الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الغُب» التي صارت مدفنة للذاكرة

«الغُب» التي صارت مدفنة للذاكرة
3 ابريل 2013 20:00
تذهب إلى منطقة «الغب» وفي الذاكرة، يتوغل كائن متوحش يتفشى كأنه الزجاجات الفارغة الملقاة على قارعة الطريق الطيني تتعثر عيناك، تتبعثر أنت، تتوتر، تتطور نسلاً، جهنمياً، والجحيم الداخلي يحرق حطب الفكرة المتذمرة، تحترق تنبش في المكان عن بستان نخل هنا كان يضج بالجلجلة، تسأل الله، والناس أين؟ أين ذاك الأخضر الغافي على نحر وصدر؟ أين حب العصافير للزقزقة؟ أين أجنحة الشوق الشفيفة؟ لا شيء يذكرك، لا شيء يبصرك، لا شيء يخبرك، لا شيء يفرحك، لا شيء يأخذك إلى ابتسامة سماء علقت نجومها بخيوط الجلالة، وتوارت خلف سحابات من غبار، وما كفت عن العويل، حيث الصمت الرهيب، يلهب الوجيب، ويشعل أعواد الذبول، في حنايا المكان الغاضب، الشاحب الراهب في ملكوت الخلوة المتعافية بالسكون. تذهب، فتصخب، فتحطب، فتكتب عنك، هنا أنت الذي كنت حادباً جاذباً، واهباً، ساكباً، راكباً ناقة الوجد، متجدداً، متمجداً، متهدجاً، متوهجاً، مطرزاً بنقوش الفرحة الطفولية الزاهية.. تذهب والسؤال يحدق في المكان كأنه يغسل ثياب امرأة بماء العيون، المحتشدة، وجداً كونياً.. تذهب، وهذا المكان أشبه بكائن فارق الحياة، ولم تبق غير جثة، مسجاة على بقايا ركام وحطام، وآلام، وأوهام، وإبهام، وإدغام، وإيلام، وكلام على لسان كائن يلفظ الأنفاس الأخيرة.. غايات ملهمة وحدك تقف تتأمل تتزمل، تتمهل، تتوسل، تسترسل، ترسل عبارتك المبهمة إلى غيابك الأزلي، تحمل حقيبة سفرك باتجاه غايات ملهمة، مستلهمة، فضولها من أعشاب مكان باتت أشبه بالأنيميا، وأنت أشبه بالصوت المبحوح القادم، من بئر مهجورة، نسجت خيوطها العنكبوتية على فوهة القلب، أنت هنا تزور المكان، وكأنك في حضرة القيامة بعض بيوت نامت على الأرض متعبة، ومساجد مادت جدرانها كقوارب خشبية عتيقة، وكلمات كأنها كتبت بالهيروغليفية، وصمت حبرها على السياج الطيني، وتسأل، أين ذهب الصوت.. أنت تسأل عن الصوت، وتسأل عن رائحة امرأة هنا، كانت تغسل ثيابها على طرف خفي من قناة مائية، امرأة كانت تغني بصوت خفي شجي، تمعن النظر، وترهف السمع، لا يذكرك شيء هنا، وأنت الذي تتقن التحديق، بدا لك المكان، كأنه مخطوطة قديمة قِدم الدهر، لم يُعرف لها صاحب، تسد أذنيك، لا تريد أن تسمع هدير الشاحنات المتهورة لا تريد أن تشم الرائحة، المكان هنا استبدل الرائحة برائحة، وتكدس الزيت القميء في الطين، صار الطين عجينا من بقايا ونفايات، وعضلات محطمة، لكائنات حديدية، جثمت على التراب، لديناصورات منقرضة.. هنا الانقراض لكل شيء فالنخلة ماتت منثنية، عاكفة على شوق قديم، نازفة، أحلاماً وأنيناً في انتظار بطل قومي يمد الجذر، ويبلل العروق عبر الحياة. هنا تتوقف أنت تتحسف، تتأسف، تتأفف، وتحذف من الذاكرة، جملاً خضراء، ترتجف هذه النخلة عزلة، وتستخف العابرات المذهلة من طائر جاش يبحث عن أسئلة ويحلق ويحدق، ويسترق السمع للحفيف ويمضي في خفة الريح، تائهاً في الفراغات المفزعة، غائصاً في الليل البهيم، في العتمة المجلجلة، منتحباً صاخباً، قائلاً: العش الذي هنا، سرقته الفجاجة، استباحت دم الفراخ، ولا صراخ إلا لغربان تحط وتنط، وتشط، ثم تفط في سباب اللحظة الجاهمة. تذهب أنت «الغب» تبدو اليوم، نسخة من وحشة، مزنجلة بالخوف وحزن الذين يمرون ويطوفون حول ذاكرة مثقوبة معطوبة، منكوبة مسكوبة على الطين، لهوجة العطشى.. تمر أنت تقف هنا، حيث بعض العاشقين وفنون أحبتهم يغدقون المكان بالنظرة والحسرة، والحشرجة، يغرقون في قراءة كتاب الذاكرة، يتدفقون شوقاً وتوقاً، يعمرون تنانير الحزن التاريخي، فهنا دفن فلان، وهناك فلان، والتنهد، ممحاة تمسح رتوش الصور، تتوقف أنت فهنا نخلة استنسخت الحياة، فصمدت متكئة كأنها الصوف، أو البوذي، في صياحه وقيامه، واحتدامه، والتئامه، وانسجامه، وإحجامه عن معاقرة الفكرة المضطربة.. تقف هذه النخلة كرجل «الفاكينج» الذي تسلح بالنقمة فأبى أن ينحني، تقف هذه النخلة، كهكسوس قديم تفرعن في لحظة نشوته الأبدية، فأوقف عجلات الزمن ليخوض معركة الوجود، «بإرادة القوة» كما قال نيتشة مستجمعة عناصر شهوتها في البقاء رغم انفضاض السامر، وذهاب من ذهب إلى غايات أشبه بالسراب.. هنا عند حافة طريق، عند ناصية تستفيق أنت أولاً، تستفيق كقارض شعر صوفي، تسرقك «النيرفانا» إلى فضاءات أبعد من قمة النخلة، أعلى من هامة الجبل، الحارس القديم، تأخذك بعيداً، وبعيداً تضرب أوتاد خيمتك تقتعد التراب، وتمضي في السؤال.. لماذا يموت النخل، والماء يراق كالدم المغدور، في جهات الكون، لماذا عندما تأتي أنت إلى هناك، تجد المرأة التي كانت هنا ترعى الغنم، وتمضي بالشيم باتجاه أنوثة مبللة بالشوق، والقد الرهيف؟. لا أحد يلقنك ما قالته تلك الأنثى الوادعة، عندما فرت من قسورة زمان، متهور، ومكان متضور، وإنسان يبحث عن ذاته في تجاويف الفوضى العارمة.. تجاعيد الطين تذهب أنت بعيداً في تجاعيد الطين، ومواعيد الزمن، تقول يا رب كيف تحللت النخلة من ليفها، وكيف تسللت في الزمن عارية من أشواق الأقدمين، وكيف تسربلت بالعزلة، متوخية الصبر.. وحبر المكان لم يزل سائلاً يعربد في الخاطر، ويشطر الذاكرة إلى نصفين غير متكافئين، نصف يحبو بطفولة حالمة، ونصف يتزحلق على جليد الطين الأعجف، وأنت ما بين البين، مسقوف بهالة الحلم الكاذب، الحمل الصاخب، الوجد المجاهر، بسخونة الدماء اللاهثة، باتجاه شواطئ تعثرت موجاتها عند لهفة الساجدين للريح والتباريح.. أنت هنا، في الغب في جب النهايات القصوى، تتوارى خجلاً لأنك دائماً ما تأتي متأخراً، دائماً ما تطرح الأسئلة المبتورة، كجذوع النخل المغدورة.. أنت هنا في الجب تسأل الله أن يحمي الغب، من غبار، ونثار، وأسرار، وأسوار، وأدوار، وأطوار، وأنهار، من لبن ما صفت روحه. أنت هنا في معمعة الطين، والعجين، واللحن الحزين، أنت في المواعيد الخاطئة، تسأل عن حبيب غط في الليالي المدلهمة، أنت تسأل وكأنك عابر سبيل، بات في وحشة التيه، ليس له سوى، السؤال، المفتوح، والجرح المفضوح، والعرق المسفوح، والصبوة المكللة بالأحزان والأدران، والأشجان، أنت هنا في التيه في ضياع، النخلة ما بين النسيان والنكران وغضب الجدران واحتساء الرمل لذة المغفرة، على أرض مقفرة، مكفهرة معفرة بجلال النفير الأخير. «الغب» لا بئر، ولا حبر، ولا جبر، ولا سر، ولا خبر، ولا بشر، ولا شجر، ولا حجر، إنا المكان الذي يسكن اللامكان، بإيمان التوحش، والأسئلة الغامضة الرافضة، الباهضة، الراكضة خلف ساعات الزمن، فائقة السرعة.. الغب، هي السقوط الأخير كنخلة عافت الصمود، فاستندت إلى جودى الوهم، والغم، والهم، والسقم، والعتم، والكتم، والرحِم، وما عاد في أفقها ما يبشر بتحرر النجمة من غيمة طائشة تخصب المكان بسقيا الوهم، وتحصد أوراق الزمن، مرحلة تلو مرحلة، ومسألة بعد مسألة، ويطول حبل الوريد، حتى يسكن شفافاً مبتذلة، يطول.. يطول والمسافة ما بين الغب والزمن، هي كالمسافة ما بين السماء والأرض.. الغب اليوم، كائن غامض يقرأ الفنجان، ويفسر خطوط الكف، ويكتب بزعفران الزمن القديم، حكاية رجل تسلق الجذع، ولم يجن رطباً، فإذا بالنخلة تصيح «السفينة لا تجري على اليبسِ» فألقى بحبله، وأناخ بعير رغباته، واستتب، منكفئاً في غضون حسرته.. «الغب» كأنها البقعة المعزولة، في جزيرة الانتماء إلى الخلق.. ألم يقل ابن طفيل إن البداية كانت الأسئلة؟ يقول ابن طفيل من عجينة طينية تكوَّن الخلق، ومن عجينة الأسئلة دبّت الحياة في الروح، ومن روح الطموح، اخضر عشب الكون فاتحاً أفق التحول من بدء حتى مسارات الإبداع.. الغب هي بقة التحول، واحتضان المكان بالأمان منذ الأزمان، والإنسان يخضب الكف برائحة الرطب، ويعطر الروح بأشواق الجني.. الغب هي الرقعة الجغرافية المهذبة منذ الأزل، بسعف النخل، ولهف الناس الطيبين والأسف أن جزيرة النخل جبل العشب، وبحر ما كانوا يعرشون صار في اللحظة المباغتة مكاناً للأسئلة المتوهجة، يسدد معنى الكلمة يجسد كلمة المعنى ينجد سجادة الوعد، ويمضي بالحقب، وعياً وسعياً، ورعياً، وجنياً، ومعنياً، يخاصم الكون، ولا يعتق نبقه على غصن سدره، يجدد الحلم مداراً، ومساراً، وحواراً، وسِواراً، يخطب الود من الناس، قائلاً.. عودوا والعود أحمد، ونخلة في القلب أحلى، وأشهى، وأهوى، وأجلى من سنبلة في عراء أعجف .. الغب، واحة نسيت ثيابها المرقشة عند رصيف ناحل، ينتحل الخصوبة، فلا جواب غير «الله أعلم». وسلام وختام على قصة لم تكتمل فصولها كون الحبر يشكو من رفع الأقلام وجفاف الصحف. الغب تغري وتثري، الحلم وتضع النواميس وعداً كونياً أممياً، يزحف الذاكرة بأوراق الميعاد المكلل بالفرح.. الغب الجاثية على كعب الشغف، ترنو بلهفة المشتاق، كطائر يعيد النشيد، إنساناً بلا مراوغة ويتداول على النخلة حديث الذاكرة ويستعيد المشهد، صوراً بشرية، خضبت، وخبت وهبت، ودبت، وأحبت، وأسهبت، واقتطفت، حتى أثمرت الأرض الوعد، والوجد، والمجد، والعهد، والسعد، والبعد، والشهد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©