الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر مُلَوّثاً

الشعر مُلَوّثاً
9 يونيو 2010 20:25
لم يكن الشاعر المغربي محمد بنيس مجانباً للصواب حين قام بترجمة ديوان الشاعر الفرنسي الشهير جورج باتاي (1897- 1962) “القدسي وقصائد أخرى”، فالرجل قامة فكرية وشعرية إشكالية وله قامة كبيرة في الثقافة العالمية، فضلاً عن أن هذا الديوان يضم جميع قصائد باتاي، سواء تلك التي نشرها في حياته أو كانت موزعة بين كتب ومسودات. قام برنار نويل بجمعها وكتابة تقديم لها ووضع أغلب هوامشها، باستثناء بعض منها مأخوذ من الأعمال الكاملة. هذه القصائد، يقول محمد بنيس، “تنشر لأول مرة في ديوان واحد، وقد صدرت عن دار غاليمار، في 15 أبريل 2008، ضمن سلسلة “شعر” الشهيرة. يتألف الديوان من القدسي، الصادر سنة 1944 في حوالي أربعين صفحة، ضمن منشورات ميساج. وقد كانت صدرت منه نسخ محدودة تقدر بحوالي 100 أو 120 نسخة. هذا هو العمل الأساسي”. وقول بنيس أن برنار نويل كان قد أعاد “نشره سنة 1967 عن دار ميركور دوفرانس، بعد أن أضاف إليه قصائد كانت موزعة، تشمل ما هو، منشور تحت عنوان “قصائد متنوعة”. وأخيرا، أضاف برنار، في هذه الطبعة الجديدة، تلك القصائد التي عثر عليها متفرقة بين الأعمال الكاملة ومسودات، باستثناء القصيدتين الأخيرتين، ويحمل مجموعها في هذا الديوان عنوان “من الألم إلى كتاب”، ثم “الكتاب”. كراهية الشعر وتعود علاقة برنار نويل بأعمال باتاي إلى نهاية الأربعينيات. إذ كان أول كتاب عثر عليه وقرأه، فور قدومه من الجنوب إلى باريس سنة 1949، هو “كراهية الشعر”. لكن برنار أراد أن يكون راصدا لدقائق وتفاصيل تعطي لعمله قيمة المرجع الموثق. هكذا قام بوضع هوامش اعتنى فيها بتخريج القصائد والمجموعات التي يتألف منها الديوان، مع ضبط معلومات عن قصائد أو مقاطع وأبيات. ومن أهم ما أتت به الهوامش إثبات التعديلات العديدة التي كان باتاي يدخلها على أجزاء من القصائد أو على القصائد برمتها، من خلال إعادة الكتابة التي لم يتوقف عن ممارستها. وهذه الملاحظات موجهة بالأساس إلى القارئ (الفرنسي وغير الفرنسي) المعني بدراسة الديوان، ويؤكد بنيس أنه اقتصر على ترجمة “هامشين منها فقط لضرورة توضيح عناصر محدودة. في السياق نفسه، وضع برنار تعريفا مختصرا لحياة وأعمال باتاي، تضيء جوانب من شعره وكتابته، احتفظت بمكانه في آخر الديوان”. ويؤكد الشاعر والمترجم محمد بنيس أن من بين ما تتطلبه قراءة “القدسي” “معرفة بثقافة مسيحية، كأرضية كتب ضدها جورج باتاي مجموعة من قصائده. وقد كانت تلك الثقافة في بداية ما استحضرته أثناء القراءة والترجمة في آن. فلم يكن ممكنا أن أحافظ على الإستراتيجية الشعرية لباتاي دون اطلاع على هذه الثقافة والعمل، بتعاون مع أصدقاء وعارفين مسيحيين، على التمكن مما تفرضه عليّ الترجمة، على الأقل”. ويرى بنيس أن عنوان الديوان يطرح إشكالية صعبة، إذ برأيه “لا توجد دلالة دقيقة ونهائية في الفرنسية لهذه الكلمة، لأن النسبة من اختراع جورج باتاي. وهو ما أكده لي برنار وأكده له بدوره ميشيل سوريا، أحد كبار المختصين في باتاي. ذلك أن الشاعر استعمل في بعض أعماله عناوين ذات نفحة دينية، من أجل أن يقلب أوضاع الخطابات والقيم، فيضع بسخرية ما هو أعلى في الأسفل. ولاشك أنه وجد دلالة في أن يختار لقصائد ذات مواضيع فظّة عنوانا يذكر بالطبقة العليا من الملائكة. فكلمة (أرشونج) معناها ملَك أعلى، أقْوى، أي من الطبقة الأولى. وبالتالي فإن (أرشوجيليك) حالة ملائكية ترتفع إلى أعلى مستوياتها السماوية. ولا يخفى أن في هذه الكلمة إثارة وتحريضا عندما توضع كعنوان لمجموعة من القصائد الموسومة بالفظاعة، في المعنى السائد للمواضعات الأخلاقية والشعرية في آن”. وعنوان هذا الديوان “القدسي” تطلب من الشاعر محمد بنيس صبرا في البحث عن “أقرب مقابل ممكن لها بالعربية”. مشيرا إلى أن البحث أدى به “إلى الاقتناع بأن مقابلها العربي ربما كان أوضح مما هو عليه المعنى في الفرنسية (أو في المسيحية، إن شئنا التدقيق). إن العودة إلى ديانات أهل الكتاب تدلنا على أن جبرائيل وميكائيل ورفائيل هي الطبقة الأولى (الأساسية) لملائكتها، التي تطلق عليها المسيحية كلمة (أرشوج). وتتفق اليهودية والمسيحية والإسلام في إيراد جبرائيل (جبريل)، بخلاف الملاكين الآخرين. ولكنها لا تتفق في تخصيصه بـ “الروح القدس”، الذي هو بدوره من القضايا الخلافية بين المسلمين والمسيحيين. على أن وروده لدى المسيحيين والمسلمين ساعدني أكثر في الاقتراب من المعنى الذي حرصت على ضبطه للعنوان. أما عن قصائد الديوان فهي، كما يرى مترجمها، “لم تكن هيّنة، على الإطلاق. وهو ما يحدث مع كل عمل استثنائي. كانت غايتي – يقول محمد بنيس – تتمثل في نقل القصائد بأكبر ما يمنحها قوة الدلالة في الفرنسية”. تلويث ذهبي أما برنار نويل، فيقول إن شعر جورج باتاي ظل مهملا، “لا لأن الجودة تنقصه، بل لأنه يمثل بكل تأكيد خطرا على الشعر. فهذا العمل لا يعترض في الشعر فقط على الطرائق، انه يمزّقها، يلطخها أو يجعلها عُرضة للسخرية. هكذا يكون الشعر مُهاجَما في طبيعته نفسها ومن ثم مُحرّفا أو، بدقة أكثر، ملوّثا. ونحتمي من هذا التلويث الذهبي عندما نعزوه إلى موضوعات هي في العادة صادمة، فيما الأمر يتعلق بشيء آخر تماما، بدمار داخلي يشوّه التركيبات العادية للقصيدة ليُلحق الضرر بانطلاقتها. ثمة فظاظة في هذا الانقلاب، أي طريقة في تعرية البيت وعرض عُريه الصوتي وتقطيع ما يقول تقطيعا بالمقلوب”. كما يرى برنار نويل أن ما يلوث “الشعر، بالنسبة لباتاي، هو الشعر نفسه في الحدود التي يَقْبل فيها بأن يُرضي نفسه بجمالياته، ولذلك يريد باتاي أن يلوث هذا التلويث ليبلغ الشعر “الحقيقي”. “إن الشعر المتمرد على الشعر الذي يكتبه باتاي مرتبط بالتجربة الداخلية ومن المحتمل ألا يُكتب بدونها. فالصوفية الملحدة لباتاي تحتاج إلى القبض على الحالات التي تستدعيها، إلى القبض عليها في صيَغ مضمومة بعضُها إلى بعض، مكثفة، مكسِّرة، لها بطبيعة الحال هيئة القصيدة”. كما يؤكد برنار نويل على أن تجربة جورج باتاي الشعرية شديدة الانتساب إلى التصوف، “ذلك أن التجربة الداخلية ممارسة وليست فقط إجراء ثقافيا. جميع الوسائل مفيدة لها إن هي كانت تسمح تماما بالإسراف في المعلوم، وعلى الأخص في الضحك، الفجور، التلويث الذي يقزز ويؤدي إلى المرض. تخلق هذه المظاهر من الإسراف حالات تتطابق فيها “معطيات معرفة شعورية مشتركة وصارمة مع معطيات المعرفة السردية”. ويندرج شعر باتاي في هذا التطابق لكنه، بدلا من أن يعكس التوازن، يجازف ويشهد بالأحرى على حالة الانبثاق الذي فيه تمتزج “الكراهية” بـ “الشعر”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©