الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثورة “علوم الاستعراف” تستولي على السلطة!

ثورة “علوم الاستعراف” تستولي على السلطة!
21 أكتوبر 2009 21:17
ثلاثة وثلاثون مفكراً وباحثاً غربياً ناقشوا جميعاً عبر أبحاث مستقبلية أسئلة حول الفكر و الاستعراف، واستكشاف قارة الدماغ وعلم النفس العصبي الاستعرافي، والذكاء الصنعي وتحديات الحاسوب، وفك رموز اللغة والإنثروبولوجيا والبنى العقلية، وفلسفة العقل الجديدة والإدراك والواقع وإعادة بناء العالم، وإعادة تركيب الماضي، وأشكال الذكاء وتطوره والاستدلال والاستراتيجيات العقلية، وإعادة اكتشاف الوعي ومسارات المستقبل. وكل عنوان من هذه العناوين يشكل قارة للبحث بحد ذاته، لكن جان فرانسوا دورتييه رئيس تحرير “مجلة العلوم الإنسانية” جمع هذه الأبحاث ونسقها ليطلق من خلالها صيحة علمية بأن ثورة الاستعراف جذرية وحقيقية وآسرة، وأنها باتت تهيمن بشكل شبه مطلق، وأصبحت موجودة في كل مكان، في المقالات والكراسات والمختبرات والندوات، لتقلب النظام القديم وتحتكر السلطة!. ولكن، ما هي طبيعة هذه الثورة؟ وبماذا هي طريقة جديدة في رؤية الكائن البشري؟ وما هي مبادئ ومجالات تطبيقها؟. برنامج منطقي! وهل بالإمكان تطوير الحاسوب ليصل إلى مستوى الدماغ البشري؟. وبمعنى آخر، هل بالإمكان صناعة روبوت يوازي البشر أو يتفوق عليهم في الذكاء؟. هذه الأسئلة التي يطرحها أدب الخيال العلمي والأفلام السينمائية الفانتازية، بدت لوهلة من خلال ثورة علوم الاستعراف أقرب إلى الممكن، مما بدت عليه في شطحات الخيال المستحيلة. فعلم الاستعراف بدأ كمحاولة لمحاكاة الذكاء البشري صنعياً. كان إمانويل قد فهم بأن العالم كما ندركه ليس صورة دقيقة عن الواقع بل إعادة بناء عقلية. حيث يترشح الواقع ويتشكل من خلال أطرنا العقلية. وفي عشرينيات القرن الماضي، كان اختصاصيو علم النفس قد أثبتوا تجريبياً هذه الفكرة بصدد الرؤية. وقد عممت علوم الاستعراف هذا الاكتشاف. فالدماغ والذي هو مقر الفكر، يعمل كجهاز معالجة للمعلومة، ويعني ذلك أن الشخص المفكر لا يكتفي بتمثل معطيات وسطه الخام. فالتفكير يعني القيام بعمليات فرز وتركيز انتباه على معلومات محددة، ثم إضفاء شكل عليها وجمعها وفق طرائق مختلفة. وقد تمخض هذا الأفق الإجمالي عن مكتشفات عديدة تمخضت بدورها عن نتائج كثيرة في ميدان الإدراك والذاكرة والتعلم. ويرى دورتييه أن علم نفس الاستعراف قلب طريقة رؤيتنا للحياة النفسية، عندما اعتبر أن الفكر نوع من البرنامج المنطقي الذي يعالج رموزاً مجردة، وهذه الفكرة كانت خطوة نحو فتح.. هناك اتفاق بشكل عام بأن تاريخ ولادة ثورة الاستعراف هو العام 1956، على أيدي جورج ميلر وجيروم برونر، بفكرة (الاستراتيجيات العقلية) التي أحدثت تغييراً جذرياً في وجهة النظر بالقياس مع السلوكية، وهي النظرية السائدة في ذلك الوقت، وكانت تهتم بسير الفكر الواعي عند الفرد والسلوكيات الخارجية الملاحظة موضوعياً، بينما أهملت ذاتوية الفرد بحالاته العقلية الواعية. فجاءت أعمال ميلر وبرونر لتحدث خرقاً في علم النفس، فانطلقت ثورة علوم الاستعراف، لتعيد العقل إلى أحضان العلوم الإنسانية التي أقصاها عنها خريف السلوكية الجليدي الطويل. لكن تطوراً آخر طرأ على فكرتهما بعد الندوة التي عقدت في جامعة دارتماوث في الولايات المتحدة في العام نفسه، وضمت علماء نفس ومهندسيين ورياضيين وعلماء أعصاب، وكان موضوعها (تطبيق ذكاء صنعي قادر على تقليد ومحاكاة أداءات الذكاء البشري)، وتعتبر هذه الندوة اليوم بمثابة وثيقة ولادة علوم الاستعراف، وهذا الاتجاه الذي تم رسمه لأبحاث الاستعراف الأولى مختلف بشكل ملموس عن ذاك الذي تصوره ميلر وبرونر، ولو أن أحداً لم يع هذا الأمر آنذاك. وفي غضون سنوات تبلور نموذج معياري لعلم نفس الاستعراف، ضمن صياغة عرفت بالنموذج الحوسبي ـ التمثيلي. وهو يتناول قضيتين رئيسيتين، تتمثل الأولى في أن الفكر البشري يقوم بمعالجة المعلومات، والثانية بأن السيرورات العقلية تتم بمستويات تنظيمية مختلفة ينبغي الإحاطة بمنطقياتها النوعية. وبذلك قلب علم نفس الاستعراف كل شيء في طريقه، واستولى على السلطة بشكل يشبه الهيمنة. وبات موجوداً في كل مكان، في المقالات والدراسات والمختبرات والندوات، حتى أن البعض لا يتردد في تمثيل علم النفس بمجمله بعلم الاستعراف. وككل ثورة جديرة بهذا الاسم، قلبت (ثورة الاستعراف) نظاماً قديماً. إلا أن نجاحها أثار ردود فعل عدائية.. انتقادات شديدة أراد البعض أن يحصر علوم الاستعراف في نموذج وحيد وعام: نموذج الحوسبة الذي يتصور الدماغ على أنه حاسوب، والعقل على أنه برنامج معلوماتي. ولكن ارتفعت أصوات معترضة على هذا النموذج، آخذة عليه الرؤية الآلية للفكر. وجاء الانتقاد الأعنف من مؤسسي علم نفس الاستعراف نفسه، فأدان جيروم برونر الانحراف التقني لعلوم الاستعراف، واعتبر أنه بذلك يبتعد عن مجراه الأصلي، حيث كان علم نفس الاستعراف في بداياته يطمح إلى إعادة الاعتبار للعقل البشري، وطموحه النهائي إعادة تكوين عالم البشر العقلي مع أحلامهم ورغباتهم وتصوراتهم حول العالم. إلا أن الثورة المعلوماتية دفعت الأمور في اتجاه آخر. كما ظهرت نظريات منافسة (كالوصلية) وتشكلت برامج بحثية جديدة، وانكبت على استكشاف الروابط بين الفكر والانفعالات، والفكر والمجتمع، والفكر والفعل، والفكر والتطور، وعلى نحو أعم إعادة إدخال الفكر في الكائن الحي. فتنوعت علوم الفكر بقدر ما ضمت إليها اختصاصات جديدة وازداد امتداد مجالها. ويقول الباحثون اليوم إنه توجد مستويات تنظيم وتفسير عديدة (بيولوجية ووظيفية وقصدية) لكل ظاهرة نفسية، وإن من العبث السعي إلى اختزال مستوى من التفسير إلى آخر. حيث لا تشكل علوم الفكر إمبراطورية واحدة متراصة، وإنما يرتسم خلف الوحدة المرجعية للاستعرافي عالم وافر من الأبحاث، متعدد الأشكال والعناصر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©