الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تركيا والغرب.. محاربة «داعش» لا تعني التضحية بالديمقراطية

24 يوليو 2016 22:13
عندما فوجئ السياسيون الأميركيون بمحاولة الانقلاب التي هزّت تركيا نهاية الأسبوع الماضي، سارعوا للتعبير عن رفضهم للأساليب غير الديمقراطية التي تبناها الانقلابيون. وعندما سئل جون كيري في ساعة متأخرة من ليلة الجمعة الماضي عن محاولة الانقلاب لحظة انكشاف أمرها، أعرب من خلال تصريح غامض عن دعمه «للاستقرار والهدوء والاستمرارية» في تركيا. وبعد ذلك بقليل، وقبل أن يتضح الموقف ويتم التعرف على المنتصر في هذه المحاولة، أصدر أوباما بياناً واضح اللهجة ناشد من خلاله كل الأطراف بدعم «الحكومة المنتخبة بطريقة شرعية في تركيا». وعندما اتضح فشل الانقلاب يوم الاثنين، ذهب جون كيري إلى ما هو أبعد مما ورد في تصريحه السابق حين حذّر الرئيس أردوغان من أن الحملة التي يشنّها ضد الانقلابيين قد تشكل بحد ذاتها خطراً على النهج الديمقراطي الذي تلتزم به تركيا. ولفت انتباه نظيره التركي إلى أن «حلف الناتو يشدد على ضرورة احترام الديمقراطية». ويمكن القول إن رد فعل أوباما كان حازماً ومتقناً، فيما كانت ملاحظات كيري حول موقف الناتو أكثر قوة مما توقعه معظم المراقبين. إلا أن من المحتمل أن تكون ردود الفعل الأميركية المقبلة أكثر ميلاً للقسوة مما ورد في التصريحات السابقة. ولو ألقينا نظرة على علاقة الولايات المتحدة بتركيا خلال نصف القرن الماضي، فسوف يتضح لنا بأن الديمقراطية بحد ذاتها لم تكن تشكل شرطاً لازماً لعضوية الناتو. وكائنا ما كان الكلام الذي قاله أوباما ليلة الجمعة، فإن التاريخ يخبرنا بأن واشنطن كانت تعثر في كل مرة على الطريقة المناسبة للتعامل مع المنتصر الذي سيظهر في أنقرة. ولكن، ومع بقاء أردوغان (المنتقم) في السلطة، فإن حلول فترة مضطربة في العلاقات الأميركية- التركية أصبح أمراً مؤكداً. إلا أن التاريخ يقدم للرئيس التركي القليل من دواعي التخوّف من أن تتخذ واشنطن موقفاً حاسماً من مسألة السلوك الديمقراطي طالما أن المصالح الأميركية في المنطقة كانت ولا تزال تعتمد على تعاون تركيا معها. تحالف قديم وتعود بداية التحالف الأميركي مع تركيا إلى الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، عندما شرعت واشنطن بزيادة القوة العسكرية لتركيا ودعمتها اقتصادياً بحيث تصبح خطاً دفاعياً متقدماً ضد الغزو السوفييتي. وفي ذلك الوقت، لم تكن تركيا دولة ديمقراطية، ولكنّ رجالات السياسة في أميركا ما كانوا قلقين كثيراً من هذه الحقيقة طالما بقي الرئيس التركي «رجلاً قوياً ومن النوع الأكثر انحرافاً نحو اليمين». وخلال حوار دار عام 1948، سأل سياسي أميركي رفيع المستوى رئيس دائرة الأمن الوطني التركية عما إذا كان يعتقد بأن السلوك غير الديمقراطي لتركيا يمكنه أن يؤثر على مواصلة الدعم الذي تتلقاه من الولايات المتحدة، كان ردّ المسؤول التركي قد أُدرج في تقرير خاص تم إرساله إلى واشنطن جاء فيه: «وضحك وقال إنه ما دامت المساعدة تأتي، فإن في وسع الولايات المتحدة أن تبقى على يقين من أن تركيا دولة ديمقراطية». وأجرت تركيا أول انتخابات ديمقراطية عام 1950. وأعقبت هذه الخطوة سلسلة من الانقلابات فاجأت المسؤولين الأميركيين كانت تتساقط خلالها الحكومات بطريقة سلمية. ونتيجة لذلك، انضمت تركيا لحلف «الناتو» عام 1952 في فترة بدا فيها مستقبلها الديمقراطي واعداً. وحظيت هذه الخطوة بمباركة واشنطن. إلا أن الأمور سرعان ما تطورت نحو الأسوأ مع الحكومة التركية الجديدة. ومع حلول أواسط الخمسينيات، عبرت صحيفة «نيويورك تايمز» عن امتعاضها من تواتر الأخبار حول التقييد المتزايد للحريات الصحفية في تركيا. وقال دبلوماسيون أميركيون إن تركيا «بعيدة جداً عن أن تمثل ديمقراطية فعلية وفقاً لمفهومنا الخاص لهذا المصطلح». ولكن، وحتى عندما تزايدت الممارسات الاستبدادية في تركيا في عقد الخمسينيات بأكثر مما شهدته من قبل، حرصت الحكومة التركية على التمسك بعدائها للشيوعية وتأييدها للولايات المتحدة. ويبدو أن هذا الموقف كان كافياً بالنسبة لواشنطن لاختلاق الأعذار لأخطائها. وبات حقها في الاحتفاظ بعضوية الناتو «أمراً» لا جدال فيه. وبناء على هذا الوضع الذي آلت إليه الأمور، كان الجنرالات الأتراك الذين قاموا بأول انقلاب عام 1960، يساورهم القلق من أن يواجهوا المعارضة من الولايات المتحدة فيما يتعلق بتوجهاتهم السياسية. ومن خلال محاولتهم لاستباق المشاكل التي يمكن أن تحدث، سارعوا من خلال أول بيان أدلوا به عشيّة استئثارهم بالسلطة، إلى تأكيد التزامهم التام بالتحالف مع «الناتو» وعندما التقى السفير الأميركي قائد الجيش التركي عقب الانقلاب مباشرة، ناشده بأن يطمس بالسرعة الممكنة كل الآثار الدالّة على الانقلاب، والتي وصفها بأنها لم يشهد مثيلاً لها. وبعد هذا الذي حدث، لم يبقَ أمام القادة العسكريين الأتراك الذين قاموا بالانقلاب إلا القليل مما يخشونه من الغضب الأميركي. وكان الانقلاب العسكري الثاني عام 1971 أقل عنفاً، وحمل من الشعارات المضادة للشيوعية ما جعل الولايات المتحدة أقل ميلاً لمعارضته. ثم جاء الانقلاب التالي عام 1980الذي لقي ترحيباً واسعاً في أوساط الشعب التركي، وبما يفسر توجّه واشنطن نحو تفهّم دواعيه وتأييده. ولقد جاء هذا الانقلاب على خلفية استقطاب سياسي متفاقم، ما أدى إلى شلل سياسي تام وتصاعد وتيرة المعارك التي كانت تدور في الشوارع بين الجماعات المنتمية إلى الجناحين اليميني واليساري. مفارقة عجيبة وتأتي المفارقة المثيرة للسخرية في تأكيد كيري على أن عضوية الناتو تتطلب الالتزام بالديمقراطية، من أن الجانب التركي يرى بأن استمرار عضويته في الناتو يتطلب من واشنطن بأن تضع شرط الديمقراطية جانباً. وطالما أن أنقرة ما زالت عضواً ملتزماً في الناتو في هذا الجزء الحيوي من العالم، فإن هذا يكفيها كدليل على وفائها بأحد أهم الالتزامات المترتبة عليها إزائه. ويكون من الضروري الانتباه إلى أن التاريخ ليس قضاء وقدراً، وما زال هناك الكثير من الأمل في أن تتخذ حكومة الولايات المتحدة موقفاً أكثر تشدداً للدفاع عن الديمقراطية التركية في المستقبل. ولقد كان تصريح كيري حول الديمقراطية والناتو مشجعاً بكل تأكيد على الرغم من الشكوك التاريخية التي تعتريه. ولقد انتهى الاتحاد السوفييتي بالطبع، إلا أن الولايات المتحدة ما زالت تعتمد على تركيا وقاعدة أنجرليك التي تقع على أرضها في حربها ضد تنظيم «داعش» الإرهابي. وهذا ما يجعل من الصعب على الولايات المتحدة انتقاد السلوك غير الديمقراطي لأردوغان قبل محاولة الانقلاب وبعد فشلها، طالما بقي تهديد «داعش» قائماً. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما الذي يتحتم على واشنطن فعله لو أن أردوغان واصل سياسة القبضة الحديدية في التعامل مع خصومه ومعارضيه الحقيقيين والافتراضيين، وهو الأمر الذي يتوقعه معظم المراقبين؟. تكمن الخطوة الأولى بالاقتناع بأن أي مكاسب يمكن تحقيقها في الحرب ضد «داعش» سوف تكون ظرفية وقصيرة المدى أو تكتيكية في أفضل الأحوال، إذا أتت على حساب الاستقرار بعيد المدى لتركيا. ومن خلال سلسلة التفجيرات التي تبناها تنظيم «داعش» في السنوات القليلة الماضية، كان يهدف إلى زعزعة استقرار تركيا لاعتقاده بأن ذلك سوف يحقق له حرية العمل والتخريب بشكل أوسع في المنطقة. وكلما عزّز أردوغان من انتهاج سياسته العدائية ضد خصومه، زاد المجتمع التركي تجزّؤاً وانقساماً، وكلما تعززت فرص تنظيم «داعش» للتغلغل واكتساب المزيد من الملاذات الآمنة. ويمكن التأكيد الآن على أن توتر العلاقات بين البلدين مرشح للتصعيد خلال الأشهر القليلة المقبلة، وخاصة إزاء طلب أنقرة من الولايات المتحدة تسليمها «فتح الله غولن» المقيم في بنسلفانيا، والذي تعتبره العقل المدبر للانقلاب، إلا أن تركيا ستبقى، ويجب أن تبقى، عضواً في الناتو. ولقد لعب هذا التحالف دوراً مهماً في الحفاظ على الاستقرار العالمي، ولا يزال يلعب هذا الدور. ويكون من الضروري الانتباه إلى أن ذلك يتطلب غض الطرف أحياناً عن ممارسات الحكومات غير الديمقراطية أو التي تخالف روحية الرسالة التي قامت عليها مبادئ الحلف. * كاتب أميركي متخصص بتاريخ وسياسات الشرق الأوسط ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©