الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

موناليزا

موناليزا
7 أغسطس 2008 01:26
''هل ترى أن تلك المرأة الأجنبية جذابة؟'' سأل الصديق (لين) هامساً وهو يشير إلى زبونة أجنبية تجلس على الطاولة المجاورة، مديراً رأسه بسرعةٍ وقد فرغ من طاسة حساء الخضروات الروسية· هذا طيشٌ منك، هكذا خطر ببالي، من دون أن أقول شيئاً· كان صديقي قد قدِم لتوِّه إلى (شنغهاي) فراراً من منطقة تعرضت للقصف الجوي الياباني ولم يكن قد قضى سوى ساعتين بعيداً عن الزحام البشري الكثيف في المحطة الجنوبية حيث مزِّقت فيه عباءته الحريرية، لكن ها هو ذا يسارع لاهياً عابثاً يتسلى في إطراء امرأة أجنبية· ردَّ عليه صديق آخر ببرود: ''ملامح جدُّ عادية، لا شيء يلفتني فيها''· قال (لين) بحماس: ''لا، أنا أرى أن لها نظرة (موناليزا ليوناردو دافينشي)''· بدا لي أن الشراب قد أهاجه وأنه كان بصدد أن يقول الكثير الكثير لولا أن لعلعة قصف الطائرات قد علت من جديد متسببة في تخفيض ضجيج المطعم إلى أدنى درجة سارع خلالها ثلاثة زبائن في دفع فواتيرهم مغادرين· نسي (لين) (الموناليزا)، وانكب بدلاً من ذلك على التهام الخبز· جلست كسولةً، وإلى جوارها طفلٌ في الرابعة من العمر تقريباً، راحت تلقمه بالشوكة شرائح الطماطم، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة توحي بالوحدة· كنت قد رأيتها مرات عديدة في مطعم (هون لونغ)، وفي أول مرة رأيتها برفقة رجل صيني، أما في المرات اللاحقة فأبصرتها تتغدَّى مع الطفل كل يوم طوال الأسبوع· كانت تجلس في هدوء مع الطفل في مكانها المعتاد وهي تدور بعينيها كأنما تترقب أحداً وتلك الابتسامة التي تشي بالوحدة لا تبارح وجهها· لم يسبق لي أن سمعتها تتحدث سوى عبارة أو عبارتين قصيرتين مخاطبة النادل أو الطفل· نقاء وجهها الطويل، وضفيرتا شعرها البني وبريق عينيها المشرقتين وقميصها ذو الكمين الطويلين تحت ردائها، كل ذلك جعلها تبدو أصغر من أن تكون أمَّ الطفل· لم أستطع أن أبدي رأياً عن شخصيتها، ولم أستطع أن أحدِّد حتى جنسيتها، لأنها كانت لا تتكلم إلا نادراً وبصوت جدّ خفيض، لدرجة أنني لم أتمكن من معرفة اللغة التي تتحدث بها، لذا، لم أبد رأياً على تعليق (لين) إذ لم أكن اللحظة في مزاج التحدث عن أمور كهذه، وفضلت ونحن نغادر المطعم أن أُسلِمها للنسيان· ولما عدت بعد يومين إلى المطعم وحيداً هذه المرة، كانت قد سبقتني إليه، ابتسمت حين أبصرتني فيما يشبه أو لا يشبه التحية، لكنها دون ريب ابتسمت لي كما يبتسم المرء لشخص يعرفه· أثارني تعبير وجهها إذ بدا كتعبير شخصٍ في حاجةٍ ملحة إلى أصدقاء لمساعدته، أظهرت امتناني لابتسامتها دون تهوُّرٍ واخترت كرسياً إلى جوار النافذة وجلست· أحنت رأسها كي تشرح شيئاً ما للطفل الذي كان يضايقها بشأنٍ ما لكنه لماّ لمحني أنظر إليه التوى في حياءٍ ليواري وجهه خلف ظهرها· ابتسمت لي المرأة ابتسامة ودودة وحركت شفتيها كما لو كانت تهمُّ بقول شيءٍ مَّا، ثم عدَّلت وزمت شفتيها من دون أن تنطق بشيء· تناولت حساء الخضروات الروسي مفكراً فيما عساها ودت أن تقوله، أو ما عسى أن تكون المساعدة التي تريدها مني، أو المسائل التي لن يكون بمقدوري الإجابة عليها بأية وسيلةٍ فحسب، بل أيضاً تلك التي لست في حاجة إلى أن أفعل، ذلك لأني سمعتها تتحدث لغة أعرفها· كانت تتحدث إلى النادل بالفرنسية، فيما كان هو لا يعرف غير الصينية سوى القليل من الإنجليزية والقليل من اللغة الروسية، وكلماتها الصينية القليلة كانت غير مفهومة تماماً· ظلا يتحدثان لبعض الوقت من دون أن يفلح أيٌّ منهما في فهم الآخر، كان هو يكابد في محاولة الإفصاح، وكانت هي تحمرُّ مرتبكة· وكان هذا بالنسبة لي تعذيباً إذ كنت قادراً على فهمهما معاً، فاقتربت منهما عارضاً خدماتي كترجمان· تبين لي أنها كانت تتناول وجباتها هناك بسعر محدد، وأنها تريد أن تنهي هذا التدبير قبل بطلان صلاحيته، حيث إنها ستنتقل إلى مكان آخر· حرصت على أن أجعل كلاًّ منهما يفهم الآخر على الوجه الأكمل، وحللت لها المشكلة فابتسمت لي شاكرة· وفكرت، الآن حانت فرصتي· كنت مهتمّاً بها، وقد شككت أنها سترفض أن ترد علي لو أني انتهزت الفرصة وسألتها إلى أين تنوي أن تذهب· الحقيقة هي أنها نظرت إليَّ نظرة ترحيب ودعتني إلى أن أنتقل من طاولتي لأجلس إلى طاولتها، لم أُبدِ أدنى اعتراض، بل التقطت كوب شايي الأسود وعدت إلى طاولتها· قالت بتلقائية: ـ ''أنا ذاهبة إلى (هانغزو) للبحث عن زوجي· اسمي (سُن)''· تذكرت الرجل الصيني الذي سبق لي أن رأيته وتأكد لي أنه لابد زوجها· كيف كان شكله؟ لقد أبصرته مرةً فقط، لكني أتذكر رجلاً لم يبلغ الثلاثين بعدُ ذا ملامح عادية باستثناء عينين متقدتين تضيئان وجهه كله على نحو غير مألوف· واصلت قائلة: ـ ''لعلك قد رأيته هنا· اعتدنا أن نتناول طعامنا هنا كل يوم أحد· كان يعود إلى البيت أيام السبت، كل سبت''· توقفت محنيةً رأسها ناظرة إلى الطفل الذي كان يجلس في كرسيه ساكناً مصغياً إليها بانتباه· ألقيت نظرة خاطفة إلى عينيه وذهلت رغماً عني إذ أبصرت كم كانتا متقدتين سلفاً تماماً كعيني أبيه اللتين سبق أن رأيتهما! قالت وقد خالط صوتها شيء من الارتعاش: ـ ''لكني لم أتسلم منه رسالة منذ أسبوعين· ولا رسالة! لم يحدث أن كان مهملاً على الإطلاق· لابد أن شيئاً قد حدث له· وهذا هو السبب في أنني أود الذهاب للبحث عنه''· ولأن هذه الكلمات لم تعطني أية فكرة عن أي نوع من الرجال هو ذلك الرجل، زوجها، ولم تمدني بأي تصوِّر عن سبب قلقها، فقد سألتها: ـ ''هل (للسيد سن) عمل تجاري في (هانغزو)''؟ وعند سماعها هذا السؤال اختفت من وجهها أمارات القلق، وحلت محلها نظرة الرضا كبرهان على افتخارها بوظيفة زوجها· قالت: ـ ''إنه ملازم أول في الطيران الحربي، طيار رائع· لقد ظل يتشوّق لفرصةٍ كهذه· كان يقول دائماً إنه يودُّ أن يثأر لضحايا قصف الأبرياء منذ الـ28 من يناير· وها هي ذي فرصته قد جاءت''· قفز الطفل من كرسيه عند سماعه هذه الكلمات، وصاح بإلحافٍ: ـ ''أمي، أريد أن أرى أبي يطير بطائرته الحربية''· ـ ''صه! لسوف آخذك للبحث عن بابا حتى آخر الأرض''· انحنت لتهدئه، وقد سكن صامتاً مع أنه ظل متشبثاً بها· حين رفعت رأسها ثانية لتتحدث إليَّ، كان وجهها قد فقد إشراقته· قالت برقة: ـ ''أعرف أنه قادرٌ على الثأر· أمَّا وقد حانت الفرصة الآن، فإنه سيسدد دينه ويبلي بلاءً حسناً· كان دائماً يردِّد إن ديون الدَّم يجب أن تدفع بالدم، وإنه سيغسل عار الماضي بدمه· أخشى أنني لن أعثر عليه في (هانغزو)· أشك أنه هناك· لقد أسقطت طائرة حربية صينية أمس، هكذا سمعت· وسمعت أن الطيار هبط بمظلته على مواقع العدو ورفض الاستسلام ثم انتحر بعد أن قتل العديد منهم· لا أدري بعد ما اسمه، لكني أظن أنه زوجي· هل سمعت أيضاً، يا سيدي بهذا الخبر؟''· قلت: ''نعم، قرأته في الصحيفة· إنسانٌ شجاع فعلاً''· لم يكن أمامي من سبيل آخر أستطيع به الرد على سؤالها· قالت متعجبةً وقد اتسعت عيناها فجأة: ـ ''أنا واثقة أنه هو! لقد كان إنساناً شجاعاً!'' قلت كاظماً مشاعري المتدافعة، محاولاً أن أهدئها: ـ ''لعله لم يكن (السيد سن)· أنا أجزم أنه في أمان، وآمل أنك ستجدينه في (هانغزو)''· هزَّت رأسها مبتسمةً ابتسامة متحرِّرة من النقمة والسخط، ابتسامة مفعمة بالمعاناة، قالت: ـ ''لا تظنَّ، يا سيدي أنني مهتمة فقط بالسعادة الشخصية· الفرنسيون، مثلهم مثل الصينيين، يعرفون كيف يحبون الحرية والعدالة· إننا لم نُحنِ أبداً رؤوسنا في وجه القوة· لكن،···'' ثم سرعان ما صوَّبت نفسها، ''أنا الآن صينية! وأستطيع أن أفعل ما تفعله أي امرأة صينية، وأود من زوجي أن يهب حياته فداءً لأبناء وطنه· ما دامت الصين كلها ثائرة هائجة، فقد حان الوقت لدفع دين الدم بالدم· إنه حظه الحسن قد واتاه إن هو قد فعل ذلك· وأنا قادرة على تنشئة طفلنا الذي يشبه أباه وربما يفعل هو أيضاً ذات يوم ما فعله أبوه· أنا متأكدة أن الحرب ضد اليابان ستتواصل حتى يتحرر أبناء هذه الأرض''· كان زهوها يتصاعد وهي تتحدث، وقد تورد خدّاها، واتقَّدت عيناها، وأشعلت كلماتها حماسي كما لم تشعله كلمات أبلغ الخطباء· حاولت أن أفصح عن مشاعري بالكلمات، غير أن قلبي كان يخفق بقوة شديدة صرت معها أتمتم فجاة، وتحت إلحاح الطفل المتواصل، اضطرتْ أن تقف، ومن دون أن تنتظر لي كي أتحدث مدت يدها نحوي قائلة: ـ ''وداعاً، لابد لي أن أذهب· شكراً لك· أنا متأكدة أننا سنلتقي ثانية''· توقفت، ثم أضافت: ''في ظروف أفضل''· ابتسمتْ ابتسامة قلبية لمحت فيها التفاؤل واضحا بيِّناً في عينيها· ''في ظروف أفضل'' غمغمتْ ثانية شادَّةً يدها بحرارة· وددت أن أبقي يدها في يدي لفترةٍ أطول، إلا أنها قادت الطفل بعيداً، في حين رحت أحدِّق ببلاهةٍ في الأبواب الزجاجية حيث كانت ضفيرتاها البنيتان لا تزالان تتأرجحان خلف رأسها· ولم أرها مرة ثانية· وبعد يومين ذهبت أنا وصديقي (لين) إلى (هون لونغ)· قال (لين) وقد افتقدها فجأة، ووقف بعد أن أكمل شايه: ـ ''لماذا (الموناليزا) ليست هنا اليوم؟ كيف؟'' ـ ''(الموناليزا)؟'' قلت مدركاً من يعني· ـ ''أنت عارف· لا تدَّع الغباء''· لم أعلِّق بشيء· بل سرحت في التفكير· كانت ضفيرتان بنيتان تتأرجحان أمام عيني في حين رحت أتذكر أشياء عديدة أخبرتني بها امرأة فرنسية· للأديب الصيني الشهير (باجن) ترجمة: د· عبد الوهاب المقالح
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©