الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بكاء على اللبن المسكوب

بكاء على اللبن المسكوب
11 أكتوبر 2009 23:16
رغم أن زواجنا كان تقليدياً، فقد توافرت له مقومات الاستقرار، فالتقارب كبير بين الأسرتين وبيني وبينه والمستوى الاجتماعي والثقافي متكافئ والأفكار متقاربة والاتفاق تام على الأساسيات في كل أمور الحياة. والطباع ليست متنافرة.. ظهر ذلك منذ الأيام الأولى التي تقدم فيها لخطبتي ثم في الإعداد لعش الزوجية واختيار الأثاث وترك لي كل ما يخص المرأة في بيتها لاختار منه ما شئت. عاونني في المسائل المشتركة وسمح لي بأن أشاركه اختيار ما يخصه هو، وفي شهر العسل ثم في بيتنا وجدت معه الأمان وظللت السعادة حياتنا في الأشهر الأولى ونحن نعيش الحب الذي جاء بعد الزواج، حينها فقط صدقت أن الحب يمكن أن يأتي بعد الزواج.. بل تأكدت أنه الحب الحقيقي الخالص من خيالات وأوهام المراهقة والقائم على العقل والقلب معا وليس مجرد إعجاب بجمال هو في النهاية نسبي أو انسياق وراء مشاعر غير حقيقية.. فبجانب عمل كل منا كنا نعرف حقوقنا ونؤدي واجباتنا ولم ندع للملل منفذاً ليتسلل منه إلى بيتنا ولا إلى علاقتنا، فنقوم بنزهة هنا أو رحلة قصيرة هناك كل أسبوع أوأسبوعين بجانب زيارة أسرته وأسرتي، وهذا كله كان فرصة لتجديد دماء حبنا ونشاط قلبينا. كدنا نحسد أنفسنا قبل أن يحسدنا الآخرون وهم يرون فينا نموذجاً غير موجود في هذه الأيام، حيث اعتدنا أن نسمع عن المشاكل والخلافات حتى بين الذين ارتبطوا بعد قصة حب بمجرد انتهاء الأسابيع الأولى ولا أُنكر أنني تخوفت من ذلك وخشيت حدوثه وتخوفت كثيراً مما سمعت من قصص لا حصر لها لمشاكل متنوعة ومتعددة، معظمها لأسباب تافهة لذلك عندما استقرت حياتي كنت حريصة على استمرارها بهذه السعادة والحفاظ على حياتنا بعيداً عن الرياح. مع حالتنا تلك لم يبق لي ولزوجي أمل في هذا الوقت غير أن يرزقنا الله بطفل يكمل فرحتنا وسعادتنا. الرغبة كانت مشتركة وبدأ القلق يتسلل إلينا بعدما اكتمل العام الثالث لزواجنا ولم تكن هناك بوادر للحمل وتحول الأمر إلى أزمة من كثرة الكلام عنه خاصة أن أفراد الأسرتين لا يكفون عن الأسئلة المتلاحقة في هذا الموضوع ويتعجلون الحمل، ويقتحمون خصوصية حياتنا بتساؤلات لا نعرف أنا ولا زوجي لها أجوبة ومنها من السبب في عدم الإنجاب: أنا أم هو؟ فوقعنا تحت ضغوط نفسية لم نحسب لها حساباً هزت عرش بيتنا وأثرت على السعادة التي كانت تظلله.. وحتى لا تنهار كلية قررنا أن نطرق باب الأطباء ونغرق في دوامة الفحوص والتحاليل والأشعة، تلفنا المخاوف من النتائج المجهولة وامتلأت قلوبنا بالخوف من المستقبل وكل منا يخشى الصدمة من أي نتيجة لا نتوقعها، أسابيع قليلة مرت علينا طويلة ثقيلة مملة.. كأنها دهر طويل إلى أن جاءت النتائج تعيد إلينا الروح والحياة. وأكد الأطباء أنني وزوجي خاليان من أي موانع للإنجاب وتنفسنا الصعداء. نقطة تحول اكتملت الفرحة التي بددت بقايا أحزان السنوات الماضية ومّن الله عليّ بالحمل. كدت أطير أنا وزوجي من السعادة فما أجمل العطاء بعد الحرمان وما ألذ الطعام بعد الجوع والشراب بعد العطش، أحاطني بكل رعاية وعناية واهتمام، أحضر لي خادمة لتتولى كل شؤون البيت ومنعني بالأمر من أن أقوم بأي عمل حفاظاً على الجنين وأن أريح نفسي من أي إجهاد حتى عملي حصلت منه على إجازة ولم يكن خروجي إلا إلى الطبيب أو إلى نزهة سريعة لتغيير الجو والقضاء على الملل وأنا أتحسس بطني التي بدأت تعلو قليلاً حتى أصابني الملل من هذه الرقابة. وأخيراً، فإن الحذر لا يمنع القدر وجاءت الصدمة في الشهر الرابع عندما تعرضت لنزيف حاد فقدت على إثره الجنين. ومعه فقدت الفرحة وأصبت أنا وزوجي بحالة من اليأس والحزن أفقدتنا التوازن وزادنا ألماً ما ألمح به الأطباء من أن أكون غير مهيأة للحمل فيما بعد أو أن تكون عندي عيوب في الرحم وأصبحنا كلما خرجنا من حفرة وقعنا في بئر ومن دوامة إلى دوامة أخرى.. أربع سنوات أخرى تبدلت فيها حالنا من سعادة وأمن واستقرار إلى قلق وترقب وتفكير في المستقبل وخوف من القادم حتى جاء الفرج وشاء الله سبحانه وتعالى أن يتم الحمل للمرة الثانية وضاعف زوجي اهتمامه بي والتردد على الأطباء للمتابعة المستمرة. والهواجس تسيطر علينا خشية فقدان الجنين مثل المرة السابقة، وأصبحت هذه القضية هي مشكلة حياتنا وجل اهتمامنا والحق يقال، فإن زوجي خلال هذه السنوات لم يلق عليّ بأي لائمة ولم أسمع منه كلمة جارحة، بل على العكس تماماً كان يخفف عني ويؤكد أن الأمر كله لله ولا أحد يتحمل هذه المسؤولية ويكون جاهلاً من يتحدث بهذه الطريقة، وهذا كله خفف من آلامي كثيراً. جاءني المخاض وأنا في خوف مضاعف.. خوف من آلام الوضع في تجربتي الأولى. وخوف على جنيني الذي أنتظره وأتمناه وقلبي يرتجف لا أستطيع السيطرة على أطرافي والدموع تنساب من عيني رغماً عني خلال ساعات مؤلمة وجاءت مولودتنا الأولى إلى الحياة بعد صرخة خلعت قلبي وأنا وسط آلامي. في لحظات كانت في أحضاني ولا أكاد أصدق وأخشى أن أكون في حلم جميل لا أُريد أن أستيقظ منه، لكن هذا الحلم كان حقيقة حملت صغيرتي التي أطلق عليها زوجي اسم «هبة» ووافقته تماماً على هذه التسمية فهي هبة من الله ندعوه أن يبقيها لنا وحصلت على إجازة أخرى من عملي لأقوم برعايتها، لقد أعادت إلينا السعادة التي افتقدناها لسنوات طويلة، إحساس غير مسبوق لا أستطيع التعبير عنه بالكلمات وأعجز عن وصفه ولكم أن تتخيلوه بعد كل هذه المعاناة. صاحبة القرار وجه زوجي جل اهتمامه إلى هذه الصغيرة يجعلها بيني وبينه لا ينام إلا وهو يحتضنها وأغدق عليها بكل شيء ويبالغ في شراء الألعاب والملابس والمجوهرات بما لا يناسب سنها. أصبح مجنوناً بها حتى شعرت بالغيرة منها وهي مازالت في سنوات عمرها الأولى ولم تكمل الثالثة بعد والأخطر أنه كلما كبرت قليلاً بالغ في الاهتمام بها والاستجابة لجميع مطالبها حتى لو كانت في غير محلها، جعلها صاحبة الكلمة العليا والأولى والأخيرة في البيت. وصاحبة القرار في كل شيء صغيراً أو كبيراً فيما يخصها أو لا يخصها، جعلني شيئاً مهملاً لا قيمة له وحولني إلى مجرد خادمة تتلقى الأوامر منهما، تعد الطعام وتنظف البيت وتغسل الملابس، تحملت باعتبارها طفلة وقد يتغير الأمر فيما بعد عندما تكبر وتخف حدة فرحة زوجي وتعلقه بها، لكن العكس هو الصحيح فكلما مرت سنة زاد اهتمامه بها وزادت معها صلاحياتها في التحكم واتخاذ القرار حتى عندما تخطت العاشرة واتجهت نحو الأنوثة المبكرة ظلت ترتدي الملابس العارية ولم يكن لمعارضتي لهذه السلوكيات أي قيمة. فإنني أرى أن ذلك خطأ كبير وأن ابنتي على بعد خطوة من مرحلة المراهقة ويجب أن تدخلها وهي مسلحة بالسلوكيات الصحيحة. لكنها مازالت في عيني زوجي طفلة واحتدم النقاش والخلاف وكنت الطرف الأضعف حتى جاءت الصاعقة ووقعت الطامة الكبرى وابنتي فلذة كبدي تطلب من أبيها أن يطلقني كي يستريحا من معارضتي وآرائي التي تراها متخلفة. والعجيب أن زوجي سار كالمسحور الذي لا يدري ماذا يفعل. فقد عقله وصوابه وبلا تفكير أو تردد استجاب لمطلبها وطلقني وجن جنوني وأنا غير مصدقة لما يحدث ورأسي لا يتحمل تلك الضربات المتلاحقة حتى عندما بدأ يستجيب لتدخلات أهل الخير والأقارب لإعادتي من أجل لمّ شمل الأسرة الصغيرة انصاع لأوامرها ورفضها لذلك وتراجع تلبية لمطلبها. وبقيت في بيت أبي الذي رحل عن الدنيا هو وأمي وتركه إخوتي وأخواتي واستقل كل منهم بحياته في مكان ما. أقمت وحيدة فالجميع منشغلون بأحوالهم ولم يعد لدى أحد منهم وقت ولا متسع لأن يهتم بالآخرين. وعملي هو المتنفس الوحيد وكنت أول من يذهب إلى المكتب وآخر من يغادره ودموعي لا تجف وابنتي لا ترحم ضعفي حتى عندما ذهبت إليها أستعطفها أن ترجع عن غيها أدارت لي ظهرها كأنها لا تعرفني وطليقي يتهرب من لقاءاتي واتصالاتي. ضربة موجعة أصبحت بنتنا في الجامعة مثل الحصان الجامح لا يستطيع أحد أن يقف في وجهها تصول وتجول بلا ضابط ولا رابط. وجاء الوقت الذي انقلب فيه السحر على الساحر وتلقى طليقي ضربة موجعة من ابنته لم يتحملها. جاءت تجر في يدها أحد زملائها وقدمته لابيها على أنه «حبيبها» نعم حبيبها قالتها بلا حياء أو خجل. ووجهت الأوامر له بأن يوافق على زواجهما بلا تفكير أو تدخل لأن رأيه لا قيمة له لأنهما سيتزوجان سواء وافق أو رفض ورده تحصيل حاصل. صعق الرجل من هول ما يسمع وفقد توازنه للحظات. وهز رأسه عساه يكون مخطئاً، لكن ما حدث كان حقيقة واقعة، وعندما تأكد من أن هذا أن التلميذ. لا يملك من حطام الدنيا شيئاً وليس لديه أي استعداد لفتح بيت وتحمل مسؤولية أسرة. رفض تلك الزيجة تماماً. فألقت على رأسه صخرة أخرى عندما أخبرته أنهما متزوجان بالفعل وعليه أن يفعل ما بوسعه وتأبطت يد «زوجها» وخرجا، بينما الرجل يصاب بأزمة قلبية من هول الصدمة ويتم نقله إلى المستشفى ليمكث بها عدة أيام فاقداً الوعي بين الحياة والموت وابنته المدللة مع حبيبها يعيشان في الوهم. وقعت هذه الأحداث الأخيرة كلها وأنا لا أعلم عنها شيئاً بسبب القطيعة التي فرضاها عليّ بعد محاولاتي المتعددة معهما للوصل حتى جاءني من يخبرني بأن طليقي يستغيث بي ويريدني في أمر مهم. لم أفكر في شيء غير الانطلاق إليه متناسية كل الماضي المؤلم. وجدته وحيداً في البيت الذي جمعني معه وكانت فيه أجمل ذكرياتنا وأسعد أيام حياتنا، سالت من عينه دمعة حارة وهو على سريره ومازالت آثار المرض بادية عليه، أخبرني بما حدث واستعطفني في النهاية أن أرحم مرضه وشيخوخته وطلب مني أن أغفر وأعود إليه ثم أذهب إلى ابنتنا لأنقذها. تركته وخرجت حائرة دون جواب. لا أدري: هل أعود إليه أم لا؟ مازلت مترددة رغم رغبتي في ذلك.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©