الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دهاء الكاميرا أو مَكرها

دهاء الكاميرا أو مَكرها
2 مايو 2018 19:41
يقول الفيلسوف سبينوزا في كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة»: «لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يمكن السيطرة على الألسنة، لما وجَدَت أية حكومة نفسها في خطر، ولما احتاجت أية سلطة لاستعمال العنف، ولعاش كل فرد وفقاً لهوى الحُكام... ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو.. لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر؛ إذ لا يمكن أن يخول أحد بإرادته أو رغماً عنه إلى أي إنسان حقه الطبيعي أو قدرته على التفكير وعلى الحكم الحر في كل شيء. وعلى ذلك، فإن سلطة تدعي أنها تسيطر على الأذهان إنما توصف بالعنف، كما تبدو السيادة الحاكمة ظالمة لرعاياها ومغتصبة لحقوقهم عندما تريد أن تفرض على كل واحد منهم ما يتعين عليه قبوله على أنه حق، وما يتعين عليه رفضه على أنه باطل». ويضيف سبينوزا: «وعلى ذلك، فإذا لم يكن من الممكن أن يتخلى أحد عن حريته في الرأي وفي التفكير كما يشاء، وإذا كان كل فرد شيد تفكيره بناء على حق طبيعي أسمى؛ فإن أية محاولة لإرغام أناس ذوي آراء مختلفة، بل ومتعارضة، على ألا يقولوا إلا ما تقرره السلطة العليا تؤدي إلى أوخم العواقب» (1). لا شك في أن نصّاً بهذه الكثافة الفكرية لا يزال يطرح علينا أكثر من سؤال، اليوم، حول حالة حرية التفكير والإبداع، وأدوار مختلف السلط في ممارسة أو الميل إلى ممارسة الوصاية على الألسن والأذهان، باعتبار أن الحجْر على الأفكار والصور، كان ولا يزال، من أعقد الإجراءات التي يمكن لسلطة ما اتخاذها. والحال أن الخطابات التي تدعو إلى الحرية لا حصر لها، وقد تُثَبت في المقتضيات الدستورية للبلدان؛ بل إن كل الأنظمة، حتى أكثرها تسلّطية، تدّعي حمايتها وتمثيل قيمها؛ في الوقت الذي نفاجأ فيه، باستمرار، بإجراءات وقرارات تنتهك مبدأ الحرية وتدوس عليه، بمصادرة الأعمال الفنية والإبداعية. نجد أكثر الدساتير تؤكد «حرية التفكير والتعبير»، وقد يكون ذلك استجابة لمواثيق دولية، غير أن السلط تقيد الحرية وتصادرها باسم قوانين خصوصية وتحت ذرائع وتبريرات متنوعة؛ تارة باسم حماية الدين والأخلاق، أو بمحاصرة خطر المس بالحياء العام، وتارة أخرى بدعوى ضغط التيارات المحافظة في مجتمعاتنا. كما أن المبدع قد يضطر، أمام مختلف تمظهرات المراقبة والوصاية، إلى ممارسة رقابة ذاتية على أفكاره وصوره لكي لا يعرضها للمنع أو التضييق، أو التشويش على مآلها التواصلي. وهكذا تحضر الرقابة في عوالم الإبداع بطرق متنوعة، وتفرض الوصاية على حرية التعبير بشتى الذرائع والمستندات. غير أنه من مفارقات الرقابة أنه غالبا ما تحصّل على ما يخالف هدفها؛ ذلك أنها كلما قررت ممارسة فعل حجز العمل الإبداعي ومنعه من النشر أو التوزيع، كلما كان ذلك سببا في شهرته ودفع الناس إلى البحث عنه، بفضل ما توفره الوسائل الرقمية، حتى ولو كان غير ذي قيمة مضمونية أو جمالية. قلق الإبداع في السينما إذا كان الفيلم تفكيراً إبداعياً بالصورة وكتابة خصوصية، فإن معناه يتحدد بطبيعة استقبال المتفرج لهذا الفيلم وبالسياق الثقافي الذي يشتغل فيه وعيه وتصاغ فيه أحكامه. يعمل الخطاب السينمائي، ككل خطاب آخر، على الجمع في نسيجه السردي وصوره بين ما يقال وما لا يقال، بين المعطى والمبنَى، بين ما يتم توصيله وما يتخذ وجهة أخرى في عملية التواصل. لاشك في أن فعل الكتابة، في الغالب الأعم، هو فعل فردي وشخصي يعبر عن تفجرات جسد الكاتب. كما ينصهر فعل الكتابة، في كل الحالات، في سياق تاريخي تحكمه سوق ثقافية، لها معاييرها ومنطق تبادلها وأسلوب استقبال رموزها في حالة الاعتراف بها، أو في شكل التبرم منها في حالة إقصائها. ومن المعلوم أن الكتابة الروائية أو الشعرية أو غيرها، بالرغم من كونها عملاً فردياً، فإنها تتحدد اجتماعياً وتاريخياً طالما أن لها أبعاداً تواصلية تستدعي الآخر وتفترض القراءة والتلقّي. أما الرواية السينمائية فلها منطق مختلف، لأن العملية التي تتبلور فيها الكتابة تخضع لصيرورة قد تكون الذات الكاتبة فيها حاسمة في التحكم في توجّهات الفيلم، كما يمكن أن تذوب في تجاذبات واعتبارات متنوعة المصادر، لتتحول إلى هامش منفعل تغلب عليه الجماعة السينمائية، ابتداء من تحرير السيناريو، مرورا بالبحث عن مصادر التمويل، وإكراهات الترخيص، إلى التصوير والمونتاج والتوزيع، إلى لحظة قلق التلقّي. وقد توزع المهتمون بالمجال السينمائي إلى قائل بأن الفيلم نتاج وخلاصة مجهود فكري وتخيلي وإبداعي لشخص واحد، مثل ما يجري على ما يسمى بـ «سينما المؤلف»، وهناك من يرى بأن المخرج هو عنصر أساسي في العملية السينمائية ولا شك، ولكنه يتحرك داخل عمل جماعي يسهم كل واحد فيه بإبداعيته الخاصة... ومهما يكن، فإن العملية السينمائية هي بالفعل نتيجة عمل جماعي، ولكنه موجه من طرف فكر وحساسية ومهارة وإبداعية المخرج. فكتابة السيناريو باعتبارها مشروع الفيلم يعاد صياغتها وتتم ترجمتها بواسطة أجساد الممثلين والإنارة والحوار والموسيقى والحركة والتوليف لتتحول إلى صور وأصوات لها نسيجها السردي وتخيلها وشخوصها ودلالتها وإيقاعها وزمنها. لذلك تستدعي العملية السينمائية تأليفاً وتوليفاً يختلف في أسلوب حكيه عن الأساليب الروائية أو الشفوية. فالسينما لغة ولكن ليس بمعنى أن لها تركيبها وصرفها ونحوها فحسب، بل بمعنى أنها نسق من الرموز يستدعي معرفة خصوصية بمقوماته لإنجاز كتابة ذات أشكال ومضامين خصوصية أيضا، كما يقول «إيتالو كالفينو» في كتابه «الآلة الأدبية». الأسلوب هو الفيصل كل شيء في الأسلوب، مهما كان حقل الكتابة وسياق التدخل الرمزي. ويبرز اختلاف الكتابة في اختلاف أساليبها. وتتميز العملية السينمائية بنمط حكيها وسردها وإيقاعها وشكل تأطيرها للأجساد والعالم. وفي سياق إرادات القوة التي تنزع إلى ممارسة الوصاية على الفعل الإبداعي، تمكّن المخرج الإيراني «عباس كيروستامي»، على سبيل التمثيل لا الحصر، من بناء حكايات وصور جريئة وعميقة باعتماد كتابة مجازية وحوار شعري، بالرغم من كل أشكال الرقابة التي تمارس في بلده. وما حصل معه في فيلم «مذاق الكرز» معبّر للغاية؛ لقد قامت الرقابة بممارسة ضغوط على صاحب الفيلم حيث تدخّلت حتى في تغيير موسيقى «لويس أرمسترونغ»، التي كان كيروستامي قد أدخلها في بناء الفيلم، وفرضت عليه موسيقى إيرانية بدعوى أن الرجل مرتهن لتأثير «الثقافة الغربية»، غير أن دهاء كيروستامي لم يجعله يتنازل عن الجوهر المضموني والجمالي للفيلم، الذي حصل بفضله على السعفة الذهبية بمهرجان «كان» سنة 1997. أما حالة «أندريه تاركوفسكي» مع الرقابة فتستحق تعليقا تحليليا خاصّا نظرا لدلالاتها وتمثيلها لشراسة الصراع بين الإبداع والسلطة. تستطيع الرواية السينمائية تكثيف ما هو حضاري واجتماعي وسياسي ولا شعوري، كما تقوم بترجمة كثير من المعطيات التي فيها ومنها يستمد الفاعل السينمائي قدرته على فعل الكتابة. فتأويل العالم ليس هو العالم، وصورة الواقع ليست هي الواقع. قد تكون السينما «واقعية» أو تخلق «شعورًا بالواقع» لدى المشاهد، ولكنها لا تقدم الواقع كما هو؛ و»واقعيتها» لا تستمدها من الواقع، بالضرورة، ولكن من ذاتها باعتبارها نتيجة عملية إعادة تشكيل خصوصية للواقع. وهو ما ينطبق، أيضا، على أي حديث مبدئي عن الحرية أو الحق والحقوق حين يتعلّق الأمر بالتفاوتات التي تعتمل داخلها بين ما هو معياري وما هو واقعي معيش. ولعل كافة المواضيع التي تعالجها السينما تهم شريحة ما من الناس، سواء تناول مخرج الفيلم حالة حب، أو ظاهرة اجتماعية، أو موضوعًا سياسيا، أو قصة مُسلية - على أن تتوافر على الشروط الإبداعية للعمل -. كل القضايا تهمُّ، بالضرورة، فئة ما في المجتمع. وانطلاقًا من الفهم المبدئي لمسألة الحرية والحق، باعتبار أن للإنسان «الحق في أن تكون له حقوق»، كما قالت «هانا آراندت»، في العدالة والحرية والكرامة والحب والتسلية، وحتى الترفيه، فإن المبدع السينمائي يقوم بصياغة صور جديدة بحرية بواسطة الوسائل التي يمتلك ناصية استعمالها؛ إذ ليست السينما فنًّا يتحرك داخل ثقافة فحسب، وإنما هي حقل لاكتساب المعرفة، وتحرير خيال ووجدان للإنسان، وفتح آفاق جديدة لصقل وإغناء حساسيته الجمالية، وتشغيل مخزونات ذاكرته ولاوعيه، وإذكاء قدرته التخييلية، والتفاعل مع ما هو إنساني في جميع الحالات. ولأن السينما ظاهرة إبداعية مركبة فإنها، أيضا، «فن ديمقراطي»، كما قال فيتوريو دي سيكا، وكان يردد ذلك دائما المرحوم صلاح أبو سيف. تبقى السينما، في نظري، هي الفن الأقدر على تكثيف وتقديم حالات وقضايا إنسانية، وعلى التعريف بمختلف أشكال التعبير الأخرى؛ كما أن المتلقّي، اليوم وكيف وأين ما كان، أصبح سيد اختياراته للصور. كل أنماط الصور. ويملك أحد أهم الدعامات وأكثرها تطلّبا في الإنتاج والتوزيع المتمثلة في السينما. فجهاز «ديفيدي» زعزع عادات المشاهدة كافة، والقنوات المتخصصة فتحت آفاقاً لا حدود لها في الاختيار والبرمجة الشخصية؛ وبفضل ذلك يمكن للمرء تخطّي الحدود، والتزوّد بمصادر ثقافية أخرى، واكتشاف أنماط تخيّل مختلفة. ومهما يكن فإن الحديث عن الحرية في السينما كقضية، أو عن السينما كحقل إبداعي لترجمة قضايا إنسانية، لا يمكن اختزاله في اعتبارات قانونية وسياسية وثقافية أو أخلاقية فحسب، وإن كان الإنسان، كيفما كان، لا يحوز صفة الإنسانية إلا بفضل الثقافة والأخلاق، وبواسطة القانون أيضًا. فالخطاب الأخلاقي بقدر ما هو متخيل أو معياري فهو ضروري، مهما كانت ضغوط السياسة ومكر التاريخ. وشتان بين الأخلاق والتوحش والتطرف. ولكن من يمكنه الاستغناء عن القيم، ومنها الحرية والإبداع؟ فالإنسان من دون الحرية لا قيمة له، لأن الأخلاق هي تخيل كبير تعمل إرادة ما على ترجمته إلى فعل الخير أو إلى تعبير جمالي. وكما يقول «أندري كونت سبونفيل»، أن الأمر يتعلق في الإبداع، كما هو الشأن بالنسبة للعنف والسياسة، بإبداع قيمة لم تكن موجودة (2). لذلك فالحرية كما الفضيلة أقرب إلى كونهما عملاً وجهدًا وإبداعًا أكثر من أي شيء آخر. السيطرة على الأذهان سبينوزا في كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة»: لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يمكن السيطرة على الألسنة، لما وجَدَت أية حكومة نفسها في خطر، ولما احتاجت أية سلطة لاستعمال العنف، ولعاش كل فرد وفقًا لهوى الحُكام... ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو.. لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر، إذ لا يمكن أن يخول أحد بإرادته، أو رغماً عنه إلى أي إنسان حقه الطبيعي أو قدرته على التفكير وعلى الحكم الحر في كل شيء. وعلى ذلك فإن سلطة تدعي أنها تسيطر على الأذهان إنما توصف بالعنف، كما تبدو السيادة الحاكمة ظالمة لرعاياها ومغتصبة لحقوقهم عندما تريد أن تفرض على كل واحد منهم ما يتعين عليه قبوله على أنه حق، وما يتعين عليه رفضه على أنه باطل. كياروستامي.. مذاق الحرية في «مذاق الكرز» في سياق إرادات القوة التي تنزع إلى ممارسة الوصاية على الفعل الإبداعي، تمكّن المخرج الإيراني «عباس كيروستامي»، من بناء حكايات وصور جريئة وعميقة باعتماد كتابة مجازية وحوار شعري، بالرغم من كل أشكال الرقابة التي تمارس في بلده. وما حصل معه في فيلم «مذاق الكرز» معبّر للغاية، لقد قامت الرقابة بممارسة ضغوط على صاحب الفيلم، غير أن دهاء كيروستامي لم يجعله يتنازل عن الجوهر المضموني والجمالي للفيلم، الذي حصل بفضله على السعفة الذهبية بمهرجان «كان» سنة 1997. هوامش: 1-سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، مكتبة النافذة، الطبعة الثالثة 2005، ص:444 ـ 452. 2- André Conte-Sponville ; Traité du désespoir et de la béatitude, Ed PUF, Paris ,1984. P 503
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©