الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سفينة الحياة

5 ابريل 2012
في تلك الليلة الباردة لم أستطع النوم، فخرجت أتمشى في الطرقات لعل الهواء البارد يداعب عيني ويجلب النوم معه. فور خروجي من المنزل شعرت بالبرد القارص وارتجفت أطرافي ولكن ذلك لم يردعني من متابعة ما عزمت عليه. بدأت أتمشى وأنا اتأمل في السماء المحملة بالغيوم التي تنذر بهطول أمطار غزيرة. فجأة لمحت ظلا يتحرك بين الأشجار. لا أخفي عليكم شعرت ببعض الخوف ولكنني أصررت على معرفة ما كان ذلك الظل. مشيت الى المكان الذي اختفى فيه الظل الصغير ويا ليتني لم أذهب.. ارتجف كل جسمي.. تزلزل قلبي حتى شعرت أنه خرج من مكانه.. ما حدث لي لم يكن بسبب البرد القارص حولي.. بل كان بسبب ما رأيت.. لقد رأيت ما لم أحسب أنني قد أراه يوما.. رأيت شيئا صغيرا متقوقعا على نفسه. كان كالصدفة التي تحيط باللؤلؤة تريد أن تحميها مما حولها فكان هذا الشيء هو الصدفة واللؤلؤة في آن واحد.. كان يحمي نفسه.. اقتربت منه أكثر فأكثر.. كم كان جسده الصغير يرتجف.. كانت أسنانه تصطك. خيل الي أنني أسمع ضربات قلبه. سمعت صوت أنينه. رأيت دموعه الساخنة تتساقط. أعتقد أنها كانت أدفأ مافي جسده. تلفت أنظر الى جسدي. هل كنت أقول منذ قليل أنني أشعر بالبرد؟ اذا كنت بمعطفي الصوفي هذا أشعر بالبرد؟ فماذا يقول هذا الطفل الصغير؟ بملابسه الرثة وضلوعه الهشة؟ بعد كل ما ملأت به بطني، ودفأت به جسدي أقول أنني اشعر بالبرد؟ بماذا يشعر وهو لم يذق طعما للأكل؟ أستطيع القول منذ عصور... كيف علمت؟ عظامه البارزة أخبرتني.. عيونه الغائرة أطلعتني.. معدته الجائعة بأصواتها بلغتني.. في تلك اللحظة توقف عقلي عن التفكير، فكأنما ذلك الهواء البارد قد جمده تماما.. الى اليوم أنا لا أدري كيف ولماذا تركت قدماي تركضان مع الريح.. أنا لم أنظر خلفي حتى.. ليس لأنني قاسية.. بل كنت بركضي هذا أتمنى مع كل خطوة أن أستيقظ وأفتح عينيّ على يوم مشمس صحو.. كنت أتمنى لو كان كل ذلك مجرد حلم عابر.. ما رأيته بعيني بل ما رأيته في ذلك اليوم، ملأني بالتساؤلات وعلامات الاستفهام. صحيح إنني تركت قدماي للريح ولكن عقلي.. قلبي، فكري، ومشاعري كلها كانت بل ومازالت عند ذلك الطفل الصغير. الطفل الذي ألقت به سفينة الحياة في بحر الوحشة والظلم لأنه وبالرغم من صغر سنه قد أثقل عليها وكاد يتسبب بغرقها. سفينة الحياة بكل ما عليها من هموم وبشر وحوش أثقل عليها طفل صغير! كم من أناس تتوافر بين أيدهم كل ملذات الحياة ولا تكفيههم! لماذا يوجد من يأكل ما لذ وطاب ولا يشبع، ويوجد من لا يأكل الا في أحلامه ولا يجوع! لماذا يوجد من لديه أم يختبئ في حضنها من مآسي الحياة ولكنه يعقها، ويوجد من لا أم له ويبرها؟ لما يصرخ أناس بصوت عال من السعادة ويصرخ آخرون بصمت من شدة الألم؟ لماذا يوجد أمثال هذا الطفل يفترشون الرصيف سريرا، يلتحفون السماء والنجوم غطاء ودموعهم الساخنة هي سبيلهم الوحيد إلى الدفء، ويوجد أطفال يفترشون الذهب والألماس فراشا والصوف غطاء؟ ننادي ونصرخ بأعلى أصواتنا مساندة لحقوق الطفل الذي ضرب في المدرسة ولا ننادي أو حتى نتحدث في حقوق ذلك الطفل الذي نطلق عليه بأفواهننا المتعجرفة “متشردا”؟ طفل صغير علمني بثانية واحدة ما لم يعلمني ملايين البشر ممن قابلت في ستة عشر عاما كاملة!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©