السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هشاشة الديمقراطية

هشاشة الديمقراطية
16 ابريل 2014 20:21
بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، انهارت النّازية وتخلّص العالم من أهوالها، لكنّ سؤالاً عريضاً فرَض نفسه منذ ذلك الحين على الفكر السياسي الغربي، ولا يزال السؤال بلا أجوبة شافية: كيف أمكن للشّعب الألماني، هذا الشعب الذي أنتج عباقرة الأدب والفلسفة والفيزياء والموسيقى وغيرها، أن تسلبه في الأخير خطب زعيم لا يملك من ميزة ولا مزية عدا العويل أثناء إلقاء الخطب الفارغة؟ كيف أمكن لشعب مشمول بمناخ التّنوير أن يمنح صوته في انتخابات حرّة ونزيهة لأعداء الحضارة وأعداء الإنسانية؟ كيف أمكن لشعب متعلم ومتحضر أن يساق كالقطعان خلف زعيم «عُصابي» أشعل النّار في كل شيء ودمّر كل شيء وانتحر في الأخير؟ سعيد ناشيد أزمتها في الأسُس هشاشة الديمقراطية بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، انهارت النّازية وتخلّص العالم من أهوالها، لكنّ سؤالاً عريضاً فرَض نفسه منذ ذلك الحين على الفكر السياسي الغربي، ولا يزال السؤال بلا أجوبة شافية: كيف أمكن للشّعب الألماني، هذا الشعب الذي أنتج عباقرة الأدب والفلسفة والفيزياء والموسيقى وغيرها، أن تسلبه في الأخير خطب زعيم لا يملك من ميزة ولا مزية عدا العويل أثناء إلقاء الخطب الفارغة؟ كيف أمكن لشعب مشمول بمناخ التّنوير أن يمنح صوته في انتخابات حرّة ونزيهة لأعداء الحضارة وأعداء الإنسانية؟ كيف أمكن لشعب متعلم ومتحضر أن يساق كالقطعان خلف زعيم «عُصابي» أشعل النّار في كل شيء ودمّر كل شيء وانتحر في الأخير؟ سعيد ناشيد فوق ذلك، كيف نضمن عدم تكرار المأساة؟ كيف نضمن أن لا يخرج مرّة أخرى وحش الاستبداد الشمولي من مغارة صناديق الاقتراع نفسها؟ هل من ضمانات؟ هل هناك ما يضمن عدم صعود أنظمة استبداد شمولية خلال القرن الواحد والعشرين، إما تحت ذريعة معالجة الأزمة الاقتصادية، أو بدعوى حماية الحضارة الغربية، أو حتى تحت طائلة إيقاف التدهور البيئي؟ بقدر ما يعدّ السؤال غربيّاً فإنه عالميّ أيضاً، يلقي بثقله على كل التجارب الديمقراطية في العالم، في تركيا والهند، في أندونيسيا وجنوب إفريقيا، في كل مكان توجد فيه صناديق الاقتراع. واليوم، لأوّل مرّة يكاد السؤال يصبح سؤالا عربياً أيضاً، وهذا بفعل مخاطر الانتقال الديمقراطي، والتي لا تتعلق فقط بضعف جاهزيتنا للتحول الديمقراطي لكنها تتعلق أيضاً بتلك الهشاشة الأصلية للديمقراطية. والواقع أنّ الديمقراطية لا تزال إلى يومنا هذا تفتقر إلى تصور متكامل لما يجب القيام به قصد تفادي صعود أعداء الديمقراطية إلى سدّة الحكم. ولذلك لا يزال اليمين المتطرف يهدد المجتمعات الأوروبية في أكثر من مناسبة انتخابية. وفي مواجهة قابلية الديمقراطية للانقلاب على نفسها فإن أقصى ما يملك الفكر الديمقراطي اليوم قوله هو كلمة واحدة: المقاومة. وفي كل الأحوال يبقى السؤال، ما الذي يجعل الديمقراطية المعاصرة، رغم قوّتها ورسوخها، لا تزال قابلة للانقلاب على نفسها؟ وكيف يمكن التخفيف من أعراض الهشاشة الأصلية للديمقراطية؟ هناك ثلاثة مستويات لتشخيص هشاشة الديمقراطية: الأول: يتعلق بالنقد الفلسفي، والثاني يتعلق بالاحتياط السياسي، والثالث يتعلق بالتثقيف الشعبي. النقد الفلسفي من حيث النقد الفلسفي، هناك مستوى أول يتعلق بالهشاشة الفكرية والمتمثلة في وجود مفاهيم وتصورات حديثة لا تمثل حصنا منيعا للديمقراطية. ولذلك اقترحت الفلسفة السياسية عدّة مقاربات نقدية. على سبيل المثال، يرى هابرماس بأنّ العقل الأداتي المتمحور حول التقنية والعلم ولغة الأرقام، على حساب التفاعل الحر للذوات الإنسانية، هو العامل الأساس في هشاشة الديمقراطية وإمكانية انقلابها على ذاتها. ولذلك يعتقد أن الأوان قد حان لننقل مركز الثقل من العقل الأداتي المتمحور حول التقدم العلمي وزيادة الثروة وارتفاع معدلات النمو إلى ما يسميه بالعقل التواصلي والمتمحور حول أخلاق الحوار والتوافق والنقاش العمومي. ويرى كارل بوبر أنّ الرّؤية التاريخية المغلقة والقائمة على عقيدة الحتمية ومنطق الضرورة هي الخطر الأكبر الذي كان ولا يزال يهدد مستقبل الديمقراطية. لماذا؟ لأنها تنتج مجتمعات مغلقة لا شيء تطرحه للنقاش طالما كل شيء محسوم سلفا بفعل حتميات علمية أو دينية صارمة. ولذلك تحتاج الديمقراطية إلى أُسس ثقافية جديدة قائمة على ثقافة الإمكان ومنطق الاحتمال. وفي المقابل، ينتقد ليو شتراوس وبنحو جذري مفهوم نسبية القيم والذي بلغ بالنسبة إليه مرحلة العدمية، بحيث بات من الصعب في كثير من الأحيان أن نصدر أحكاما على العنف والجريمة والخرافة بدعوى أن قيم العقلانية ليست مشتركة بين البشر وأن من الواجب مراعاة ذلك أثناء تقييم المواقف، وأن معايير العدالة تختلف باختلاف الثقافات، ومن الواجب احترام ذلك الاختلاف في إصدار الأحكام. وحين حدّد ميشيل فوكو مهمة الفلسفة المعاصرة في الانفلات من قبضة هيجل، فالمقصود هو الانفلات من الحداثة التقليدية والتي لم تعد مؤتمنة على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل إنها لم تكن مؤتمنة على الديمقراطية منذ لحظة البداية، وذلك بسبب ما تمثله سلطة الحقيقة داخل الفلسفة الحديثة، بحيث إنها صارت منبع الاستبداد الذي لا يزال يهدد النظم الحديثة. لكن، وفي كل الأحوال، تظل مرجعية فلسفة نيتشه - لا سيما التأويلات التي خضع لها خلال النصف الثاني من القرن العشرين - بمثابة نقطة تحول كبرى نحو إعادة بناء أسس الديمقراطية على أساس تحرير الإنسان من سلطة الحقيقة. إن نيتشه هو أول فيلسوف في تاريخ البشرية أزاح مفهوم الحقيقة ليضع مكانه مفهوم المعنى. ولا شكّ أن الحقّ في المعنى، بدل الحق في الحقيقة أو بدل واجب الحقيقة، يمثل سنداً قويا بالنسبة للديمقراطية. لماذا؟ أولاً، لأنّ الحقيقة لا تحتمل التعدّد، غير أنّ المعنى يحتمل الكثير من الاختلاف والتنوع والتعدد، ثانيا، لأن الحقيقة يمكن فرضها على الناس باعتبارها واجباً فوقيا، غير أن المعنى لا يمكن أن يُفرض على أي أحد إذ إنه اكتشاف ذاتي، ثالثا، لأنّ الحقيقة تتربّع على عرشها بنحو سابق عن أيّ نشاط ذهني للإنسان أما المعنى فهو ثمرة النشاط التأويلي للإنسان. لكل ذلك كان استبدال مفهوم الحقيقة بمفهوم المعنى بمثابة أكبر انقلاب فلسفي لفائدة إعادة تأسيس الديمقراطية. الاحتياط السياسي من حيث الاحتياط السياسي، هناك مستوى ثان يتعلق بالهشاشة المؤسساتية والتي تتمثل في إمكانية احتكار أغلبية معينة لكل أو لأهم السلط. ولذلك، موازاة مع المجهود النقدي للفكر الفلسفي المعاصر والمتمثل في الانفتاح على مفاهيم الاختلاف والتأويل والاحتمال، هناك عِدة مَحاذير إجرائية تتخذها الديمقراطيات الغربية اليوم لغاية التقليص من احتمال انقلاب الديمقراطية على نفسها، ومن بينها: أولا، الفصل الكامل بين السلط حتى لا تهيمن الأغلبية وباسم المشروعية العددية على كل السلط، فتغلق الباب على تداول السلطة، أو تحصر دائرة التعددية على مجموعة بعينها، كما يحدث في إيران. ثانيا، ترسيم ضمانات دستورية لحقوق الأقلية السياسية، وكذلك لحقوق الأقليات الاجتماعية والثقافية والدينية وغيرها، بما في ذلك حقوق المرأة أيضا. وقد لاحظنا كيف مثلت مكتسبات المرأة التونسية سدّاً منيعا أمام إمكانية صعود الاستبداد الديني في تونس. ثالثا، ضمان الاستقلال الكامل للسلطة القضائية، وحقها في مراقبة السلطتين التشريعية والتنفيذية. وقد لاحظنا كيف استطاعت المحكمة العليا في تركيا أن تلغي قرار أردوغان بمنع منتديات التواصل الاجتماعي. رابعا، ضمان قدر من التباعد الزّمني بين الانتخابات البرلمانية، الرئاسية والجماعية... الخ، وذلك لتفادي مخاطر ما يسمّى بالصدمة الانتخابية، والمتمثلة في اكتساح حزب واحد خلال لحظة جارفة لكل مؤسسات الدولة. التثقيف الشعبي هناك أخيراً هشاشة أخرى تتعلق بسيكولوجية الجمهور، وتتمثل في قابلية الجموع بنحو غريزي للتجييش كالقطعان جراء شعارات شعبوية تجييشية على منوال ما تفعله الحركات الأصولية والعنصرية. إضافة إلى كل ما ذكرناه فقد أدرك الجميع ضرورة بذل مجهود تثقيفي وتنويري لفائدة الشعوب نفسها، حتى لا تبقى هذه الشعوب مضغة سائغة للتيارات الشعبوية، أكانت أصولية أم عنصرية. ذلك أن حماية الديمقراطية من مخاطر الانقلاب عليها يستدعي تنمية دائمة للحس النقدي وللتفكير الإيجابي وللعيش المشترك. وبالفعل، فقد انبرى كثير الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين لهذه المهمة الشاقة والنبيلة. وهو ما يتمّ بنحو شبه يومي عبر الجامعات الشعبية، والمقاهي الأدبية والفكرية، والندوات الإعلامية، والورشات الفلسفية في المقاولات والمصانع والمدارس، والدورات التكوينية الهادفة إلى تنمية القدرات الفردية، ونحو ذلك. هكذا يبدو أن معالجة الهشاشة الأصلية للديمقراطية ليست بالعمل الهيّن، لكنها رهان ضروري لأجل حماية الديمقراطية وتحصينها. وهذا الرهان هو الغائب الأكبر عن الديمقراطيات العربية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©