الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«عطاء القلم» في أبوظبي

«عطاء القلم» في أبوظبي
9 يونيو 2010 20:24
نتساءل... ما الذي يميز عنواناً عن آخر؟، هل هو دلالة العنوان على الموضوع الذي يصفه أم شاعرية العنوان كونه يمنح الذهن آفاقاً بعيدة للتخيل، أم أن العنوان هو تلاقح حروف بانسجام جميل، طال أو قصر، كثرت حروفه أو قلّت، فالعنوان سحر الإنشاء، وبلاغة التعبير، وصدمة القارئ الأولى، واكتظاظ المعاني، وشفافية الحرف، وجمالية الصورة، وخلاصة الفكرة. في الأسبوع الماضي احتفلت أبوظبي بمناسبة توزيع جوائز المسابقة الدولية الثامنة لفن الخط العربي التي أقامتها هيئة أبوظبي للثقافة والتراث بالتعاون مع مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باسطنبول “أرسيكا”، وبمصاحبة الاحتفالية افتتح في قصر الإمارات معرضان للخط العربي: الأول منهما أطلق عليه معرض “عطاء القلم” ويضم أجيال الخطاطين الذين تعاقبوا على “أرسيكا” خلال 25 عاماً، وضم هذا المعرض 52 خطاطاً عربياً وإسلامياً قدموا ما يقرب من 92 لوحة حروفية، أما المعرض الثاني فضم مجموعة الأعمال التي فازت في المسابقة الدولية الثامنة وقد بلغت 68 لوحة حروفية لـ 64 متسابقاً. عودة إلى مفهوم العنوان وامتداده، فاجأنا عنوان المعرض “عطاء القلم” ليلخص فعلاً دور القلم منذ تعرف الإنسان إليه لغرض المنح والعطاء والهبة اللامحدودة، بأيدٍ أحسنت استخدامه كتابة للفكر، وللشعر، وللنثر، وللمخاطبات، وللرسم، وللخط الحروفي العربي، حتى أن العرب والمسلمين وبفعل تجويدهم وعشقهم للحرف العربي صاغوه بمدارس لعبت دوراً كبيراً في تخلقه وانسجامه وتلاعبه على الصفحة البيضاء بالإضافة إلى جمالية انحناءاته، منها: الثلث الجلي والثلث والنسخ والتعليق الجلي و(النستعليق) والديواني والديواني الجلي والكوفي والرقعة والمغربي. ولو لاحظنا تلك التسميات لوجدناها قد توزعت صفة للمكان أو صورة للحرف أو قصبة للخط، أومساحة للورقة، وطوال ألف وأربعمئة عام ونيف منذ السنة الأولى للهجرة كان الخط العربي ملتصقاً بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والشعر العربي والنثر المختصر البليغ المعبر، ولكن هذا لا يعني أنها بدايات اكتشافه، فقد اكتشف الخط العربي منذ أن اجتمعت الأمة العربية وخطت حروفها. “عطاء القلم” لا حدود له، وسيظل ممتداً إلى اللانهاية، فلا يستطيع أحدٌ أن يتصور توقف مداد القلم السيال، ولا روعة حركته فوق الصفحة ذهاباً وإياباً، صعوداً وهبوطاً، ليخلق شبكة من العنكبوت ليس لها نهايات. “عطاء القلم”... كأني أقرأ في هذا العنوان أبعاداً وتلخيصاً وتصويراً للاختلاف بين خطاطي المعرض والاتفاق بينهم أيضاً، فهم مختلفون في رؤاهم لحركة الحرف ولاصطفاف الجمل وللبداية والنهاية وتدوير الكتابة ولملء الفراغ في العبارة الواحدة غير أنهم متفقون أنهم يمثلون خطاً واحداً لا يخرج عن تلك المدارس التي اكتشفته. في لحظة تفكير أراد الخطاط العربي والإسلامي أن يأخذ من الفنون ما هو أجمل وأرقى ليمازجه مع ذات الخط الحروفي العربي، فما كان عليه إلا أن يختار الأجمل والأروع وهو “الزخرفة” كي تجعل النص مشرقاً ومزهراً. وفي لحظة أراد أن يمتزج بالمعادن، فما كان له إلا أن يمتزج بالذهب فسمي بالتذهيب. عندما تدخل معرض “عطاء القلم” تواجهك لوحة إحسان أحمدي الخطاط الإيراني “بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين...” سورة الفاتحة على خط التعليق في عام 1428 هـ وهي بالحبر والألوان مع الذهب على ورق المقهر “مرقعة” بحجم 45 * 50 سم ويبدو التذهيب في عمق اللوحة ليحيط بالنص القرآني والزخرفة فيها قليلة وهي محاطة بـ 3 مستطيلات أما اللون فقد طغا المذهب والزهري عليها. وفي لوحة للفنان الفلسطيني أحمد نافذ الأسمر يطالعنا النص القرآني “فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” سورة الرحمن بخط الثلث الجلي من الحبر على الورق بمقاس 24 * 68 سم مستطيلة الشكل، طغى عليها سواد الحبر وتداخل الحروف مع بعضها ونسبة الوزن الحرفي ودقته. جمالية مزودجة أما آدم صقال الخطاط التركي فقدامتلكت لوحته جمالية مزدوجة وهما “الاختصار” و”السعة في التعبير المعنوي” حيث تقول اللوحة “الحمد لله” فهي مختصرة بكلمتين وواسعة في المعنى والدلالة. وهي في خط الثلث الجلي من الحبر الملون “الأحمر” على ورق المقهر “مرقعة” 46 في 46 سم مربعة في الفضاء الخارجي كالزهرة في أيقونتها الداخلية، استخدم اللون الأحمر الشفاف في بعض المواقع وكثفه في مواقع أخرى فبدا مسوداً فمازج آدم صقال بين الاسوداد الذي خلقه الأحمر والأحمر الشفاف في سحبة القلم الأولى. ولعبت آيتن ترياكي الخطاطة التركية في نصها من الحديث الشريف “اليد العليا خير من اليد السفلى” والمكتوبة بخط الثلث الجلي والثلث عام 1429 هـ من الحبر والألوان مع الذهب على ورق المقهر “مرقعة” بحجم 85 * 60 سم وهي المذهبة للنص أيضاً. لقد أطرت اللوحة بالزهريات المزخرفة مع فضاء أصفر مرصع بورود صفراء غامقة قليلاً، وتجلت براعة آيتن ترياكي بالتلاعب بكلمتي “خير من” التي عكستهما من اليمين إلى الشمال وبالأحمر الفاقع أما كلمتا “اليد العليا” فوق و”اليد السفلى” تحت فقد شطرا بـ “خير من” وهي جميعها جاءت بلوحة مستطيلة من الأعلى إلى الأسفل متوخية الدلالة في الشكل والمعنى. ويبدو أن براعة اللوحة تتجلى في قدرة الخطاط على إدارة أقل الكلمات في العبارة ضمن فضاء واسع، وفي قدرته على ضخ الطاقة التعبيرية بشكل الحرف، حيث كتب أيمن عبدالله حسن الخطاط السوري في لوحته “نور على نور” بخط التعليق الجلي عام 1430 هـ وبالحبر والألوان مع الذهب على ورق المقهر مع التذهيب الذي نفذته كلثوم كوكرجين، تلخيصاً لكلمتين فقط هما في كلمة واحدة (نور) مكررة و “على” فاصلة بين النورين، وهي بالأسود وبنقطتين فقط مع فضاء مفتوح بشكل طولي بديع. ويشتغل إيهاب إبراهيم أحمد ثابت الخطاط الأردني في لوحته “فضائل المسجد الأقصى وبيت المقدس في الحديث النبوي الشريف” بخط النسخ عام 1430 هـ بالحبر مع الورق بحجم 70 * 50 سم بشكل رائع حقاً حيث امتلاء اللوحة كاملة بالحديث النبوي وبسنده وعنعنته وحديثه المتواصل مما يشعر بالجهد الاستثنائي الذي أفرغ هذه الطاقة الجبارة في الكتابة وملء فراغ الصفحة. اكتظاظ النص ويشبه اشتغال إيهاب إبراهيم ما خطه جمال بنسعيد الخطاط المغربي لخطبة الوداع بخط مغربي من الحبر والألوان مع الذهب على ورق المقهر بحجم 68 * 50 سم مع تذهيب لعبدالله الوزاني، حيث نشاهد اكتظاظاً في النص، يمنح اللوحة جماليتها لا كما يظن الرائي أن الجمالية متأتية من حروفها وإنما من دقة هذا الاكتظاظ حين تتعشق الحروف مع بعضها بالخط المغربي وتحتضن بعضها البعض بإلفة ووداعة. وشبيه بما جاء في لوحة “الحمد لله” لـ آدم صقال، يعمد جواد خوران الخطاط الإيراني إلى كتابة كلمتين وهما “يا ودود” وبنفس الخط الثلث الجلي عام 1431 هـ بالحبر مع الورق وبحجم 75 * 51 سم وبنفس اللون الأحمر مع تطعيم بالأحمر الغامق المتحول إلى سواد في بعض المواقع حيث تلتقي التواءات الحروف مع بعضها. ويأخذ خليفة الشيمي الخطاط المصري من سورة البروج الآية 16 فقط وهي “فعّال لما يريد” بخط الثلث الجلي 1428 هـ بالحبر مع الألوان المذهبة على ورق المقهر بشكل مستطيل من اليمين إلى الشمال ليملأ بها فضاء اللوحة بتعشيق بارع. ونذهب إلى منيب أوبرادوفيتش الخطاط البوسني في لوحته “واشكروا الله” بخط الثلث الجلي 1430 هـ بالحبر الملون على ورق المقهر وبحجم 60 * 60 سم ليعيد صياغة الواو من جهتين ليشكل كرسياً يجلس عليه لفظ الجلالة “الله” وتحتها اشكروا معكوسة أيضاً وكأن “واشكروا” مكررة ولفظ الجلالة مفردة إذ لا يجوز تكرار كلمة “الله”. ويعبر محمد نوري رسول النوري الخطاط العراقي في لوحته المختلفة عن الجميع والتي كتب عليها “وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى” سورة النمل الآية 30 بخط الثلث الجلي من الحبر مع الألوان على ورق المقهر. أما الاختلاف فمتأت من زاوية النظر والاشتغال على الفضاء. إذ لم يختر محمد النوري حركة الخط من اليمين إلى اليسار ولا من الأعلى إلى الأسفل بل اختار أن يرفع النص القرآني من الزاوية السفلية يمين إلى الزاوية العلوية يسار ويؤطر الزخرفة من الزاوية العلوية يمين إلى الزاوية السفلية يسار عبر مفهوم جميل في المناظرة مستخدماً اللون الأزرق الشفيف في بعض المواقع والأزرق الغامق في مجمل الخط، وتشير فكرة التوازي في نهايات الياء عن اليمين بأربعة مواقع ونهايات الواو عند اليسار في 4 مواقع وتوازي الهاء في الداخل. ولمحمد مندي الخطاط الإماراتي جماليته عندما خلق 3 قباب زخرفها من الداخل بتعشيق حرف اللام الصاعد إلى الأعلى بانحناءات تداخلت فشكلت 3 قباب تسند احداها الأخرى وبشكل جميل للنص. التكرار المعكوس وتشتغل ماجدة سليم محمد من الإمارات بلوحتها “يا كريم” وهي لوحة مثنى بخط الثلث الجلي 1429 هـ بالحبر على الورق المقهر لتؤكد التكرار المعكوس وجمالية المبهرة حيث تأتي “يا كريم” من اليمين تارة ومن اليسار أخرى وعند التقائهما تجمع النقاط الأربع وهي في الأصل 8 نقاط إلا أن الخطاطة أعطتنا 4 نقاط ظاهرة وأخرى متصورة، وبهذا التشكيل تجسدت اللوحة بدعائها الرائع. كذلك فاطمة سعيد الخطاطة الإماراتية التي خطت سورة الحاقة الآية 17 بخط الثلث والنسخ عام 1431 هـ بالحبر والألوان مع الذهب على ورق المقهر. حيث تدور الآية كلها حول الحرف المكرر والمعشق مع نفسه وهو “الواو”. وقد نسأل فعلاً هل أن الخط العربي هو بحث عن الأشكال؟ والإجابة عن هذا السؤال تلخصه لوحة عبدالقادر الريس التشكيلي والحروفي الإماراتي في لوحته “حروفيات” بالألوان على الورق حيث تعامل مع حرف الهاء فقط ونقاط موزعة رسمت بالأزرق الشفاف والغامق وسواد يشكل أرضية اللوحة. وكأن حرف الهاء يحمل دلالته الطائرة وكأنه بعينية المتناظرتين يحمل التفافة جسده ويحلق في فضاء لوحة الريس التي استحقت جماليتها. وللإجابة عن سؤالنا أيضاً نراها في المسابقة الدولية الثامنة حيث تم طرح نصوص قرآنية وأحاديث نبوية وأبيات شعرية يوائم كل نص نوعاً من الخطوط فعلى سبيل المثال طرح في خط النسخ نص شعري وهو نص. صباح أربيللي يحوز قصب السبق في المسابقة وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ الروحُ وَالمَلَأُ المَلائِكُ حَولَهُ لِلدينِ وَالدُنيا بِهِ بُشَراءُ وَالعَرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ تَزدَهي وَالمُنتَهى وَالسِدرَةُ العَصماءُ هذه الأبيات من قصيدة “ولد الهدى” لأمير الشعراء أحمد شوقي الذي قالها مادحاً رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما نفذه صباح أربيللي الخطاط العراقي الفائز بالجائزة الأولى، وهو تنفيذ مختلف تماماً عن الخطاطين الخمسة الآخرين الذين كتبوا النص الشعري شطراً وعجزاً واحداً بعد الآخر بالطريقة التقليدية، وبذلك حاز الأربيللي على قصب السبق، مع ما نظرت إليه اللجنة من أساسيات تعتمدها معياراً لفوز النص. كذلك في خط الثلث حيث لعب اربيللي على بنية النص “قل الله مالك الملك...” فقطعها بشكل جميل نازلاً من الأعلى الى الأسفل وبكتل متساوية ومتوازية، إنها لعبه الشكل فعلاً وجودة النسب والمكاييل حقاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©