السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوميات البسطاء في ضيافة السرد

يوميات البسطاء في ضيافة السرد
9 يونيو 2010 20:32
يتكون كتاب “أيام العطش” من مجموعة نصوص “تعتني بمشاغل الإنسان. ويبدو أن المؤلف فهم اللعبة وأدرك الطريق المؤدية إلى قلب القارئ فنشر أجنحة خياله على أمكنة وأزمنة تحتوي شخصيات عادية من العامة، فاستدعى العطار والتاجر البسيط وربّة البيت ليحلّق بهم خارج حدود العاديّ، باحثاً عن ذاته المبدعة وسط واقع ينسكب خارجه ممتزجاً بتفاصيل محيطه القريب والبعيد. فإلى أيّ مدى وفق في ذلك؟ يلاحظ قارئ هذه المجموعة القصصية أن شخصيات النصوص على اختلاف مواضيعها متقاربة المستويات والملامح، وهي أيضاً قادرة على التطوّر بسرعة مذهلة (ما حدث مع “العطار” الذي ابتدأ ساكناً منغمساً في الحسابات والدكان ورحل عبر حلمه خارج ذلك العالم الذي كان يسأم المكوث فيه). والحلم لم يشكل بالنسبة له غير مؤشر الانطلاق والتحرّر من الماضي، إذ ساق له القدر بغيته وتعرّف على الفتاة الحلم وهو في دكّانه، ثم صارع وكافح المجتمع من أجل أن يحقق ذلك الهدف المنشود. يقول في قصة العطار: “سكت العطار هنيهة فهو وإن كان يدرك معنى هذه الكلمة الفرنسيّة والإطار الذي تقال فيه فإنّه لا يعرف كيف يردّ عليها. ما ترطن به الأستاذة أمامه أحياناً باللّغة الفرنسيّة يجرحه ويشعره بنقص ما ولكنّه اعتاد أن يقابله بالابتسام والصّمت”. (ص48). بدا هنا فارق المستوى الدراسي واضحاً، لكن ما جعل الأستاذة تتواضع وتقبل الزواج من العطار ليس الإعجاب بشخصه، بل لأنها تحمل عقدة نقص أخرى أفظع من عقدة نقصه هو، فبالنسبة إلى مجتمع تقليدي يرى في القادم إلى الدنيا من غير أب أو من أب مجهول كارثة أو لوثة تصيب الناس بالشؤم. وبهذا يعرّي المؤلّف جوانب متعدّدة من الحياة المعيشة اليوم، فهو من ناحية يدلّنا على المستوى المعيشي لتلك “الحومة” أو القرية من خلال المقدرة الشّرائية، ويعرّي جانباً آخر يتعلّق بالتقاليد الموروثة إضافة إلى ما يحلم به الإنسان العادي وطموحاته. في هذه النصوص، ترحل الشخصيّات بالأمكنة من خلال الحلم والتخيّل فنرى العطار يسافر إلى تونس العاصمة ويتجوّل في شوارعها ويلتقي أشخاصاً آخرين ويقوم بأشياء كثيرة في حلمه. وكذلك فعلت الشخصيات الأخرى في النصوص إذ كانت ترحل إلى أمكنة بعيدة عبر مخيّلتها أو من خلال الذاكرة. والمكان في هذه القصص أعلن واقعيته أحياناً فحمل اسماً وملامح مألوفة لدى القارئ التونسيّ لكن ما يعيق تقريبه من المتلقّي ويجعله مغيّباً ميل المؤلف إلى السّرد العاديّ وهروبه من الوصف والتّفصيل. لم يعط المؤلف المكان حقّه ولم يحطه بالوصف وكأنه لا يعني الشخصية رغم أنّ مجرّد ذكر كلمة موت والتصاقها باسمه يثير في نفس القارئ التساؤل، وكأنّ همّه الوحيد يرتكز حول الفعل أوالشخصية، أما المكان رغم انعكاسه على دواخلها وتأثيره فيها لم يحظ بأيّ اهتمام. ورغم كثرتها وتعدّدها واختلافها ظلّت الأمكنة فاقدة وجودها وفاعليّتها وسط النصوص، فهي لا تؤثر ولا تتأثر بما يدور فيها إلا من خلال ما يستشفّه القارئ الذكي من انعكاسات خفيّة تحدثها أسماؤها لحظة القراءة، فالسجن يحيل على انعدام الحريّة والدكان على البيع والشراء، والمقبرة على الموت.....الخ. على عكس المكان حضر الزمن في هذه النصوص في مظهريه الخفيّ والعلنيّ فكانت الأرقام والساعات والشهور وكان الدّهر والمساء والغروب. وهو في شقّيه يحيل على الواقع المعيش لأنه يعكس حركة مؤقتة، وفعلاً محدّداً تقوم به الشخصية داخل مداره الحاضر، ولكن هذا الزمن قد يقفز بعيداً عن الراهن إلى المؤجّل أو يتراجع إلى الوراء عن طريق المخيّلة والحلم والذاكرة، حيث استعمل المؤلف الأسطورة والحلم والخرافة. يقول: “بتّ ليلتي يقظاً أعد النجوم من خلال كوة كنت فتحتها بأعلى القبر، وفي داخلي كان يعتمل فرح طفولي لا حدود له... فرح لم أشعر بمثله في مناسبات نجاحي التي عشتها ولا أيام دخولي القفص الذي يسمونه ذهبيّاً”. (ص119). استعمل المؤلف الفعل الماضي في مناسبتين يحيل فيهما الأول على الثاني من خلال فعل “بتّ” الذي يتبع فعل “فتحت” وهو بهذا يؤكد ميله إلى السّرد والانسياق وراء الحكاية التقليدية. نلاحظ أيضاً ميل الكاتب إلى المتناقضات من خلال مقابلة القبر بالفرح ولعلّ القارئ هنا رغم إدراكه لمقصد المؤلف الذي أراد أن يعبّر عن فرح الشخصية بتلك الكوّة المؤدية إلى النور، يصدم أو يستغرب هذا التّلاقي بين النّقيضين: الموت والفرح. قد يعود هذا الاختيار إلى تعلّق الكاتب بالغرائبي وبحثه فيه عمّا يقترب به من الواقع، فهو حين يمزج بين الراهن والبعيد في الماضي أو المستقبل يجعل الحدث الحاضر مستمدّاً من الحقيقة المجرّدة في ملامحها العادية، ويذهب بالجانب الثاني المستحضر إلى الغرابة والطرافة فتبدو الشخصية غريبة وعادية في آن، والحدث ممكناً ومستبعداً أحياناً. لقد استسهل المؤلف السّرد الرّتيب وكثّف من الأفعال في نصوصه هذه والتي احتفلت بالحدث وأهملت المكان وهمّشته، ولكنّه رغم كلّ هذا، ورغم خروجه أحياناً على مقاييس القصّ وسقوطه في خانة الخاطرة، استطاع أن يؤثّر في قارئه بما لديه من مقدرة على المزج بين الغرائبي والمألوف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©