السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفن والدين.. الانفصال العظيم

الفن والدين.. الانفصال العظيم
20 يوليو 2016 20:30
د. سعيد توفيق الصورة الذهنية الشائعة لدي الكثيرين من المسلمين هي أن الفن لا صلة له بالدين، فهما موضوعان مختلفان: فموضوع الفن هو «الجميل» الذي يتم إبداعه من خلال عمل أو فعل إنساني يقع على الطبيعة أو المادة: كالحجارة واللون والصوت...إلخ؛ أما موضوع الدين فهو «المقدس» الذي يشمل كل ما له صلة بالإلهي، وهو يقال في مقابل المدنس. وهذا الاختلاف يبلغ أحيانًا- عند المتطرفين من المتأسلمين- حد الخصومة والعداء من جانب الدين للفن. يعبر التصور السابق عن فهم ضحل أو مغلوط لا يفطن إلى ما هنالك من صلة حميمة بين الفن والدين؛ فالفن والدين في الأصل مرتبطان ارتباطًا وثيقًا؛ فهما موضوعان ملتحمان في الوعي الإنساني منذ أن حاول الإنسان عبر التاريخ التعبير عن نفسه من خلال أنشطة قصدية لا تتوجه بفعل الغريزة فحسب: فالإنسان البدائي قد وعى المقدس باعتباره قوة هائلة غامضة تتحكم في حياته ومصيره، ولذلك يشعر إزاءها بمشاعر متباينة ومتداخلة من الرهبة والروعة والإجلال. وهذا نشهده في الرسومات المنقوشة على جدران الكهوف، وفي التمائم التي كان البدائي يصنعها والتي لا تزال تصنعها الشعوب والقبائل التي تحفظ تراثها البدائي؛ وهو أيضًا ما نشهده في تعاليم حكماء الحضارات القديمة التي يمتزج فيها الشعر بالدين؛ وهو أيضًا ما نشهده في أشعار كتب الفيدا Vedas التي تجسد العقيدة الهندوسية القديمة. العمائر تشهد كما أننا نشهد ذلك أيضًا في فن المعمار عند القدماء وفي العصر الوسيط المسيحي والإسلامي: فالمعبد اليوناني ينتصب فوق التل على خلفية من الضوء السماوي، ورواقه منفتح على السماء بلا سقف، لكي يبقى على اتصال بالعالم الإلهي. ومع ظهور المسيحية أصبحت الكاتدرائية هي أسلوب التعبير عن إحساس شعب ما بالعالم الإلهي، وهو أسلوب يختلف حتى داخل المعتقدات المسيحية المتنوعة التي تعبر عن نفسها في طرز معمارية مختلفة. ومما لا شك فيه أن الشعور بالإلهي والمقدس قد تجسد- منذ بدء الحضارات الإنسانية- في الأهرامات والمعابد المصرية القديمة التي تستحضر الشعور بالمهابة والجلال والعلو، على نحو ما صور ذلك المخرج العبقري شادي عبد السلام في فيلمه «المومياء». كما أن المساجد قد عبرت بأشكال مختلفة عن وعي المسلمين بوحدانية الإله التي تتجسد في المئذنة التي تشبه الواحد كعدد وهيئة، والتي تتجسد أيضًا في الإحساس باللانهائية الذي يتجلى في المنمنمات والأشكال الهندسية التي تتكرر إلى ما لا نهاية. وهذا ما تشهد به أيضًا لوحات التصوير المسيحي في العصر الوسيط، التي تصور غالبًا الروح المسيحية التي تعبر عن نفسها في حالة السكينة والطمأنينة، كما تتجلى في وجوه وإيماءات العائلة المقدسة والقديسين. بل إن فعل الرقص كان مسرحًا لتجلي المقدس، حيث تتماوه فيه الحدود بين الجسم والروح؛ فالجسم يحرك ذاته روحيًا، والروح تحرك ذاتها جسميًا (كما يبين لنا ?ان دي ليو Van der Ieo في عمله الفذ عن «الجميل والمقدس»). وتجليات المقدس في فعل الرقص نجدها في الرقص السماوي، وفي رقصة الموت، وفي سائر طقوس الرقص التعبدي التي كانت تمارس داخل المعابد كفعل من أفعال التطهير النفسي. وأهم ما يميز طقوس الرقص هنا أنها تقوم على فعل المشاركة الجماعية، وهي طقوس لم تكن مقصورة على الإنسان البدائي، بل كانت تتجلى لدى القدماء من المصريين واليونان، واستمرت حتى العصر الوسيط. بل إنه يمكن القول إن الحضارة الحديثة - وبوجه خاص في منطقة شرق آسيا- لا تزال تحمل آثار هذا الرقص الديني أو المقدس. وعلى نحو مشابه، فقد نشأت الدراما والموسيقا نشأة دينية أيضًا، وارتبطتا بالرقص ارتباطًا وثيقًا في عالم القدماء. فلقد نشأت الدراما في حضن المعبد، في حضن طقوس عبادة الإله ديونسيوس التي كانت تعبر عن الألم التراچيدي الذي يشارك في التعبير عنه المتعبدون من خلال الرقص والتمثيل على توقيعات الموسيقى في نوع من الاحتفال الديني. فما الذي حدث إذن؟ ما الذي حدث ليفصم عرى الصلة الحميمة بين الفن والدين؟ الواقع أن هذا الانفصام نشأ على مراحل، واتخذ أساليبَ متنوعة ومتباينة. ولعل أول أساليب هذا الانفصال وأقلها حدةً، هو ما يسميه ?ان دي ليو «علمنة الفن»، وهو التوجه الذي نشأ في العصر الأوروبي الحديث كنتاج لعصر النهضة الأوربية الذي كان مدفوعًا بروح المعرفة واكتشاف العالم بشكل مستقل عن الدين. والواقع أن هذه النزعة يمكن تفهم مشروعيتها بالنسبة للعلم وإلى حد ما بالنسبة للفلسفة، لا بالنسبة للفن؛ لأن الفن بوجه خاص ينبع من نفس المصدر الذي ينبع منه الدين، وهو الشعور السابق على أي تعقل. والحقيقة أن هذا التوجه نحو «علمنة الفن» هو ما يصفه جادامر Gadamer بأنه حالة من «اغتراب الوعي الجمالي»؛ فالوعي الجمالي الاغترابي هو الوعي الذي ينسى أصله، ويربط نفسه بمقولة «الشكل الجمالي»، غافلاً عن أن مفهوم «الجميل» نفسه ليس مفهومًا مجردًا ومستقلاً بذاته: فإن كان الفن يعبر من خلال الجميل، فإنه كان يعبر عن شيء ما: عن عالم الناس الديني والأسطوري والاجتماعي. ومن هنا يمكن أن نتفهم مقولة هيجل عن «موت الفن»، أو بمعنى أدق عن أن «الفن شيء من الماضي»، باعتبارها تعني ببساطة أن الفن لم يعد قادرًا على التعبير عن الحقيقة أو المطلق الذي يتمثل في الإلهي، ومن ثم في الديني والمقدس. غير أن هذا الانفصال بين الفن والدين قد عبر عن نفسه أحيانًا بأسلوب أكثر عنفًا من خلال نزعة عدائية إزاء الفن تمثلت في أوروبا من خلال حركة تحطيم أيقونات الدين Iconoclasm في القرنين السادس والسابع الميلاديين، وهي الحركة التي كانت تطالب في الأصل بتحريم إيقونات الدين، أي بتحريم التماثيل والصور التي تصور المسيح والحواريين والعائلة المقدسة، باعتبارها مناسبة للوثنية. وعلى الرغم من أن الغرب المسيحي قد تخلى تدريجيًا عن هذه النزعة من خلال مقاومتها منذ نشأتها، فإن هذه النزعة العدائية قد انبثقت مجددًا في عالمنا الإسلامي في أبشع صورها من خلال روح اغترابية لا تعكس فقط حالة من «اغتراب الوعي الجمالي»، وإنما أيضًا حالة من «اغتراب الوعي الديني». تلك هي الحالة التي تمثلت في تحطيم حركة طالبان لتماثيل بوذا، وهي الحركة التي نجد أصولها الآن قد انبثقت مجددًا في الحركات الإسلامية الأصولية في عالمنا العربي، التي خرج علينا أنصارها من كهوف الماضي البعيد ليقولوا لنا إن الفن لعب ولهو، ومن ثم فهو رجس من عمل الشيطان: فالنحت تشخيص ووثنية، والباليه مجرد عُري، أما الموسيقى فهي مزامير الشيطان! مرجعيات صفراء إن مرجعيات حركات العنف باسم الدين إزاء الفن هي مرجعيات بغيضة من الكتب الصفراء التي تحفل بسوء الفهم والتفسير للنصوص الدينية، سواء تمثلت في القرآن الكريم أو في الأحاديث النبوية. ومن ذلك تحريم النحت والتصوير استنادًا إلى موقف جاء فيه قول الرسول الكريم للسيدة عائشة: «اهتكي هذه السُتُر، يُعذَّب المصورون يوم القيامة». فقد أخذ المفسرون من الأصوليين المتشددين هذا القول على ظاهره دون تأويل، ومن ثم دون سعي إلى فهم النص في سياقه التاريخي الذي قيل فيه، وهذا دأبهم دائمًا سواء في تفسير القرآن أو الأحاديث النبوية الصحيحة. فالمسألة ببساطة أن السيدة عائشة جلبت قماشًا من بلاد فارس، ثم صنعت منه سُتُرًا أو ستائرَ؛ ولما رأى الرسول أن هذا القماش قد نُقِشَت عليه تصاوير لآلهة في صورة كائنات مجنحة، قال قوله هذا الذي يقصد به ذلك النوع من التصوير، لا التصوير بإطلاق! ومثل ذلك يمكن أن يُقَال فيما يتعلق بتحريم مثل هؤلاء المفسرين للموسيقا وفن الغناء (وما هم بمفسرين على الإطلاق) ما داموا لا يلجؤون إلى التفسير. ولذلك فإن حجة الإسلام أبا حامد الغزالي قد رد على هؤلاء في كتابه عن «آداب السماع» الوارد ضمن كتابه «إحياء علوم الدين»، حتى إنه ذهب إلى القول بأن «مَن لا يطرب للربيع وأزهاره، وللعود وأوتاره، فهو فاسد المِزاج، ليس له من علاج»، وكأن حجة الإسلام يعتبر من لا يستمتع بالنغمات الصادرة عن أوتار العود هو مريض نفسي ميئوس من شفائه؛ لأن المرض النفسي لم يكن قابلًا للعلاج في ذلك الوقت. ومثل ذلك أيضًا يمكن أن يقال بالنسبة لتحريم فن النحت ممن لا يعرفون شيئًا عن هذا الفن؛ لأنهم ببساطة يخلطون بين التمثال والصنم والوثن! وهذا أمر ربما يستحق تفصيلًا في مقال آخر. ومن العجيب أنه في الوقت الذي تتعالى فيه الصيحات العدائية ضد الفن في عالمنا الإسلامي، فإن الغرب قد وعى منذ عدة قرون أن أزمته في الفن تكمن في انفصال الفن عن الدين وعن المقدس وعن حياة الإنسان الاجتماعية بوجه عام، وهو انفصال ساهم في حدوثه عداء الدين للفن طوال فترة العصر الوسيط الأوروبي. ولذلك فقد أنصت الغرب إلى صيحة هيجل بأن «الفن أصبح شيئًا من الماضي» بانفصاله عن الحقيقة التاريخية، بما في ذلك الدين كما تجلى في حياة الإنسان؛ وأنصت إلى دعوة جادامر وغيره إلى ضرورة تجاوز حالة «اغتراب الوعي الجمالي»... على الرغم من ذلك، فإننا لا نزال نسمع في حياتنا الراهنة صيحات عدوانية محمومة تصدر عن جماعات المتأسلمين الجدد المغتربين، لا فقط عن الفن ومعناه، وإنما أيضًا عن الدين وفحواه. وحتى فيما يتعلق بموقف هؤلاء المتأسلمين من الفن، فإننا لا يمكن أن نصف موقفهم بأنه مجرد «حالة اغترابية للوعي الجمالي»؛ لأن موقفهم ليس مجرد موقف ينصرف عن أصل الفن وحقيقته إلى غيره، بل هو موقف يعادي الفن ذاته بما هو فن! ومن أجل هذا نكتب هذا المقال، لعله يسهم في تغيير حالة تزييف الوعي التي نشهدها الآن؛ فكل تغيير في حياة الإنسان يجب أن يبدأ من الوعي. فن تَعبُّدي لقد كانت الرسوم الأولى والتماثل والأغاني والرقصات جزءًا من الشعائر، وإنما انفصلت مؤخرًا عن العبادة وأصبحت توجد مستقلة. فعندما رسم الإنسان البدائي الحيوان الذي يعتزم صيده فيما يسمى «سحر الصيد» كان هذا نوعًا من العبادة، صلوات لكي ينجح في مهمته. وكان الهنود الحمر يرسمون خطوطًا ملونة مختلفة على الرمال خلال احتفالاتهم الدينية. وكانت هذه الخطوط جزءًا مُكمِّلاً للشعائر. وظهر الباليه الياباني القديم المسمى «جيجاكو» Gigako إلى الوجود وفقًا لاعتقاد اليابانيين «عند خلق الكون». وكانت هذه المسرحيات القديمة مزيجًا من الغناء والرقص والتعبير الحركي الصامت، يستعرض بطريقة رمزية الحياة الآخرة لأرواح الموتى. وفي الفترة السابقة على الإسلام، كان الشاعر العربي شخصية مرموقة ذات سطوةٍ ترجع إلى ما تملكه من قوة سحرية قادرة على حماية الحياة أو تدميرها. وحدة مبدئية في جذور الدين والفن هناك وحدة مبدئية. فالدراما ذات أصل ديني، سواء من ناحية الموضوع، أو من من ناحية التاريخ. كانت المعابد هي المسارح الأولى بممثليها وملابسها ومشاهديها. وكانت أوائل المسرحيات الدرامية طقوسًا ظهرت في معابد مصر القديمة منذ أربعة آلاف سنة مضت. وقد انبثقت الدراما الإغريقية من أغاني الكورال في تكريم الإله «ديونيسوس»، وكانت المسارح تقام بالقرب من معبده، وكان العرض المسرحي يستمر خلال الاحتفالات المتعلقة بعبادة ديونيسوس كجزء من الخدمة الدينية. إن الأصل الشعائري للمسرح وللثقافة بصفة عامة لا شك فيه، وهو يستند إلى أساس من أدلّةٍ تاريخية دقيقة. الإسلام بين الشرق والغرب علي عزت بيجو?يتش ترجمة: محمد يوسف عدس
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©