السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البيوت أسرار

البيوت أسرار
9 أغسطس 2008 23:57
نحن إخوة وأخوات كثيرون، من أمهات من جنسيات عدة· كانت أمي الزوجة الأخيرة، تزوجها والدي وهو في الخامسة والستين من عمره وقد عاشت معه ست سنوات أنجبت خلالها أخي الذي يكبرني بعامين وأنا، ثم توفى والدي وترك القبيلة التي أنجبها تتصارع في ما بينها· الأمهات يخططن للإطاحة ببعضهن البعض والأولاد ينفذون الخطط الجهنمية· صراع رهيب وألاعيب كثيرة من إخوتنا الكبار أثرت على حصتنا من الإرث، فقد كان هدفهم هو الاستيلاء على كمية أكبر من المال الكثير الذي تركه والدي، وعلى الرغم من كل ذلك فإن حصتنا من ذلك المال كانت ستكفينا لولا تصرف والدتي اللامسؤول بحقنا· لم أر والدي، فلقد ولدت بعد أن مات بأشهر قليلة · ولم أعرف إخوتي وأخواتي وإنما سمعت عنهم الكثير وقد كرهتهم لكثرة ما حكت لي أمي عن جشعهم وطمعهم، فلم أحاول يوما التعرف عليهم أو الالتقاء بأحد منهم· لم تشعر أمي بأي انتماء هنا، وبقيت تحن لبلدها، وتعبر عن ندمها الشديد لأنها اضطرت تحت ضغط الوضع المادي السيئ لأهلها إلى قبول مثل هذا الزواج غير المتكافئ· فقد كانت وقتها في الخامسة والعشرين من عمرها وكان والدي في الستين، وقد أغراها بالمال الذي حرمت منه· خصوصا بعد أن تخرجت من الجامعة ولم تحصل على وظيفة لسنة كاملة، فصارت والدتها تضغط عليها بالكلام والعتاب، فتقول لها: لقد ربيناك وصرفنا عليك الكثير من أجل أن تتخرجي وتكوني لنا عونا لتربية إخوتك، فإذا بك تجلسين في البيت لا حول لك ولا قوة، فأين ثمرة صبرنا؟ كان كلامها مؤثرا لدرجة أن والدتي رضيت بالزواج من رجل كبير في السن، فقط لتخفف عن والديها العبء وتساعدهما ببعض المال· بعد الزواج جاءت إلى هنا لتكتشف العدد الكبير من الأسر التي كونها والدي طوال حياته وقد تعددت زيجاته لأكثر من عشر حريم، كل واحدة من بلد، وقد أنجبن ستة وعشرين ولدا وبنتا غيرنا أنا وأخي· كنت أستغرب عندما تخبرني والدتي بأن لي إخوة أشكالهم غريبة وعجيبة، فمنهم من يشبه الصينيين ومنهم من يشبه الأفارقة ومنهم من يشبه الهنود ومنهم من يشبه الروس، هذا بالإضافة للأشكال الخليجية والعربية المختلطة· غربة وتغرب زرعت أمّنا بداخلنا الشعور بالاغتراب عن هذا المجتمع ولم تترك لنا فرصة الاختلاط بأحد من إخوتنا أو أقاربنا· أدخلتنا المدارس الأجنبية وأجبرتنا على التحدث باللغة الإنجليزية حتى في البيت، ولم تحرص على تعليمنا اللغة العربية ومبادئ الدين، فهي متمردة على كل شيء وأرادت لنا أن نكون أحرارا من كل القيود· لم أكن أكترث لتفاصيل الأمور في طفولتي، ولكني عندما كبرت بدأت الأسئلة تكبر بداخلي· صرت أشد حساسية من أخي تجاه كل شيء خصوصا عندما عرفت بأنني ابنة هذا البلد، ولكن مظهري وسلوكي وطريقة لباسي لا توحي بهذا الانتماء· كما أني لا أعرف شيئا عن عادات وتقاليد أبناء بلدي، وكم مررت بمواقف محرجة مع زميلات وزملاء الدراسة حين يسألونني بعض الأسئلة المحرجة عن حياتي وأهلي فلا أملك الإجابة وأجدهم يستهزئون بي من وراء ظهري· أنفقت أمي الأموال التي ورثناها من أبي على المظاهر والعلاقات والصداقات والسفر· كما أن تكاليف الدراسة في المدارس الخاصة كانت غير قليلة، وبالطبع فإنها لم تخبرنا بأية تفاصيل عن أوضاعنا المادية حتى وصلنا إلى سن دخول الجامعة، عندها صارحتنا بأن المال الذي ورثناه بدأ بالنفاد، وأننا سنواجه مشكلة كبيرة علينا حلها· لم يكن سهلا علينا مواجهة مثل هذا الوضع، لأن والدتي لم تعطنا أية تمهيدات لإمكانية حدوث مثل هذا الشيء من قبل، لذلك فكرنا بأن نطلب المساعدة من إخوتنا، فلم تقبل والدتي بهذا الحل وقالت: أموت ولا أجعلهم يشعرون بفشلنا وضعفنا· اقترحنا عليها أن نترك الدراسة ونعمل بوظائف عادية فلم تقبل أيضا، ثم بعد أن عجزنا عن إيجاد حل يرضيها أخبرتنا بأن هنالك حلا آخر وهو أن نذهب معها إلى بلدها لنعيش هناك وندخل الجامعة فيكفينا ما تبقى من المال، هذا بالإضافة لراتب الشؤون الذي نستحقه·· وبالفعل فقد رتبنا أمورنا لتنفيذ هذه الفكرة، فما الفرق في أن نعيش هنا أو هناك ما دمنا لا نملك أية انتماءات لهذا البلد أو ذاك· حياة مختلفة انتقلنا إلى بلد أمّنا واستأجرنا شقة لائقة بنا ثم دخلنا الجامعة هناك وتعرفنا على أناس أحببناهم وأحبونا، ولكن أمّي بدأت تتغير، ولا أعرف السبب· صارت عصبية طوال الوقت، متسلطة تفرض أوامرها علينا بشكل غير عادل· يبدو أنها صارت تشعر بمسؤولية أكبر تجاهنا، فبدأت بتضييق الخناق على أخي، وهو شاب تعود على حياة اللهو والعبث مع أصدقائه· بدأت بمنعه من الخروج وصارت تسأله عن نوعية أصدقائه فتأمره بترك هذا أو ذاك، ثم تنفجر بوجهه عندما يحضر صديقته معه إلى المنزل· كنا مستغربين لانقلابها، فهي التي ربتنا على هذا النوع من الحياة فكيف تريدنا أن نتغير بين ليلة وضحاها؟ هل نسيت نفسها عندما كانت بعيدة عن أهلها؟ هي خلعت الثوب الذي كانت ترتديه عندما فارقت بلدها، فهل تريد العودة لثوبها القديم؟ فما ذنبنا نحن في كل ذلك؟ حدثت مشاجرات كثيرة بينها وبين أخي حتى ضاق بها ذرعا فترك البلد وسافر مهاجرا إلى أميركا، فعمل وعاش هناك· أما بالنسبة لي فقد حاولت عدم إثارتها بالرغم من عدم قناعتي بكل ما تقوم به، وعندما كانت تضغط عليّ كنت أهددها بتركها والالتحاق بأخي لأخفف من شدة ضغطها عليّ فتهدأ وتبكي بحرقة· ثم تطور الأمر فتحجبت وصارت تصلي ثم ذهبت لأداء فريضة الحج وعادت وهي مخلوقة أخرى أكثر شفافية ورقة، مع شيء من العزلة الروحانية حتى فارقت هذه الحياة وتركتني وحيدة· كنت في تلك الفترة أخرج مع شاب أرتاح له لأنه يحمل أفكارا تحررية تناسبني، وقد كان أقرب الناس إلي في محنتي بعد وفاة والدتي· ساعدني على الاستمرار في الدراسة إذ لم يبق لتخرجي من الجامعة إلا أشهر قليلة، فبفضله استطعت إتمام دراستي· الحقيقة هي أنني لم أتعرف على أهل أمّي إلا بعد وفاتها، فهي كانت قد قاطعتهم منذ زمن طويل، ولم تحرص على إعادة العلاقات معهم إلا قبل موتها بمدة بسيطة، ولكنهم رفضوا مصالحتها لشدة تكبرها وتعاليها عليهم لسنين طويلة، ولكن عندما ماتت تأثروا كثيرا وندموا لأنهم قد تخلوا عنها عندما كانت بحاجة إليهم· عرضوا عليّ المساعدة والعيش معهم ولكني رفضت ذلك رفضا قاطعا لأنني لم أكن أعرفهم من قبل، فقالوا: متكبرة وعنيدة مثل أمها· لم أتصور أن نبأ وفاة والدتي سيؤثر كل ذلك التأثير على أخي، فهو عندما اتصلت به وأخبرته بموتها بكى بكاء مريرا، فأدركت أنه كان يحبها كثيرا ولولا تسلطها وعنادها لما بعد عنها كل هذا البعد· مشروع الزواج بعد تخرجي من الجامعة عرض عليّ زميلي الزواج فوافقت بلا تردد وتزوجته بلا أية مظاهر للفرح، ثم بعد أيام قليلة من الزواج عرض عليّ العودة لبلدي كي نعمل معا ونكسب عيشنا، فلم أفكر كثيرا ووافقت لعلمي بأن العمل في بلده شبه مستحيل· عندما عدنا لبلدي بدأنا عملية البحث عن عمل، ولم يكن صعبا عليّ إيجاده فعملت في شركة خاصة كبرى بوظيفة ممتازة، أما زوجي فإن الأمر كان بالنسبة له شبه مستحيل· في هذه المحنة البسيطة اكتشفت نوعية الإنسان الذي ارتبطت به· فقد صدمت عندما طلب منّي ارتداء الملابس المثيرة ومحاولة إغراء مدير الشركة كي يقوم بتوظيفه· رفضت ذلك وأخبرته بأنه قد سقط من عيني بهذا القول، بعد أن اكتشفت أنه إنسان خالٍ من الغيرة، ولكنه غضب وصرخ بوجهي: ألم تتربي على الحرية؟ ألم تتعاركي مع والدتك بسبب ذلك؟ ألم تتزوجي بي لأنني إنسان ''فري''، خال من العقد؟ فلماذا تريدين التمسك بتلك العقد الآن؟ سكت ولم أستطع التمييز بين الحرية وبين التمسك بالأخلاق، فالأمور مختلطة بالنسبة لي، حتى أنني لا أكاد أعرف حدودا بين ذلك· عموما ، فقد نفذت له ما أراد وقابلت مدير الشركة وأنا في كامل زينتي الفاضحة، فخجلت منه لشدة حيائه، فقد اضطر لإنزال عينه على الأرض ليتحاشى النظر إليّ· كان شابا رائعا بمعنى الكلمة، عندما عرفته شعرت بأنني وجدت نصفي الثاني· أعجبني برجولته وكبريائه وتمسكه بعاداته وتقاليده ودينه وغيرته الشديدة على محارمه، فلم أستطع إكمال مشواري مع زوجي، فأخبرته بأنني سأتوسط له لإيجاد عمل مناسب شرط أن يطلقني فوافق على ذلك الشرط، وفعلا فقد بحثت له عن وظيفة واستخدمت علاقاتي ومعارفي في العمل حتى وجدت له الوظيفة التي يريدها، وما أن استلم عمله حتى طلقني وهو غير نادم· تجربة الختام حمدت ربي بعد أن انفصلت عن ذلك الرجل، وتفانيت في عملي حتى ترقيت بسرعة كبيرة وصار عملي الجديد يجعلني في تواصل مع المدير طوال الوقت حتى ازدادت معرفتي به وازددت تعلقا به يوما بعد يوم· شعرت بأنه معجب بي وأنه يحرص على تواجدي معه، وعندما بدأ يلمح بذلك الإعجاب لم أمانع حتى صارحني برغبته بالزواج منّي فكان في ذلك سعادة ما كنت أتصور مقدارها· تزوجنا وأنجبت ولدا، وقد قررت أن أجعله يعتز ببلده ووطنه وأن أعزز لديه روح الانتماء· وقد ساعدني زوجي على تغيير مظهري، ولا أنكر أنني قد وجدت صعوبة بالغة في الاندماج بالمجتمع المحلي من خلال علاقتي بأهله، لأنهم لم يتقبلوني بسهولة بينهم، ولأنهم لم يرضوا لولدهم بالارتباط بزوجة مطلقة· كما أنهم اعتبروني أجنبية لا أمت إليهم بصلة لاختلاف لغتي ومظهري عنهم، إلا أنني فعلت المستحيل كي أكسب ودهم ومحبتهم وقد تحقق لي ما أردت وعشت أنا وابني في دفء العائلة الكبيرة ورعايتها· بعد أن شعرت بالاستقرار في حياتي طلبت من أخي العودة للوطن وعدم التغرب، وقد كنت حريصة على إيصال مشاعري وكل التغييرات التي كانت تحدث معي لأتواصل معه في غربته، فاستجاب لي وعاد ليجدني أنا وزوجي وابني في انتظاره، وقد هيأنا له مكانا للسكن وعملا يناسب مؤهلاته· وقد وقفت إلى جانبه حتى استطاع التكيف مع الحياة هنا، وهي ليست غريبة عليه لأنه قضى معظم أيام طفولته وشبابه هنا· ثم قمت بتزويجه من إحدى الفتيات، بعد أن لاحظت إعجابها به وإعجابه بها، فهي زميلتنا في العمل· وكم فرحت عندما استقر زواجهما وتحقق له النجاح· بعد كل تلك الإنجازات قررنا أنا وأخي مد جسور التواصل مع إخوتنا، وكما توقعنا لم يكن الأمر سهلا، ولكن مع إصرارنا عادت الأمور لمجاريها بيننا وبينهم وتعززت حياتنا بعودتنا لأحضان تلك القبيلة الضخمة التي تركها والدنا·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©