الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

لماذا تركت الشعر وحيدا !!

لماذا تركت الشعر وحيدا !!
12 أغسطس 2008 00:58
حين عرفت أن الموت باغت محمود درويش على ''سرير الغريبة''، ولم ينتظره '' عند باب البحر في مقهى الرومانسيين''، ولم يكن ''فارسا شهما''، لم أفكر بأحد سوى بأمه، التي طالما حن إلى خبزها وقهوتها ولمستها، تلك التي كانت تغني له في الأعراس، وتفخر بأهميته وعدد محبيه، تلك الشاعرة التسعينية التي أرضعت حبيبها الشعر، تلك التي حين سألها أحد الصحفيين: من أين تأتين بكل هذا الشعر؟ أجابت: (من حليب أمي)، تلك التي عشق عمره وحياته كي لا تذرف دمعة واحدة عليه، '' لأني إذا مت أخجل من دمع أمي''، لكن الموت لم يكن واضحا وودودا معه، كما ناشده في جداريته، فأسكت قلبه وهو يسكن البياض اللانهائي، كأنه يقول له: لم يعد على هذه الأرض ما يستحق الحياة·· منذ سنوات ومحمود يهجس بالرحيل، ليس كأي شاعر باحث عن الخلود في مسالك وعرة ومضطربة، لأن لدى محمود، إجابات واضحة في قصائده بشأن المسائل الكبرى، والتي رغم وضوحها، لم يستطع اقتناص أي رائحة للموت، أو رسم أي هيئة له، لأنه ''يأخذ الناس إلى اللازمان واللامكان''، فهو إذن كائن ليس له رصيد في الذاكرة، وليس له ملامح ولا وزن، ومدينة الموتى التي تخيلها محمود درويش، ليست ما اقترحها، ولا تشبه أسئلته وتساؤلاته، فظل يلامس عدميتها حتى ارتبك المعنى على ساحل الفراق· حين أقامت بلدية رام الله تكريما له قبل فترة قصيرة، قال درويش بعد كلمة التكريم والترحيب: '' ليس من الضروري أن أكون في هذا الحفل، لأن الموتى لا يحضرون حفل تأبينهم، وما استمعت إليه اليوم هو أفضل تأبين أود أن أسمعه فيما بعد''· فهل يسمع درويش الآن كل هذا التأبين، وهل يتحسس خشونة الدمع في مآقي اللغة، وهل يقرأ اليتم على كل الأوراق البيضاء التي لم يمارس عليها طفولته في كل صباح··! محمود درويش أنهى حيرته نحو الموت بخبرة لا يعرفها، بتجربة يراقبها الآخرون، وخاصة المبدعين، بحيرة أكثر، وربما يتساءلون: ما نفع هذا النزيف وإدمان القلق؟ لكن إجاباتهم تظهر سريعة في نزيف آخر، وفي خبرة يعرفونها· لقد استكمل محمود كل (إجراءات) الرحيل، وطلب من الناس: ( لا تَضَعُوا على قبري البنفسجَ ، فَهْوَ زَهْرُ المُحْبَطين يُذَكِّرُ الموتى بموت الحُبِّ قبل أَوانِهِ · ضَعُوا على التابوتِ سَبْعَ سنابلٍ خضراءَ إنْ وُجِدَتْ ، وبَعْضَ شقائقِ النُعْمانِ إنْ وُجِدَتْ ··) هذا هو محمود درويش، الشاعر الأنيق المحتفل بالحياة حتى في لحظات الرحيل، وأمه تسرد حادثة حين حضرت شرطة العدو الصهيوني لاعتقاله في وقت بكر من إحدى الصباحات، فقال لهم: (لا استطيع قبل أن أشرب القهوة وأستحم··) وكان له ذلك·· محمود درويش، لقد سألت أباك: لماذا تركت الحصان وحيدا، ونحن نسألك: لماذا تركت الشعر وحيدا·· akhattib@yahoo.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©