السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مشاهد سردية

مشاهد سردية
7 أغسطس 2008 01:18
تحتفظ لنا بعض فلذات الشعر المتناثرة في كتب المختارات بعدد ضخم من اللقطات التصويرية لمواقف ومشاعر الإنسان في العصور الماضية، مما يمثل خبرة متراكمة مثرية للروح، وأبرز هذه المشاهد ما يجسد تعدد الحالات بطريقة سردية وجيزة تغني عن حكايا مطولة· وأهم ما في هذه الفلذات هو التنوع الذي يجعلها دليلاً على خصوبة الروح البشري منذ القدم، فهذا شاعر يسمى زالأقرع بن معاذس يصور لقطة الوداع قائلاً: فقالت: وعيناها تفيضان عبرة بنفس بيّن لي متى أنت راجعُ فقلت لها: والله ما من مسافر يحيط له علمٌ بما الله صانع فقالت ودمع العين يحدر كحلها تركت فؤادي وهو بالبين رائع وألقت على فيها اللثام وأدبرت وأقبل بالكحل السحيق المدامعُ فالشاعر بدلاً من أن يصور لواعجه عند لحظة الوداع آثر أن يستغرق في استحضار مشهد عيونها الدامعة وهي تسيل بالكحل الذي كان يمثل أبرز ملامحها، مصورًا لهفتها على معرفة موعد عودته وإصراره على أن لا يخدعها بمواعيد لا يضمن صدقها، فما من مسافر في تلك العصور، وحتى في العصر الحديث، يستطيع أن يقطع بموعد عند عودته، ولكن اللفتة المثيرة للانتباه في الصورة الشعرية هي عندما تلقي المحبوبة اللثام على فيها وتقفل عائدة مكلومة من الفراق، فالشعر هنا كان يقوم بدور زالكاميراس في تقريب منظر العين الدامعة ولفتة الإدبار وسيلان الكحل ووضع اللثام على الفم دون أن ترتد إلى المسافر لتمسح وجهه أو ترصد حالته· غير أن الحياة القديمة ـ مثل الحديثة ـ لم تكن دائمًا على هذا القدر من الوفاء العاطفي ولا النبل الإنساني، فهناك شعراء آخرون صارحونا بما كان يعتورها من نفاق وزيف وتضليل، وهؤلاء هم الذين يحمون وعينا من أن يتوهم مثالية الناس في العصور الماضية ونتخيل أنها كانت الفردوس المفقود الذي نتمنى عودته، فمسيرة التقدم الحضاري للبشرية تثبت عكس ذلك· المهم أن أبا نواس يرسم لنا صورة طريفة عندما يقول فاضحًا صاحبته: ومظهرة لخلق الله نُسكًا وتلقي بالتحية والسلام أتيت فؤادها أشكو إليه فلم أخلص إليه من الزحامِ فيا من ليس يكفيه محبُّ ولا ألفا حبيب كل عام أراك بقية من قوم موسى فهم لا يصبرون على طعامِ ويعنينا من هذه القطعة اللاذعة أمران: أحدهما أننا نلمح فيها بذرة صورة المتنبي الشهيرة في قوله يصف الحمىّ: أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام فذواكر الشعراء تتبادل الخديعة وهي تشكل الصور فتستحضر موروثًا وتظن أنه مبتكر عن غير قصد· أما الأمر الثاني فهو إشارة أبي نواس إلى اليهود الذين جاء عنهم في الذكر الحكيم زوإذا قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحدس وتوظيفها في هجاء صاحبته التي تمثل طرف النقيض في عدم الوفاء أو الاكتفاء·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©