الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عفن الأخلاق البرجوازية

عفن الأخلاق البرجوازية
9 يونيو 2010 20:31
تبدأ المسرحية مع احتفالات عيد الميلاد في الخامس والعشرين من ديسمبر، وهو تاريخ مجيد يعبر في محتواه عن الميلاد والمحبة والسلام. ومن هذا الاستعداد البهيج ينقلنا ابسن إلى حيث سعادة بطلة المسرحية “نورا” مع زوجها “هيلمر” الذي يخاطبها على الدوام بقوله: “أهذه بلبلتي الصغيرة التي تغرد.. أهذه أرنبتي الصغيرة التي تمرح؟”. وحين يقع زوجها الذي تحبه فريسة للمرض يقرر الأطباء أنه لا بد له من قضاء إجازة نقاهة للاستشفاء خارج البلاد، ولكن أين المال لتحقيق ذلك؟ فهم في ضائقة مالية، ومن مبدأ حبها لزوجها تقرر استدانة المال لهذه الرحلة من عدو زوجها “كروجستاد” الذي طرد من البنك الذي يديره “هيلمر” لاختلاسه وتلاعبه في الأعمال الحسابية. وتتم عملية الاستدانة بصكَ تكتبه “نورا” على نفسها بتوقيع مزوَر لوالدها: “كروجستاد: هذا التناقض يا مدام هيلمر يتلخص في أنَ أباك وقَع على الكمبيالة بعد ثلاثة أيام من وفاته”، ويبدأ “كروجستاد” الضغط عليها لتقنع زوجها بإعادته إلى وظيفته في البنك وإلا فضح أمرها أمام الجميع وحطم حياتها العائلية. تتصاعد الأحداث ويكتشف “هيلمر” سرَ الصك من خلال خطاب أرسله “كروجستاد” في البريد، وتثور ثائرته وهو يخاطب زوجته: “أيتها التعسة ماذا فعلت؟ أتدركين مغبة عملك، يا للعار، يا لها من صحوة، ثماني سنوات وأنا أعقد عليك أملي في الحياة، ولكنك حطمت حياتي ومستقبلي”. وإزاء ذلك يتخذ “هيلمر” إجراءات مشددة بحق “نورا” بعدم السماح لها بالاقتراب من أطفالها، وأن يبقى كل شيء على ما هو أمام الناس مجرد شكل اجتماعي لا أكثر، إنها حياة مملوءة بالفراغ والخواء. وترد “نورا” على هذا الإجراء المجحف بحقها فتخاطبه بقولها: “أنت لم تحبني أبدا، بل لذَ لك أن تقع في حبي، كل ما أعنيه أنني انتقلت من يد أبي إلى يدك كي تنظم لي حياتي من زاويتك الخاصة، فتبعتك أو تظاهرت بأنني اتبعك، لست أدري أيهما، والآن أعود بذهني إلى الوراء يخيل ألي أنني لم اكبر، كانت وظيفتي كما أردتها أنت لي، أن أسليك، أنت وأبي جنيتما عليَ، والذنب ذنبكما، إذ لم اصنع من حياتي شيئاً ذا قيمة”. وحينما يتراجع “كروجستاد” عن تهديداته ويسحب الصَك، يعود “هيلمر” إلى زوجته “نورا” مستعطفاً بأن تعود المياه إلى مجاريها، لكنها ترفض بحزم: “مع الأسف لم تعد الرجل الذي أتعلم منه كيف أصبح امرأة صاحبة هدف، وعلي أولاً أن أقوم بتربية نفسي وأتعلم الحياة، وهذه ليست مهمتك بل مهمتي أنا، ولهذا قررت أن أتركك إلى الأبد”. ويرد عليها محاولاً التأثير عليها من قناة المجتمع والناس: “أتهجرين أولادك دون أن تفكري فيما قد يقوله الناس؟”، فترد عليه واثقة: “لست أبالي بما يقوله الناس، فلا بد لي أن أذهب.. حتى الرباط المقدس وتعاليم الدين لا تجدي مع الشعور بالحرية، يؤسفني يا هيلمر أنني أجهل من الجهلاء في هذه الناحية، لا يسع علمي أكثر من القشور التي حفظتها من الكاهن يوم الاعتراف إذ أوصانا بما تنص عليه تعاليم الدين دون أن نفقه بالضبط ما هي تلك النصوص، لقد وضح لي أنني كنت أعيش مع رجل غريب وأنني أنجبت ثلاثة أطفال.. رباه إن بدني يهتز لمجرد التفكير في الأمر”. من خلال استخدامه عنصري الوراثة والبيئة يكشف لنا “ابسن” عن تركيب بعض الشخصيات وأثر ذلك في التحولات المسرحية في الخط المسرحي نفسه، فها هو “الدكتور رانك” صديق “هيلمر” و”نورا” الذي يعاني مرض السَل الذي جاءه بالوراثة نتيجة أفعال أبيه يتألم ويصرخ: “رانك: تطلبين مني البشاشة والموت يقتفي أثري، ما ذنبي لأدفع ثمن غلطة ارتكبها غيري، أين العدالة في هذا؟ ولست وحدي الضحية، بل في كل أسره تجدين شخصاً بريئاً يدفع الثمن حياته دون ذنب جناه، يا لها من مهزلة تبعث على السخرية؟؟!!”. ولعلك هنا تلمح مدى الترابط بين مأساة “أوديب” ومأساة الدكتور “رانك”. فكلاهما ضحية للبيئة والقانون “لاحظ مدى قدرة المؤلف على توظيف هذه الشخصية في توضيح علاقة الشخصيات الرئيسة، فحين يرسل الدكتور رانك بطاقة تهنئة لهيلمر ونورا بعيد الميلاد يرسم عليها صليباً أسود، ويكون هذا بعد ذلك مؤشراً على موت العلاقة بين الزوجين؟”. كما تجد هنا اللغة المسرحية، وهي لغة الشعر المنثور والأشياء الخارجية “الرموز” هي مكونات للوصول إلى الهدف الداخلي، فالحركة الداخلية هنا هي في خدمة الكلمة، فنرى شق الأدب في الفرجة وشق الفرجة في الأدب في حالة توحد جمعهما بعد أن كانا منفصلين في معظم المسرحيات، فنجد في بيت الدمية الصراع الممتد الذي لا ينتهي بانتهاء المسرحية، وهو صلب البناء المسرحي فيها، وتجد الفكر ومناقشة القانون المدني الذي تعرض في ظله المسرحية، وتجد الجمال التشكيلي والإيقاع الحسي للحركة الداخلية للنص والشخصيات كلها بنوع من الصدق الفني والتلقائية والشاعرية تكوَن النص الواقعي المحكم السليم، فكانت بين الدمية بداية انطلاق نحو ريادة الواقعية في المسرح الحديث.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©