الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإسلام وأخلاق المهنة

الإسلام وأخلاق المهنة
7 ابريل 2011 20:39
ذهب بعض المهتمين بالدراسات الأخلاقية إلى أن الأخلاق المهنية علم مصدره» علماء الأخلاق في أوروبا وأميركا الذين اهتموا بهذا الجانب من جوانب الدراسات الأخلاقية، ومن ثم اعتبروه حقلاً بكراً من حقول علم الأخلاق في البيئة الإسلامية، لذا تناولوه بالدراسة والتحليل في ضوء النظرة الغربية التي خصت هذا الجانب من جوانب علم الأخلاق، ومن خلال هذه النظرة كان تعرضهم لمفهوم أخلاق المهنة بالتعريف والبيان، إذ قالوا إن الأخلاق المهنية «مجموعة من القواعد والمعايير الخاصة بالسلوك في المجتمع «ورأوا أن كل مجتمع عنده هذه الأخلاقيات، ذلك لأنها «أنها تشكل في مفهومهم تشكل القاعدة اللازمة لتبادل المنفعة بين أعضائه بعضهم بعضاً ودون هذه القاعدة الأساسية لن توجد مجتمعات يكتب لها الرقى والاستقرار»، وإذا كانت النظرة الغربية لأخلاقيات المهنة تقف عند حد صياغة مجموعة من القواعد التي يسير الإنسان عليها في تعاملاته الاجتماعية من خلال المهن المختلفة، فإن النظرة الإسلامية لمفهوم أخلاق المهنة لا تقف عند حد وضع القاعدة أو المعيار، بل تتعدى ذلك إلى جانب الالتزام الذاتي بهذه القواعد، ولكي نقف على تفصيل ذلك من خلال التصور الإسلامي لأخلاق المهنة، فإنه ينبغي علينا أن نعرض لكلا الكلمتين بالتعريف أولاً: كلمة «أخلاق»: الأخلاق جمع خلق، وقد عرف الخلق بعدة تعريفات منها: - حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولاروية. وهذا التعريف «لابن مسكويه» يرى من خلاله أن هذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعياً من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه شيء نحو الغضب ويهيج من أقل سبب، وكالذي يفرط في الضحك من أدنى شيء يعجبه، وكالذي يحزن من أدنى شيء يناله. ومنها ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب وربما بدأ بالفكر والروية، ثم تكون المداومة عليه حتى يصير ملكة وخلقاً. - وعرف الإمام الغزالي الخلق بأنه «هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة من غير حاجة إلى فكر وروية»، «ويرى الإمام الغزالي أن هذه الهيئة إذا كان الصادر عنها «الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً، وإذا كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً»، ولعلنا نلحظ فيما ذكره الإمام الغزالي من تعريف للخلق أنه تعريف المهنة: بالنسبة لكلمة «مهنة»، فقد ورد عنها في المعجم الوسيط أنها «العمل، والمهنة: العمل الذي يحتاج إلى خبرة ومهارة وحذق بممارسته. وهو في مهنة أهله في خدمتهم».. ونلحظ في هذا التعريف تقيد كلمة المهنة» بالخبرة والمهارة والحذق»، وهذه صفات مناسبة لمعنى الخلق، حيث إن الخلق يلزم عنه صدور السلوك من الإنسان بلا تدبر ولاروية ولن يصل الإنسان إلى هذه المنزلة إلا من خلال تحليه بعدد من الصفات التي تجعله متمرساً ومتمكناً في مهنته والتي من أهمها «الخبرة والمهارة والحذق». كذلك نلحظ في بيان معنى»المهنة» اقترانها بـ«الخدمة»، وهذا الاقتران يضفي بعداً أخلاقياً تستشعره عند إطلاق الكلمة واستعمالها. وبالنظر إلى ما تقدم من بيان لمعنى كلمتي «الخلق، والمهنة»، يمكن أن نعرف أخلاق المهنة بأنها: «مجموعة من الصفات النفسية المستقرة في نفس الإنسان يصدر عنها سلوكه لدى ممارسة المهن المختلفة بلا تدبر ولا روية». إن الإنسان كي يصل إلى خلق مهني معين لا يتم له ذلك إلا إذا مر بعدد من المراحل التي تكون الخلق وتولد السلوك المعبر عنه، هذه المراحل هي: «الخاطر، فالميل، فالرغبة، فالإرادة، فالعقل، فالعادة»، ومن هذا المنطلق كان اهتمام علماء الإسلام بالأخلاق المهنية والتي نظر إليها علماء الأخلاق على أنها جزء من علم الأخلاق العملي والذي من خلاله يبحث في أنواع الملكات الفاضلة التي ينبغي على الإنسان أن يتحلى بها ويمارسها في حياته العملية، وذلك مثل الصدق، والأمانة، والوفاء بالعهد، والشجاعة، والعدل، والرحمة وغيرها من السلوكيات التي لها مثال واقعي في الخارج، ومن ثم ندرك أن الهدف من الجانب العملي في الأخلاق، هو الجانب التطبيقي الذي ينقلها من أبراجها العاجية إلى الممارسة والواقع في المهن المختلفة. وهذه هي الغاية الحقيقية من الأخلاق، فالمرء لا يكون فاضلاً لمجرد أنه يعلم ما يجب عليه فعله، بل فضله وشرفه في أن يعمل ما يجب عليه فعله، وهو عالم لماذا يقوم بهذا العمل على هذا الوجه بعينه دون غيره من وجوه الفعل المختلفة، ومن هذا المنطلق نقول إن النظرة إلى المهن المختلفة وتقسيمها بحسب المرتبة إلى شريفة ووضيعة أمر لا يعرفه الإسلام، إذ الإسلام يرى أن الشرف والخسة في مجال المهنة مداره في وجود العمل وعدمه. فالعمل أياً كان نوعه -مع استصحاب مشروعيته والالتزام بأخلاقياته وإتقانه- هو قمة الشرف والعظمة في الإسلام. أما انعدام العمل، أووجوده مع فقد مشروعيته، والتخلي عن أخلاقياته، فهو قمة الوضاعة والمهانة. وليس هذا فحسب، بل إن صاحبه في هذه الحالة -كما بين الإسلام - يستحق الذم والمقت والعقاب من الله ومن الناس. وقد تضافرت النصوص من-كتاب وسنة- على بيان هذا المعنى وتأكيده، أما من الكتاب فنجد قول الحق سبحانه «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» الملك (15)، وقوله تعالى «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» الجمعة (10)، فهاتان الآيتان قد ورد فيهما الأمر بالسعي واحتراف المهنة دون تحديد لمهنة بعينها؛ لأن المهن المختلفة في نظر الإسلام سواء، غاية ما هنالك أن يلتزم الإنسان بمشروعيتها، والقيام بحقوقها والالتزام بأخلاقها وآدابها، وذلك لأنه لا بد من العرض على العليم بخفايا النفوس، وما تكن الصدور، ليكون بين يديه سبحانه، الحساب على الإخلاص والالتزام بآداب وحقوق الأعمال والمهن المختلفة. ومن ثم يقول سبحانه: «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» التوبة (105) ولعلنا نلحظ ذكر «المؤمنين» بعد الأمر بالعمل مما يوحي معه إلى مراعاة الأبعاد الاجتماعية في الإتيان بالمهن والأعمال المختلفة. أما من السنة: فإننا نجد قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه البخاري «ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»، وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الممتهنين الذين يسعون لسد حاجاتهم، وحاجة من يعولونهم في سبيل الله، حيث مر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم رجل-، فرأى الصحابة من قوته وجلده ونشاطه، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان». ولعلنا لاحظنا في نص الحديث ما يفيد أن العمل إذا خلا من الخلق القويم، وحفه الرياء والمفاخرة، كان مآله إلى بوار، وصاحبه إنما يسير على طريق الشيطان، وهذا حث صريح من النبي- صلى الله عليه وسلم- على الالتزام بأخلاق المهنة والعمل. ويبين لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر كيف أن الشرف والرفعة في امتهان الحرف والتزام العمل، والدونية والخسة في انعدام الحرفة والمهنة؛ لأن بانعدامها مد لليد بالسؤال، وهذا ما يأباه الإسلام لأتباعه، يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري «والذي نفسى بيده لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه»، ويقول -صلى الله عليه وسلم- في فضل المتاجرة المقترنة بالالتزام بأخلاق المهنة وآدابها «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء»، وعلى النقيض من ذلك بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عدم الالتزام بأخلاق المهنة والعمل، من شأنه أن يحجب إجابة الدعاء، حيث ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي من حرام فأنى يستجاب له». وفي الاهتمام بالعمل دون تمييز عنصري لنوعه أو جنسه نجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول «إن الله يحب العبد المحترف»، وورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أيضاً أنه حينما كان يدخل عليه أحد يسأله: هل لك حرفة؟ فإذا قال لا أعرض عنه، ويقول صلى الله عليه وسلم «إن الذي لا حرفة له يعيش بدينه»، ويفاخر النبي -صلى الله عليه وسلم- بيد علاها الكد من عناء العمل فيرفعها ويقول «هذه يد يحبها الله ورسوله»، وفى رواية أنه قبلها. وعلى الدرب نفسه سلك المسلمون نهج نبيهم- صلى الله عليه وسلم- فها هو الفاروق عمر يقول: «يعجبني الرجل فأسأله عن حرفته، فإذا لم أجد له حرفة سقط من نظري»، وكما سبق وأشرنا ليس مدار الشرف والخسة في الإسلام يعود بالنسبة للعمل وعدمه فحسب، بل إلى أدائه على وجهه الأكمل، وهيئته الأتم مع الالتزام بأخلاقه وآدابه، وهذا ما يشير إليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه»، ومما يدل على تأكيد تلك المعاني السابقة أن كثيراً من أنبياء الله ورسوله كانوا أصحاب مهن وحرف، فما قصروا في عملهم ومهنهم، بل أدوا واجبهم نحوها على أكمل ما يكون ملتزمين بآدابها وأخلاقها ليقدوا ليكونوا القدوة للبشرية جمعاء. وإذا كان ما تقدم يعبر بوضوح عن تصور الإسلام للمهنة والاحتفاء بفضلها، فإن هذه النظرة الإسلامية نبعت من كون البشر خلق الله تعالى، ومن رحمته أن يسر لكل منهم حرفته ومهنته، فلا تفاضل بين مهنة وأخرى بالشرف أو الخسة، ما دام يأتيها صاحبها بحقها، ومن ثم كان قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»، ذلك الحديث الشريف الذي يرسخ في الأذهان «أن كل عمل يسهم في دفع عجلة الحياة وجلب الخير للمجتمع هو عمل شريف وصاحبه إنسان شريف يستحق كل التقدير ولا يجوز لنا أن نستهين بأي مهنة أو حرفة مهما بدت ضئيلة فإنها في النهاية لها أهميتها في حركة الحياة ككل، ولا تستقيم الحياة بدونها، والعمل الذهني مثله مثل العمل العضلي كلاهما ضروري لحركة الحياة ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر. وقد كان أنبياء الله تعالى جميعاً يمارسون بعض الحرف وفى مقدمتها رعى الغنم، ولم يقلل ذلك من قيمتهم ومكانتهم «من هذا المنطلق تناول علماء الإسلام المهن المختلفة، وبيان أحكام الإتيان بها، والالتزام بآدابها دون تفرقة بين مهنة وأخرى. ولا أدل على ذلك من قول الإمام ابن تيمية»، قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وبن حنبل وغيرهم كأبي حامد الغزالي وأبى الفرج بن الجوزي وغيرهما: «إن هذه الصناعات: كالفلاحة والنساجة والبناية، فرض على الكفاية، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها». ويقول في موضع آخر «إن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى يقوم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، ولا سيما إن كان غيره عاجزاً عنها، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجباً يجبرهم ولى الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، هكذا نظر الإسلام إلى المهنة في مصادره التشريعية، وتراث مفكريه، فأبطل الازدرائية التي تسيطر على مخيلة بعض الناس ممن لهم تصور عنصري لحرف ومهن معينة، فجعل كل مجد في مهنته ملتزم بأخلاقها يتهادى فخراً بهذه النظرة التقديرية النابعة من الموضوعية الملهمة من تشريع السماء والذي صدع به خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام. د. محمد عبد الرحيم البيومي كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©