتسرب الخوف إليه. «إبراهيم» الأب فقد ولا يزال حمه طفلاً رضيعاً، وتقول الجدة إنه فقد منذ 12 عاماً. حسناً. امسك الكاميرا ذلك الطفل هو من يبحث عن أبيه «إبراهيم» الآن. ويستعين محمد الدراجي بامرأة كردية «ذات قضية على مستوى الواقع» هي نفس القضية في الفيلم، وهي «شازاده حسين» لتمثل دور أم إبراهيم، ويستعين بطفل يتقن العربية والكردية معاً هو «ياسر طالب» ليمثل دور «حمه».. وقد نتساءل: هل أن هذه التجربة «مع تكرارها» كثيراً سوف تغني السينما العراقية، ولماذا لا يستعين المخرجون العراقيون بمحترفين في التمثيل من الممثلين العراقيين؟ هل المخرجون الجدد لا يجدون في تاريخ الدراما العراقية شيئاً يمكن الاستفادة منه، ألا توجد ثقافة سينمائية وقصصية يمكن التأسيس عليها أم أنها على طريقة «امسك الكاميرا» وصور رحلة «طريق العيالات» للمخرجة التونسية «فريدة بو رقية».. نتساءل هل كل شيء مباح، وإذا كان كذلك ألا ترى في العراق شيئاً جميلاً يستحق الذكر حتى لو كان هناك خراب من أقصاه إلى أقصاه. أليس جميلا أن ينتهي الخراب في الفيلم أثناء العرض ليظهر عراقيان على خشبة المسرح في قاعة قصر الإمارات وهما انتشال التميمي منسق المهرجان بشخصيته الأخاذة وبثقافته السينمائية الموسوعية ومعه محمد الدراجي مخرج الفيلم ليدهشا الناس بثقافتهما ووعيهما الذي يدل على درجة الوعي في بنية المجتمع العراقي.. هل هذا يوازي ذاك؟ «التطهير» بماء الفرات عند جسر الناصرية العائم الذي أقيم على أنقاض جسر الناصرية الحديدي والذي هدّه القصف الأميركي عام 1993 تصل الجدة وابن ابنها «حمه إبراهيم» لتغسل وجهه وقدميه وهي التفاتة مهمة من المخرج غير مقصودة ويمكن قراءتها في ضوء ميثيولوجيا الأديان هنا «في الناصرية تحديداً» حيث الاغتسال «التطهير» بماء الفرات الذي مارسته الأديان «الصابئة الندائيون» الذين استقروا في الناصرة» بخاصة وطبيعة الاغتسال بالماء إسلامياً. آلاف من الأوراق المبعثرة تتطاير مع الريح، ونساء يبكين وصراخ وعويل عند مركز الشهداء في الناصرية. يسأل حمه عن أبيه إبراهيم.. فيسأل رجل دين جالساً على الكرسي وهي دلالة جديدة على المستقبل الحاصل ولا جواب عن أبيه، هنا يخاطب الطفل أباه المجهول المكان، الضائع مع الحرب. نواح الناصرية الحرب تقرأها عبر لافتات ملتصقة بالجدران وعبر قوائم المفقودين التي تذكرك بالحرب العالمية الثانية كما فعلت «الأفلام السوفييتية».. قوائم القتلى تلتصق فوق بعضها وصورهم تتزاحم فوق الجدران والجدة تشم رائحة التراب علها تتحسس رائحة ابنها «إبراهيم». عالم مدمر مصحوباً بنواح أهل الناصرية وطقوس العزاء والحزن الجنوبي. أوف تمتد طويلاً في غناء الناصرية أمان تمتد طويلاً في غناء الكرد. ويقرران معاً الرجوع والاتجاه عبر «بابل ـ الحلة» إلى بغداد ثم شمال العراق. هنا تعكس الرحلة في الطريق الصعد حيث ينقسم الفيلم هنا إلى قسمين، الطريق النازل نحو الجنوب أولاً، ثم الطريق الصاعد إلى الشمال ثانياً، في الطريق الأول نجد موقفاً سلبياً من الجدة باتجاه الآخر، وفي الطريق الثاني يتحول هذا الموقف إلى حالة من التصالح. في الطريق عشرات من القرى، البدو وسيارات الجيش والجمال الخائفة، وفي سيارة قديمة أشبه بالسيارة التي أتيا بها باتجاه الجنوب يصعدانها باتجاه الشمال. هنا يتعرف الاثنان على «موسى» العربي العراقي الذي قتل العشرات من الأكراد ـ نساءً ورجالاً ـ عندما كان جندياً في الحرس الجمهوري، فهو عربي يتكلم الكردية أيضاً، ولأنه يحس بتأنيب الضمير إزاء الكرد تراه يغتنم الفرصة عندما يرى كرديين «الجدة والحفيد» ليقدم لهما مساعدة. ومن آلة الناي التي كان يمسكها «حمه» يتعرفان على بعضهما «موسى وحمه» وتتعطل السيارة ويسير الثلاثة على الطريق. في البدء ترفض الجدة صحبة موسى كونه قاتلا شارك في مجزرة «الأنفال» ضد الأكراد، ولا تعرف هذه الحقيقة إلا عندما يتحاوران في إحدى المزارع على الطريق. كل شيء معطل، آلة السقي، الزرع اليابس، الأرض الجافة بسبب جفاف الإنسان العراقي. يذهب الثلاثة إلى أحد المزارات على الطريق حيث قيل لهما أن ثمة رجلاً مشوهاً يأتي الناس ليتعرفوا عليه.. هل يا ترى يكون هذا الرجل إبراهيم؟ الرجل المشوه يستخدم محمد الدراجي قصة «الرجل المشوه الراقد في المزار بعناية، قيم المزار» رمزاً لتشوه الواقع.. لتشويه البلد، لعدم التعرف على هذا الكيان الغريب، ولم يكن إبراهيم فيقرر الجميع الذهاب إلى مقابر جماعية مكتشفة حديثاً. ويتقارب موسى «مثلها بشير الماجد» مع «حمه» ويصل الثلاثة إلى مقبرة جماعية.. القاتل والمقتول يجتمعان في محنة جديدة تعيد التاريخ وآلامه من جديد عبر الصراخ والأشياء التي يشم منها رائحة الموت ولم يبق إلا أن يقترب «حمه» من حمار على الطريق ليسأل مستفسراً عن طبيعة هذا العبث الذي ضيع أباه «إبراهيم خليل شارهو». وتجلس الأم بجانب امرأة عربية وتندبان ابنيهما. فطوم عمرها 12 سنة ما قالته الأم العربية بلغة عربية. حمه عمره 12 سنة ما قالته الأم الكردية «أم إبراهيم» بلغة كردية. ولم يفهما على بعضهما إلا أنهما يفصحان عن رغبة الالتقاء حزناً. تسامح الجدة موسى ويفترقان.. حيث يذهب حمه وجدته عبر «الحلة» إلى بغداد بعد أن تسمع النواح حول القتلى «حلو العيون.. حلو المعاني» في السيارة المنطلقة بالنساء الثكالى. ولحظة فإذا بمقبرة جماعية أخرى وعشرات من الموتى وكل شيء مختلط والجثث بلا هوية ويقرأ حمه «جثة لعمر وأخرى لسالم وثالثة لجواد ورابعة لا اسم لها». ويضيع الجميع، إبراهيم في الماضي والجدة في الحاضر موتاً وحمه في الذاكرة. وفي لحظة وصول الجدة وحفيدها إلى بوابة عشتار تموت الجدة. وبين أطلال سومر في الناصرية حتى شواخص بابل في الحلة يمتد تاريخ العنف العراقي، ولكن يبقى النواح والإصرار في تهجد المغني «ماشين.. وين مصوبين.. آه.. آه» لتمتد طويلاً إلى زمن آخر. هذه هي خلاصة القصة التي تدرجت كورنولوجيا في الفيلم تعاقبية مجازية حملت في جنباتها استعارات شعرية كشفت عنها حالة الحزن الذي سيطرت عليه من أوله إلى آخره، فأعادنا إلى الأفلام السوفييتية وتسلسلها الزمني غير المنكسر. خطوة سينمائية بالرغم مما يشوبها من تعثرات حين لم تقدم الغرابة في الواقع واتكأت على حزن الواقع لتثير حزن المتلقي، تبقى خطوة جادة لو تقدمت أكثر باتجاه قراءة واقع آخر يمتلك ثقافته ومعرفته التي لا تضاهى. محمد الدراجي مخرج الفيلم: استندت في «ابن بابل» على قصص واقعية قال مخرج فيلم «ابن بابل» محمد الدراجي إنه «استند في فيلمه على قصص واقعية منسية وأحداث مأساوية مر بها العراق، وإلى معلومات عن مقابر جماعية ضمت مئات آلاف العراقيين، تقدرها بعض الأوساط بأكثر من مليون عراقي، وحاول من خلال الفيلم وشخصياته أن يربط الجيل العراقي القديم الغارق في المعاناة والجيل الجديد الذي يحمل الأمل في المستقبل، ويربط الثقافات المتنوعة التي يزخر بها العراق، لتحقيق العدل لضحايا الماضي، وبث الأمل في نفوس جيل المستقبل» . وتابع المخرج «كلي أمل أن يكون الفيلم قد نجح من خلال نبش ماضي أسرة ومعاناتها جراء فقدان أحد أفرادها، في إبراز عملية الإبادة الجماعية لمليون شخص مفقود في العراق لم يُلق عليها الضوء لسنوات كثيرة». والدراجي درس في المملكة المتحدة، وأسس شركة إنتاج فيها، وبعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 عاد إلى العراق. ويذكر أن الفيلم من تمثيل «ياسر طالب»، «شازاده حسين» وبشير الماجد، وسيناريو الفيلم لجنيفير نوريدج، محمد الدراجي» و»ماثل كاسي»، أمّا الإنتاج فهو لـ»إيزابيل ستيد»، «عطية الدرادجي» «ديمتري دي كليرك» و»محمد الدراجي»، والتصوير السينمائي لـ»محمد الدرادجي» و»دريد المنجم»، والمونتاج لـ»باسكال تشافانس» والموسيقى لـ»كاد أكوري». والفيلم من إنتاج مشترك بين شركة «بيراميديا»، ومركز الإنتاج السينمائي «فلسطين»، وراديو وتلفزيون العرب المصري.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©