الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

العم «غابو».. مجد الكلمة وشرفها

19 ابريل 2014 14:15
تُرى، كيف بدت بوغوتا، العاصمة الكولومبية، صباح أمس؟ وقد أعلن الحداد في البلاد لثلاثة أيام ونُكّست الأعلام بعد الرحيل المتوقع للعم «غابو» الشهير بغابرييل غارسيا ماركيز، الذي لن تُمحى صورته بسهولة من ذاكرة القراءة العربية، في السنوات الخمسين الماضية. تحفظ له هذه الذاكرة الكثير من العناوين، هو الذي ترجم إلى الضاد بتسارع غير منتظم أو بتعقب لكل إصدار فآخر، إذ كان يكفي ترجمة عنوان لرواية أو مقالة في صحيفة ليصير الرجل حدثاً وخبراً يشغلان الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج. وللحق فقد جعله ذلك روائياً ذا أثر ما في الرواية العربية مثلما في أجيال من المثقفين العرب. كان تأثير الرجل إبداعي وثقافي بمسحة أخلاقية واضحة طبعت مواقفه تجاه القضايا العربية وخاصة الفلسطينية في إبان الحرب الباردة. مَنْ ينسى ذلك البيان، أو الرسالة، التي وجهها الرجل إلى العالم بعد الكشف عن مجزرة صبرا وشاتيلا صيف العام 1982 التي راح ضحيتها لاجئون فلسطينيون وسوريون ولبنانيون. لقد حدث ذلك مسبوقا على منحه جائزة نوبل للآداب في العام نفسه بشهرين أو أقلّ. الأرجح أن إبداعه الرفيع وسحرية واقعيته هما حجر الزاوية في الشهرة العالمية التي حققها الرجل في أرجاء العالم، إذ كان ذكر اسمه كافيا ليثير عاصفة من الجدل الثقافي – السياسي، إذ كان أكثر من منحاز لتاريخ مقاومة الاستعمار الإسباني في أميركا الجنوبية، حتى كما لو أنه أحد أحفاد سيمون بوليفار، ذلك الثوري الحالم بشخصيته السحرية والغرائبية كما تخيلها ورسمها في أكثر من شخصية من شخصيات رواياته. كان حادا في ذلك إلى أقصى درجات الوضوح، لكنه لم يخلط أبدا الإبداع بالسياسة بل ترك للإبداع أن يكون محركا أساسيا للسياسة، أو لبعضها في أميركا اللاتينية والعالم. تمثل روايته الأكثر شهرة «مائة عام من العزلة» مفصلاً أساسياً في تجربته الروائية، إنها علامته الفارقة والوشم الأبدي الذي سوف يبقى على جسد إسهامه الكبير في تاريخ الرواية العالمية. يمكن تشبيه «مائة عام من العزلة» بالمصفاة التي مرت من خلالها أعماله السابقة عليها بأحداثها وشخصياتها، وقد بلغت ذروتها في روايته القصيرة «ليس لدى الجنرال من يكاتبه»، ثم خرجت من تلك «المائة عام من العزلة»/ المصفاة أعماله اللاحقة من طراز «خريف البطريرك» و«حب في زمن الكوليرا» و«الجنرال في متاهته» و«قصة موت معلن»، حيث لا تتوقف القائمة عند «ذاكرة غانياتي الحزينات». في حينليس جديدا القول إن ماركيز لم يكن أحد آباء أو بطاركة الواقعية السحرية في أميركا الجنوبية، بل هو أحد مطوريها الأذكياء والأكثر خصوبة في إنتاج الرواية وإبداع خيال أخّاذ ومؤثر. بعد عودة الكاتب الشاب المغمور من تجربته الباريسية خلال الحرب العالمية الثانية، كانت رحلة طويلة في الثقافة الفرنسية تشرد وتصعلك فيها إلى حد الألم، امتهن كتابة التقارير الصحفية في أميركا الجنوبية التي كانت تشهد كلها مخاضا سياسيا مطلع الحرب الباردة، كان حكم العسكر المتقلب علامته البارزة، انتبه ماركيز إلى إعادة كتابة التاريخ بطرائق روائية أخرى غير معهودة بالنسبة لجيله من الروائيين الناطقين بالإسبانية. إلى حدّ أن جملة إبداعاته كانت في تلك المرحلة كما لو أنها تمهد لعمله الفذ «مائة عام من العزلة». بعد هذه الرواية مثّل ماركيز المبدع، وما رافقه من إشكاليات سياسية، في السبعينات من القرن الماضي تحديدا، منطقة استقطاب وجذب بالنسبة للسياسيين، غير أن الرجل بتوجهاته الفكرية وقناعاته الإنسانية اختار طريق الانحياز السياسي إلى كل الإرث الأميركي الجنوبي الذي ما زال يحمل فكرة مقاومة الاستعمار، وأصبح هذا الموقف كونيا عندما صار ماركيز مؤسسة ثقافية بأسرها تتحرك في رجل واحد إنما رجل بأكمله إبداعيا وسياسيا. لقد ولد ماركيز في العام 1927، ونشأ في البداية لدى جديه لأمه، حيث تركت هاتان الشخصيتان على اختلافهما أثرا واضحا في كتابات ماركيز، واستعادهما غير مرة في أعماله الروائية، إلى حد يمكن معه القول أنهما من جهة وبعض الروائيين والقاصين من الأرجنتين وكولومبيا والأرجواي والمكسيك من جهة أخرى هم الذين فجّروا جميعا نبع الواقعية السحرية في ماركيز. أيضا، لقد مات ماركيز بعد ذلك بقرابة تسعين سنة، ليكتب، عبر رواياته ومواقفه وتقاريره الصحفية، شهادته على القرن العشرين الذي احتدم بصراعات طاحنة بين قوى لا قبل لشعوب وأفراد على تحديها في بعض الأحيان. من هنا كان الرجل أكبر عدو للديكتاتور وفكرته، وأكثر التصاقا بالحياة وأكثر وعيا بنبل الحياة الإنسانية، وأكثر انتماء لمجد الكلمة وشرفها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©