الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيّدة الكرامات وسِتْر ماركس

سيّدة الكرامات وسِتْر ماركس
27 يوليو 2016 20:54
سيّدة الكرامات امرأةٌ بلا عُمْرٍ، غير أن الأعمار كلّها تفيض منها. امرأة بلا زمنٍ، غير أن الأزمنة تعبر منها وتؤوب إليها. امرأة سرقت الوقت، بالوقتِ نفسه سرقته، ورمته في بحر أوقاتها المفتوحة على اللانهائي والمطلق. امرأة لا يغزوها الشيب، ولا تشيخ مطلقاً. امرأة ارتوت من ماء الخلود، ولم يعد يؤثر فيها الموت ولا القتلة. امرأة هي الأسطورة ذاتها، شبيهة بربّات الفن، أختهنَّ بالرضاعة حتماً. امرأة لا تجد تغضنات بها، لا تجاعيد، ولا ترهلات أيضاً. امرأة لا تَلِدُ بل تُوَلِّد، وتتصرف كما لو أنها أتت من كوكبٍ آخر. امرأة لا خدش فيها، لا كدمة، لا جرح، ولا عروقها نافرة: جِلْدها ناعم كالطحينِ، كالحريرِ، أو كملمس الأطفال. امرأة لا اعوجاج فيها، لا عرج، لا حَوَل، ولا لثغة في اللِّسان. امرأة لا تذهب للصالونات، ولا لبيوت الأزياء، ولا تحتاج لعمليات تجميل: لأن الجمال نفسه يتجلّى فيها، يَشرقُ منها، يُقاس بها، يُنحتُ في حضرتها، يولد ويعيش بين يديها، ويتحوّل مِنْ رمادٍ إلى تِبْرٍ بنفخةٍ منها. امرأة منحوتة من الماء، والضوء، والكريستال؛ أما كلمتها فهي النّار التي تراها مشتعلة في قمّة الجبل. امرأة جسدها فصول أربعة، ورأسها شمس دافئة تعلو فوق كل مُرتَفِع. إذا سمعها الأعمى أبصر، وإذا رآها المُقْعَد انتصب ومشى وركض، وإذا ما مسّتْ الميت بطرف إصبعها فقط، شهق وقام وكَبَّرَ! امرأة يغار منها الجِنّ والإنْس، وهي لا تغار مِنْ أحدٍ ولا من أي شيء، ولا ترى إلاّ نفسها في مرآة الوجود فقط. امرأة نُقِش اسمها في السّماء، لأن لها أصلاً هناك؛ وها هي على الأرض تدفع بالخلق لأن يكتشفوا أسرارهم المخبوءة فيهم، وأن يستنطقوا الكائنات والأشياء والكون برمته. امرأة بلا وطن، ولا ديانة، ولا مِلَّة، ولا طائفة، ولا قبيلة، ولا عنوان، ولا هوية، ولا جواز سفر، وليس لها مسكن ولا سرير حتّى. امرأة تعيش في الهواء الطلق، في الطبيعة، في الكون المعظّم، وتكون قريبة من كل الأشياء. امرأة هي الديمومة في صفائها: بنت الكون كله، وأم البشرية كلها. امرأة لا تُدْخِلُ في محرابها مَن لا يقدّرها، ولا يفهمها، ولا يؤمن بها؛ وكم تقرف من الأوباش، والهمج، والرعاع، والزعانف، والأدعياء، والأغبياء، والأنذال، والسقَّاط، والبلهاء، وأصحاب العقول الصمغية والنفوس الخسيسة. امرأة تحفر عميقاً في تُخُوْمِ الوجود، في تُخْمَتِهِ المتعاظمة والضاغطة والمسمومة، وتحاول اختراقها وهدمها وتفتيت بنيانها ومعانيها، تاركة – في كل مرّة - معالم عبورها حيّة ومضيئة خلفها. امرأة إن حوَّمت عالياً في السّماء، فإنها لا تنسى أبداً جذرها المرتبط بالأرض، أرض الطفولة واللّعب والحبّ والجنون والعبث والمقاصل والسجون والأموات والحياة. امرأة تسير عكس الرّيح وتسبح ضدّ التيار، ولا تفني حياتها في الصراع ضدّ البشر؛ وإنما في سمّوها ورفعتها، تبحث عن «الصراع الخالص، الصراع ضدّ العناصر» والأفكار الميتة والقاتلة. امرأة لا تغريها الشعارات الفارغة، ولا تعترف بالأوصياء عليها، ولا تؤمن بالحقائق الواحدة/‏‏ المطلقة. امرأة لها ألف لسان، ولها في الكلام ألف طريقة وطريقة. امرأة ذكية جداً، داهية من الدواهي، عبقرية في اختراعها وإبداعها، وكم تمقت مَنْ يلوكون الكلام الممضوغ والملفوظ سلفاً. امرأة منذورة للمدى العريض، للهواء النقي، للحرية المستحقة من دون تخرصات ولا مزايدات ولا عنتريات ولا بطولات وهمية. امرأة وهبت نفسها للشغف، للمغامرة، للتمرُّد، للانفلات، للجديد، للعشق، للاكتشاف والتطواف، للإبحار، للرحيل إلى ما لا نهاية، ومن دون توقف. مُغرمة حدّ الصبابة بالمجانين الذين يتبعونها، وبشهداء الحبر الذين يتساقطون على مدارجها، وبالحكماء الذين يستغورون عصاراتها. امرأة تأتي كالغيم الماطر، وتغيب كالشّمس الأميرة. امرأة تتكلّم بلغات الشعوب جميعها، حتّى الدَّارِس والبائد وما ظهر منها وما بطن، لكنها لا تحب الثرثرة، ولا تأنس للغو والمهاترات، وتنفر من الضجيج، ولا تستجيب إلاّ لمن زرعها في جوفه ورعاها بصمت القديسين. امرأة إن تكلمت انتفخت الأشرعة، وانزلقت المراكب في مسعاها، وذاب الجليد والسّم، وأورقت الصحراء، وتراقصت الأشجار طرباً، وأُخْمِدت الحرائق، وأشرقت الشّمس، وبانت الأسرار، وصلَّت الطيور والأسماك والوحوش، واستعدت الأشياء للكلام، وحضر كل ما هو غائب ومنسي ومجهول، وجاء الجميع إليها للاعتراف. امرأة طويلة كصفصافةِ ينابيع؛ إن زارتني في خلْوتي، رفعتُ لها السقف عالياً، وزحزحتُ من أجلها الحيطان، وحطّمت الأبواب، حتّى تصبح غرفتي ملعباً وبحراً وسريراً لها، وأصير أنا من فرط سعادتي وإحساسي بالعافية كهِرَقْل. ** هذه المرأة هي ضمير حي، وشرف رفيع، ويقين نبيل، وسجّادة طائرة لغزو المستحيل. هذه المرأة هي سيدة الأغوار، سيدة الرغبات، سيدة الحريات، سيدة الخيال والإلهام، سيدة الروحانيات، وسيدة الكرامة والكرامات. هذه المرأة تحرِّر الحياة من سجونها، تتوجها بالألق، تصنع لها عالماً آخر ومسارب نجاة، ترفعها لمستوى الحضارة، تُرقِّيها وتُقربها من القلوب والأذهان، وتحررنا نحن معها. هذه المرأة تخلخل الثابت، وتحرك الراكد والمتعفن، وتفتح المسدود، وتعيد الضائع، وتكشف المستور، وتعطي للوجود معنى. هذه المرأة بمثابة خلاص، ومصير، ومواجهة، وأمل عميق، ومتعة طاغية، وقفزة جديدة وغنية ومشتهاة في قلب المستقبل أو في قلب اللحظة الأبدية. هذه المرأة تؤنس وحدتنا، وتبدّد أثقال غربتنا، وتشدّ من عضدنا وأزرنا، وتربيِّنا وتنهض بنا، وتحمي تضامننا وإنسانيتنا، وتعيننا بضوئها الساجي للسير في الظلام من دون مهابة. هذه المرأة من دونها، يموت العالم، يتسرطن، يجف، يتصحر، يستذئب، يصبح مقرفاً وضجراً وتافهاً وبلا قيمة، وتتحوّل الأرواح فيه لكرات بلياردو. هذه المرأة تحفظنا من النِّسيان، من الاندثار، من المحو، من الاعتداء والتزوير، وتجعل آثارنا حاضرة في العلن ولو بعد حين. هذه المرأة هي رحمة للبشر، وأعظم ما اخترعه الإنسان، فهي عزاء لعذاباتهم، وبلسماً لجراحهم، وتفتحاً مزهراً لمكبوتاتهم، وطاقة داعمة لاستنهاض ما تحطّم فيهم، ونداء للرقي والسمو والتطهر من أدرانهم وأمراضهم وأورامهم. هذه المرأة في مقام الماء والهواء والتراب والشّمس، فمن يهينها ويقمعها ويعتدي عليها، فلقد اعتدى على الحياة والجمال والحرية وقُوت المعرفة والديمومة وعلى الناس أجمعين. هذه المرأة التي تسافر بي وأسافر بها، وتغتذي منِّي وأغتذي منها، وأهيم بروحها وتهيم بروحي، وتعصر ذهني وأعصر كلماتها، وأشقى بها وتشقى بي؛ هي ما أسمّيها ببساطة: الكتابة! سِتْرُ كارل ماركس 1 «إن الشعراء، بحاجةٍ إلى كثيرٍ من الحنان»! إذا كانت العبارة، كما يقول شيخنا النّفّري، سِتْر، فإن هذه هي واحدة منها. ولكن أيّ سِتْر هذا، في عبارةٍ صافية كالصَّحن الفارغ مثل هذه؟ وما هو سِتْرها ومستورها؟ إن هذه العبارة على بساطتها الظاهرة، والتي تبطن أكثر مما تظهر، قد تبدو مخاتلة ومحيِّرة في الوقت نفسه! فهي مخاتلة؛ لأنها قد تصلح كعنوانٍ لكلامٍ غائبٍ ومحتجبٍ في الأغوار، يتعلق بمكابدات الشعراء أكثر من غيرهم، في وحشتهم وجوعهم الضاري والمفتقد للحنان. وهي محيِّرة، من جانب آخر؛ لأن قائلها لم يُعرف كشاعر أو كمهتم بالشِّعر حتّى، وإنما عُرِف واشتهر عالمياً، بوصفه مفكراً ثورياً واقتصادياً أثر في القرن العشرين بقوة، ورَجَّ بفكره العالَم رَجّاً، وأقامه ولم يقعده حتّى الآن، وقسَّمه إلى معسكرين متصارعين ومتعاديين فيما بينهما لفترة طويلة من الزّمن. فكارل ماركس، لمن لا يعرفه، هو فيلسوف ألماني، صحفي، ومنظّر اجتماعي، ومؤسس الفلسفة الماركسية والشيوعية العلمية، وزعيم ومعلِّم البروليتاريا العمالية، ومؤلف الكتاب الاقتصادي الضخم «رأس المال» بأجزائه الثلاثة، وواضع «بيان الحزب الشيوعي»، مع صديقه الكبير فردريك إنجلز. إن هناك، ومن الملمح الأول، شيئاً من التناقض أو الفجوة أو المسافة، بين العبارة وقائلها. إنها تكتسي بشيء من السِتْر فعلاً؛ ولكن إلى أي حدٍّ، يصدق هذا القول؟ 2 إن مبعث الحَيْرة، أن كارل ماركس هو صاحب هذه العبارة. فماركس، في صرامته والتزامه ومعماره الفكري الجاف، قريب الشبه بمؤسس الفلسفة المثالية الألمانية هيغل، وذلك في أكثر من نقطة وزاوية. خاصة أن ماركس، كان أحد رواد حلقات عصبة الهيغيليين أساساً، والتي جعلته يستخلص من فكر هيغل فكرة جدلية التاريخ الكوني الذي تهيمن عليه التناقضات التي تقوده نحو مآل نهائي. إلا أنه انشق عنها فيما بعد، مؤلفاً فلسفته المادية والجدلية الخاصة به، والتي تخالف مثالية هيغل على طول الخط. لذا لا يمكن مقارنة فكر ماركس، بفكر فلاسفة ألمان مثل شوبنهاور أو نيتشه أو هيدغر مثلاً، هؤلاء الذين كانوا أكثر طراوة وقرباً من غيرهم في تلمساتهم وطروحاتهم، من عوالم الشِّعر أو الشِّعْري بالأحرى، ومن شعريّة الفكر أو فكر الشِّعريّة، ومن القصيدة أو «القَصِيدِيّة»، ومن نار الشعراء ومكابدات الخلق والكتابة لديهم. ولعل هذا القرب أو البعد عن ما هو شعري، هو بالضبط ما يزيدنا حيرة في كلام ماركس، عن حاجة الشعراء للحنان! السؤال الطبيعي هنا، هو: كيف تنبه ماركس بفكره العلمي والمادي المحض، وهو في خضم العواصف العالمية التي أثارها، إلى حاجة الشعراء للحنان؟ ولماذا الشعراء بالذات، الذين خصهم وحدهم بهذا الحنان المفتقد؟ 3 يبدو فعلاً، أن هناك علاقة وثيقة جداً، وإن ظلت مجهولة لفترة طويلة، قد ربطت ماركس بالشِّعر. ولعل هذه العلاقة تعود بالأحرى، إلى فترة صباه وقبل أن يصبح فيلسوفاً كبيراً يشار له بالبنان، وإن كان من المحتمل جداً أيضاً، أنه قد تخلّى عن تجربته تلك لاحقاً ولم يعرها أي أهمية بعد ذلك، حيث تقدم عنده حلم المفكر والمناضل الثوري، على حلم الشاعر الذي غاب في ردهات النِّسيان، ولعل هذا ما أثبتته على الأقل، لورا لافارغ، ابنة ماركس، حين قالت إن والدها: «كان يسخر من قصائده الشعريّة تلك، وكان يضحك لدى سماعه إياها». عليه، وفي خطوة جديدة ومفاجئة وغير معروفة على نطاق واسع، كُشف عنها مؤخراً ولم تلفت إليها الأنظار كثيراً، سيظهر لنا وجه ماركس الشاعر أخيراً. فحكاية ماركس مع الشّعر، كما أوردتها بعض الأخبار، بدأت في سِنّ مبكرة، أي في الثامنة عشرة من عمره تحديداً، وذلك بكتابة شعر غنائي مقفّى باللّغة الألمانية. ولقد ترك خلفه ثلاثة دفاتر من القصائد بعنوان: «كتاب الحب» (في جزأين)، و«كتاب الأغاني»، وهو الأضخم ويحتوي على 53 قصيدة، وقد كتب ماركس على غلاف كل منها: «إلى عزيزتي جيني فون ويستفالن، المحبوبة أبداً». وجيني هذه، هي المرأة نفسها التي أصبحت زوجة ماركس فيما بعد، كما صدر لماركس، ديوان شعري صغير بعنوان: «قصائد حب كارل ماركس»، صدر باللّغة الإنجليزية عام 1977، وهو خارج عن مقاييس الطباعة، إذ تُعرض منه للبيع ست نسخ مستعملة ابتداءً من 100 دولار. 4 هكذا، وبهذه الصورة الجلية الآن، وبحسب هذه المعلومة الجديدة، نكون قد وجدنا الخيط الضائع الذي كان يربط بين سِتْر العبارة وصاحبها، أو بين المفكر والشاعر. فهذه العبارة التي كانت بمثابة لغز، قبل ثوانٍ فقط، ها قد انكشف سِتْرها. فماركس كما تبين لنا، ليس كله فلسفة وتنظيراً أيديولوجياً ونضالاً ثورياً وبيانات مناهضة، كما ظل شائعاً عنه منذ أكثر من قرن تقريباً، فها هو يثبت أنه لم يكن طارئاً على الشِّعر، ولم يقل عبارته المحيِّرة تلك اعتباطاً؛ وإنما من خلال معاناته الشخصية والشِّعريّة كان يتحدث، لا بوصفه شاعراً فحسب، بل بوصفه عاشقاً ومولعاً بالعشق حتّى أُذُنيه أيضاً، فها هو وجهه الآخر، وجهه الغائب، وجهه الشاب، بل وجهه الحميم المعجون بنار الشِّعر والعشق والكتابة، يظهر للعلن من جديد. بسبب الحبّ ومن أجله، كتب ماركس الشِّعر وحنّ على جميع الشعراء ولامس وحشتهم وغربتهم؛ لأنه شعر بحاجته الماسة هو للحنان الذي كان يفتقده كثيراً، كما يبدو، عندما كان شاباً ويشبه قطعة من الرخام. آه! ما أجمل الستْر، يا شيخنا النّفّري، حين يكون مغطىً كاللؤلؤة في محارة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©