الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أفراح حزينة

أفراح حزينة
17 ابريل 2014 21:25
كنت أصغر أخواتي وإخوتي الأربعة، صاحبة حظوة عند أبي، وأشعر بأنه يحبني، وإن كان لا يكره إخوتي، أتذكر أنني كنت أرتمي في أحضانه، عندما يستيقظ من نومه في الصباح، وانتظره حتى ينتهي من استبدال ملابسه أنظف له حذاءه، واختار له جوربا في الغالب لا يكون ملائما لملابسه، وعندما أصر على اختياري يتنازل، ويختار ملابس أخرى مناسبة للجوارب، أهرول إلى منضدة الطعام اتخذ مقعدا بجواره، أقلده في طريقة تناوله للطعام، افعل مثله تماما، كلما تناول خبزا، أو جبنا أو بيضا فعلت كما يفعل، لا أستطيع أن أسايره فأطالبه بالتمهل والتوقف عن الطعام حتى لا يفوتني شيء ما يتناوله، قد يتعجل وينهض كي يتوجه إلى عمله، فأعلن غضبي، لكن في كل الأحوال، أقف عند باب الشقة انتظره بعدما ينتهي من مراجعة ملابسه، وتمشيط شعره، والتأكد من أناقته التي كان يحرص عليها بشدة. مدللة العائلة آخر شيء يفعله قبل خروجه مباشرة هو طبع عدة قبلات على وجهي ورأسي، وأنا متعلقة في رقبته، لا أريد أن ينهي هذا المشهد، حتى يضعني برفق على الأرض، لا يفوتني أن أصدر أوامري له بألا يتأخر، وكذلك أن يحضر ما طلبته منه في المساء، وهو في الغالب بعض الشوكولاتة وحلوى الأطفال التي يعرف أنني احبها، أتابعه، وهو يضع قدمه في المصعد ويغلق الباب، أعود إلى النافذة لألوح له بيدي، وهو يستقل سيارته، وينطلق ولا ادخل حتى يغيب عن ناظري تماما. وفي الظهيرة يجدني خلف الباب، إما أن اختبئ منه لأفاجئه صارخة في وجهه كي أخيفه، أو عندما يحاول أن يدخل مفتاحه في الباب يجده يفتح فجأة، وأنا أمامه أعيد مشهد العناق الصباحي، أعاتبه بشدة على تأخره حتى لو لم يتأخر، يطلب مني كوب ماء بارد، وقد اعتدت ذلك فيما بعد، آتيه بالماء قبل أن يطلبه، يبتسم ابتسامة رقيقة تعني الثناء على تصرفي لأنني فهمت احتياجاته، أحمل حذاءه وملابسه أضع كلا منها في مكانه، تكون أمي في هذا الوقت قد قاربت على الانتهاء من إعداد طعام الغداء، لا يجرؤ أحد من إخوتي على أن يجلس في المقعد الذي بين أبي وأمي حتى أمي نفسها يجب أن تفسح لي هذا المكان، في حال اختلاف أدوات المائدة، امسك بملعقتين وسكينين وشوكتين كلها متشابهة، أعطيه واحدة من كل منها، لكي اكون مثله، يضحك إخوتي وأمي مما أفعل، وقد يتندرون عليه وينتقدونه في محاولة لإثنائي عن تصرفاتي هذه، لكنهم لم يستطيعوا، واستمرت كما هي لسنوات طوال. لا ينقصني مكر الصغار، بعد أن شعرت باستحسان أبي لما أقوم به معه، وحبه لي، لذا فلا بد من أن أستغل ذلك، عندما كنت أريد شيئا، اصنع مقدمة توحي بأنني أقدر حاجته وظروفه، يعني لا أفرض عليه مطالبي، فكان يستجيب على الفور، على عكس إخوتي الذين كانوا لا يجيدون فن التعامل معه، فتكون مطالبهم أحيانا صادمة، لأنها تأتي في الوقت غير المناسب، مثل أن يحتاجوا إلى شيء غير عاجل في نهاية الشهر وتكون ميزانية البيت في النزع الأخير، فيكون من الطبيعي عدم الاستجابة لما يريدون، أو في أحسن الأحوال، يلبي بعضه ويؤجل بعضه الآخر إلى حين ميسرة، حتى أمي كانت تقع في نفس الخطأ، لا تعرف متى تطلب ومتى تسكت، وكثيرا ما كان أبي يلومها وأحيانا يعنفها على أسلوبها باعتبار أنها تعرف ما معه من مال، ويكون مطلبها فوق الاحتمال، وقد يلفت انتباهها لذلك بأن تتحين الوقت الذي تطلب فيه شيئا، ولو كان ضروريا للبيت. تغير الأحوال أختي الكبرى تمت خطبتها، وأبي يدخر لكل واحدة منا مبلغا لزوم زواجها، وقد كانت هذه فكرة أمي، فهي تعرف أن احتياجات العرس كبيرة وكثيرة، ولابد من الإعداد مبكرا، حتى أنها بجانب ذلك كانت تقوم بشراء بعض الأدوات والمفروشات الخفيفة، فازدحم البيت بالكراتين والأكياس التي ننسى ما بداخلها من طول ما مر عليها من سنين، ورغم ذلك فقد احتاجت أختي مبالغ إضافية كبيرة، لأن هناك أشياء عصرية ظهرت ويجب أن تشتريها كما تفعل كل الفتيات، وأشياء أخرى لم يحسبوا لها حسابا، فاستعانت بحظوتي عند أبي وبخبرتي في التعامل معه كي أمهد لها عنده، ونجحت الخطة بعد مقدمة طويلة من مقدماتي المعتادة، واستجاب لكل مطالبها إلى أن تم الزفاف، وقد اشتريت فستانا كان أجمل من فستان العروس، ولفت الأنظار في الحفل، وأنا أتنقل هنا وهناك مثل الفراشة، وكل الحضور يدعون لي بأن يحضروا يوم عرسي، وان يكون قريبا، حتى أنني استأت من طريقتهم، فمازلت صغيرة، ولا يجب أن يقال لي هذا الكلام. وكما حدث مع أختي الكبيرة حدث مع أختي الثانية، فقد توسطت لها عند أبي، وانتقلت إلى بيت زوجها، وحان الدور على أخي الذي كنت لا اكف عن المشاكسة معه، وقد بالغ هو الآخر في تدليلي، وخاصة بعد زواج اختينا، لا يدخل البيت إلا ومعه شيء لي في الغالب يخبئه في جيوبه، وقد لا أعثر عليه، وهو يمنعني من تفتيش جيوبه، وأخيرا أجد قطعة من الشوكولاتة او ما شابه، وطبعا إن لم أجد فلابد من البديل، وهو مبلغ نقدي مناسب، عندما تمت الخطبة، شعرت بالغيرة من خطيبته، لكن مر ذلك بسلام، ولم اشعر بالغيرة الحقيقية إلا عندما بدأ تجهيز شقته التي تبعد عنا عدة كيلو مترات، ولا يمكنني أن اذهب إليه وحدي، كانت أمي تذرف دموع الفرح، لكن تلك المشاعر وإن اختلفت كانت مشتركة بيننا، حتى أبي لم يكن قادرا على إخفاء مشاعره، والحقيقة أيضا أننا سعداء بعرسه. الوضع ظهر بوضوح في يوم العرس، بعد أن انفض المدعوون، وتوجه العروسان إلى عشهما ورجعت أنا وأبي وأمي وحدنا، عادت دموع أمي مرة أخرى ولم تستطع أن تحبسها أو تسيطر عليها، حتى أبي لمحت في مقلتيه دمعات، كل ذلك كان محتملا، لكن ما ظهر في البيت كان فوق طاقتي، فقد أوى أبي وأمي إلى الفراش خلال دقائق، وظللت مستيقظة، لأول مرة أكون وحدي بين أربعة جدران، هنا كانت أختي الكبرى، وهناك كانت الوسطى، وفي الغرفة المجاورة كان أخي، كلها أصبحت خاوية، إحساس غريب لم أكن أتوقعه، فقد كنت أملأ البيت ضجيجا ،ولكن معهم وفي وجودهم، الآن كل شيء ساكن بلا حياة، أنا نفسي كأنني من الأموات، لم استطع النوم، غير مصدقة ما أنا فيه، فهؤلاء الذي ذهبوا من حياتي، لن يعودوا إلى هنا إلا مثل الضيوف في زيارات قد تكون خاطفة وسريعة. الامتحان الأصعب أستطيع أن أقول، إن هذه كانت أصعب ليلة قضيتها في حياتي كلها، وفي الصباح حاول أبي أن يخفف عني بأننا يجب أن نكون سعداء، وان أخي سيكون معنا دائما، فإما أن يأتي إلينا، وإما إن نذهب إليه في بيته، ولا يجوز أن نظهر له هذه المشاعر حتى لا يتأثر، وهو يقضي شهر العسل، وكرر نفس الكلام لأمي، قبل أن نذهب معه إلى المطار لنودعه هو وعروسه عند سفرهما إلى احد المنتجعات، وبعدها اتجه أبي بنا إلى النادي، ثم إلى احد المطاعم المعروفة لنتناول الغداء، في محاولة منه لتغيير الحالة المزاجية التي كنا فيها، وقد تعجبت مما نحن فيه، فكيف تسيطر علينا هذه المشاعر العكسية مع أننا من المفترض أن نكون في حالة فرح وسعادة؟ على كل حال الأيام تمر، والسنون تمضي، ونتخطى الأحداث بحلوها ومرها، رغم أنني لست من الذين عانوا فيها أو تحملوا مسؤوليات، فلم تكن لي شكوى أو مشكلة، ووجدت كل الاهتمام والرعاية من أسرتي، ومازلت مدللة حتى وأنا طالبة في الجامعة، وقد شارفت على الانتهاء من دراستي، إلى أن شعرت أمي بآلام واشتدت عليها، وأصبحت زائرا دائما للأطباء من مختلف التخصصات، لا يمر يوم إلا عند طبيب، أو في مستشفى، أو معمل تحاليل أو مركز أشعة، وفي البيت طريحة الفراش، تحاول أن تخفى آلامها وتكتم أوجاعها أمامي أنا وأبي حتى لا نحزن لأننا كنا نشعر بها وبمعاناتها، إلى أن شاء القدر أن ترحل عن دنيانا وتتركني للأحزان والوحدة. لم تكن ليلة زواج أخي ورحيله عن بيتنا هي الأصعب، بل جاءت هذه الليلة لتكون غير مسبوقة، لا أتخيل أن أدخل البيت وأمي ليست فيه، والأدهى والأمر أنها لن تعود إليه، وقد خرجت منه إلى الأبد، لم يملأ كل أفراد أسرتي الفراغ الذي تركته، وهم الذين تجمعوا في هذا اليوم لأول مرة منذ تزوجت أختي الكبرى قبل سنوات، تلفنا الأحزان بين الصمت والدموع، لا أصدق فأقوم ابحث عنها في أرجاء الشقة لعلها تكون هناك في المطبخ تعد لي طعاما، وربما تكون نائمة على سريرها، أو تكون خرجت لإنجاز شيء، وستدق جرس الباب ويجب أن أقترب لأفتح لها بسرعة، لكن كل ذلك كان مجرد أوهام، إنني في حالة انعدام وزن ، تائهة كما لو كنت في كابوس، وهو بالفعل كابوس يقظة غير قادرة على التخلص منه. وتمر الأيام، وتصغر معها المصائب، لكن يبدو أن المصيبة الأكبر، كانت مختبئة، وقد حان موعد ظهورها، فبعد مرور عام من وفاة أمي، لاحت في الأفق رغبة أبي في الزواج، والمصيبة أن الجميع وافقوا، لكنهم يخفون الأمر عني، لأنهم يعلمون مسبقا أنني لن اقبل هذا بأي شكل، وعندما علمت كانت النتيجة أنني أصبت بصدمة وانهيار عصبي، وحالة نفسية سيئة، وفقدان الوعي، ولا ادري ماذا حدث بعد ذلك، وقد نقلوني إلى المستشفى بين الحياة والموت، ثم تحسنت حالتي الصحية ولم تتحسن حالتي النفسية، وقرأت في عيون أبي شعورا بالذنب، يحمل نفسه مسؤولية ما حدث لي، وأنا لا أتخيل واحدة تحل محل أمي، وإخوتي يحملونني ذنب ظروف أبي، يرون أن من حقه أن يجد من ترعاه، وهو في الخامسة والخمسين من عمره. ولازلت غير قادرة على قبول أي الأمرين. نورا محمد (القاهرة)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©