الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دانييل داي لويس·· طائر الفينيق!

دانييل داي لويس·· طائر الفينيق!
13 أغسطس 2008 23:52
يبدو أن استراتيجية الزهد والبعد عن أضواء الإعلام والميديا التي يتبعها الممثل دانييل داي لويس في حياته الخاصة، هي استراتيجية نابعة من رغبة حارقة في التحرر من أدواره المنهكة على الشاشة، فمن شاهد أداءه العبقري والخارق في فيلم ''عصابات نيويورك'' هفَهَّ ُن َمٌّ ؟ًُْ العام 2002 مع المخرج مارتن سكورسيزي والذي رشح من خلاله لجائزة الأوسكار، وأيضا أداءه الفاتن والشرس في آخر أفلامه ''سيراق دم'' ُّومْم ٌّىٌٌ قم قٌُُل تحت إدارة المخرج بول توماس أندرسون سوف يشعر بتلك الحالة من التقمص والذوبان الكلي في الشخصية، وهي ذات الحالة التي جعلته يتوقف كليا عن العمل للمسرح، فعند قيامه بدور هاملت في المسرحية الأشهر لشكسبير وفي المشهد الذي يخاطب فيه هاملت شبح والده، أصيب (داي لويس) فجأة بحالة من الفوبيا والانهيار العصبي بعد رؤيته لشبح والده الراحل أثناء العرض! إن هذا المزيج من الهوس والتصدع والفصام والتجلي في الأداء المسرحي والسينمائي، شكّل في النهاية وجهي العملة الحاضنة للمأساة والملهاة معا، وهو سر كل الصراعات الروحية اللاهبة في وعي (داي لويس) التمثيلي· فعندما رحل والده الشاعر الأيرلندي المعروف سيسيل داي لويس، ودانييل مازال في الخامسة عشرة من عمره، تحول هذا الرحيل إلى جرح أبدي لم يشف المراهق الصغير من تبعاته حتى اليوم، وعندما رحل مدير أعماله قبل سنوات قليلة من الآن، غرق داي لويس في حالة عميقة من الاكتئاب والإدمان، واضطر للعلاج النفسي كي يتخلص من إرثه السوداوي المتكالب· واليوم عندما يتوج داي لويس ذو الأصول البريطانية والأيرلندية بجائزة الأوسكار عن أفضل تمثيل رجالي عن فيلم ''سيراق دم'' وأوسكار آخر مشابه قبل سنوات عن أدائه في فيلم ''رجلي اليسرى'' فإن هذا التتويج كافأ طائر الفينيق الذي راهن الكثيرون على انطفائه وخمود موهبته بعد تراكم عذاباته الشخصية وتحول مزاجه الداخلي نحو العزلة والشتات والعنف والفوضى، ولكنه وبإصرار واضح على تخطي هذه العذابات استطاع أن ينهض مجددا من رماد وركام الماضي ويثبت أنه واحد من أساطير التمثيل اللامعة في الأزمنة الحديثة· ومن تابع المشهد الختامي في فيلم ''سيراق دم'' عندما يجتمع داي لويس في دور تاجر النفط الجشع (دانييل بلينفيو) مع القسيس المزيف وغريمه في الفيلم، سيلاحظ القدرة الاستثنائية المذهلة لهذا الممثل العارم، فهو يستثمر لحظات الصمت الكامنة في المشهد، ويحولها بضربة ملهمة إلى لحظات صارخة ومتفجرة وتمزيقية بامتياز، فهو يستدرج المشاهد إلى حقل من الألغام الأدائية المدفونة، ويورطه في جو متأزم وتصاعدي لا يمكن الفكاك من أسره، يتحول داي لويس في المشهد الختامي إلى وحش حقيقي لا يمكن ترويضه في حلبة المنافسة والانتقام هذه، يستحوذ داي لويس في المشهد على خصمه، ويحيله إلى دمية هشة ومزعزعة نفسيا ومن غير أمل في النهوض مجددا وتصبح التصفية الجسدية عقابا مقدسا بالنسبة لشخص لا يؤمن سوى بقدراته الجهنمية في السيطرة على الآخرين· كثيرا ما يستعيد داي لويس تكتيكه المسرحي العالي في شغله السينمائي، دون أن يتخطى شروط ومتطلبات العمل خلف الكاميرا، ومن هنا كان التميز أوالتفرد هو رهانه الرابح والمسيطر دائما على أدائه، يحضر هذا الأداء البصري الجارف في أفلام أخرى نذكر منها: ''باسم الأب'' و''خفة الكائن التي لا تحتمل'' عن الرواية الشهيرة لميلان كونديرا وفيلم ''جاك والوردة'' و''آخر الموهيكانز'' و''الملاكم'' و''موظف التأمين'' الذي أدى خلاله دور كافكا، وأخيرا فيلم ''البوتقة''· ورغم رصيده المتوهج من الأعمال السينمائية الحاضرة في ذاكرة الفن السابع، إلا أن داي لويس يعتبر من الممثلين المتوارين عن المشهد الصاخب لنجوم السينما، فهو ينتقي أدواره بحرص وتمعن شديدين، ويمكن أن يتوقف لسنوات إذا لم يعثر على الدور المناسب، فعندما عرض عليه ميل جيبسون دور المسيح في فيلم ''الآلام'' اعتذر عن الدور لأن ملامحه الأنجلوسكسونية لا تناسب الملامح الشرقية للمسيح ، كما أنه لم يكن مقتنعا بتلك المساحة الأدائية المصبوغة بالدم والعذابات! ومن الطقوس التمثيلية التي يشتهر بها داي لويس والتي لاحظها معظم العاملين معه هي بقاؤه لأيام في موقع التصوير بعد انتهاء العمليات الإنتاجية للفيلم، وحجته في ذلك هي التخلص التدريجي من عبء الشخصية، والعودة إلى عائلته وحياته العامة دون قلاقل أو وردات فعل غريبة ومستهجنة· ينظر دانييل داي لويس للتمثيل كفعل رؤيوي وتطهيري لأنه يتعدى النظرة القاصرة والمتمثلة في نقل الشخصية من الورق إلى الشاشة ومن دون تعزيزات للخبرة والوعي والثقافة السينمائية، هذه النظرة المختلفة ساهمت وبقوة في وضعه داخل تيار صعب ومضاد لإغراءات الفيلم التجاري والاستعراضي المتبخر من ذاكرة فن السينما، ظلت خيارات داي لويس هي الأصعب والأكثر تحديا، ولذلك جاءت أدواره موازية لقيمة هذا التحدي، ولعل الشروخ النفسية التي أدمت أعماقه ولونت طفولته، كانت هي الوقود الذي أجج هوسه بالتعبير الجسدي وتفريغ شحنة الغضب والعنف والقلق في مسارات فنية وإبداعية أصيلة· إنه فنان يمثل النموذج الأكثر نقاء للإخلاص والتضحية والسكنى المطلقة في الشخصية المؤداة، أنها أيضا الكاريزما والسحر واللمسة الملحمية والقسوة التراجيدية ولذة التماهي، والتي صقلته وصنعت منه في النهاية قواما مليئا بالشغف الضاري والمحلق بعيدا عن أشباه الممثلين وتجار الكولا والبوب كورن والأكشن!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©