الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البيوت أسرار

البيوت أسرار
16 أغسطس 2008 23:20
جئت في الوقت الضائع في حياة والدي الزوجية· فعندما ولدت كان معظم إخوتي وأخواتي قد تزوجوا وأنجبوا أطفالاً أكبر مني· عشت حياتي مع كهلين شبعا من الدنيا ومتاعبها، ولم يبق لهما إلا التهيؤ للآخرة في سكينة واستقرار· وهكذا، كانت أجواء البيت توحي بالبرود والكآبة، ولا تناسب طفلة صغيرة مرحة تتحرك طوال الوقت، تريد اللهو واللعب والحركة· لم يكن أحد إخوتي أو أخواتي يسكن قريباً منا، فالكل يعمل في العاصمة، لذلك كانت أمي ترسلني مع الخادمة لألعب مع أطفال الجيران· كنت أقضي معظم ساعات النهار مع بنات جارتنا الأجنبية ألعب معهم بصحبة كلبهم الصغير المسلي· تلك المرأة كانت تعمل مديرة لمدرسة أجنبية، وبسبب صداقتي للبنات أجدت اللغة الأجنبية حتى أن مظهري تغير كثيراً وصرت أشبههن عدا لون البشرة والشعر، فصرت كالغريبة بين أطفال أسرتي، وفي الاجتماع العائلي الأسبوعي كنت عرضة للاستهزاء والتعليقات التي تطال ملابسي: ''الشورت القصير والتي شيرت''، وشعري المنكوش القصير الذي قصته لي جارتنا حتى بدوت أكثر شبهاً بالأجانب· كنت سعيدة لدرجة كبيرة ولا أكترث لتعليقاتهم ما دامت أمي تقف في صفي ولا تقبل أن يؤذيني أحد منهم، فأنا آخر العنقود المدللة من أمي وأبي اللذين سمحا لي أن أفعل كل ما أريد ووفرا لي كل الحماية المطلوبة· عندما وصلت سن التعليم أدخلتني جارتنا في المدرسة الأجنبية التي تديرها بعد أن أقنعت والدتي بضرورة إتقان اللغة التي أصبحت مهمة في عصرنا الحديث، فلم ترفض والدتي، بل صارت تتباهى بأن ابنتها ترطن بـ''الإنجليزية'' مثل أولاد التجار· أنهيت الابتدائية والإعدادية في تلك المدرسة، وعندما وصلت إلى سن الثانوية بدأت حياتي كلها بالتحول من السعادة الكاملة إلى الشقاء والتعاسة والعذاب· مرض والدي مرضاً شديداً ثم انتقل إلى رحمة الله، وتبعته والدتي بأشهر قليلة، فلم يبق معي أحد يساندني ويمنع الظلم عني· بداية التشرد مرت أيام العزاء واتفق إخوتي وأخواتي على بيع البيت وتشريدي، فليس معقولاً أن يتركوني لأعيش وحيدة، وليس معقولاً أن يتأخروا في بيع العقار الذي سيجلب لهم الكثير من المال· انتقلت للعيش مع أخي الكبير وأسرته، وبدأ الصراع بيني وبينهم، فهم يريدون أن أغير لباسي وشعري وطريقة حياتي· رفضت الانصياع لهم، وحدثت بيننا مشادات كلامية كثيرة، حيث بدأوا معي باللين والطيب، وعندما لم ينفع ذلك معي بدأوا مرحلة الشدة والقسوة، حتى كرهت البقاء عندهم وطلبت الانتقال إلى بيت أخي الثاني لأتخلص من تلك المعاناة الرهيبة· في بيت أخي الثاني شعرت بأن زوجته لا تطيق وجودي في بيتها، وبدأت بافتعال المشاكل والشجار مع أخي لأي سبب حتى حولت البيت إلى جحيم لا يطاق· فتركت بيت أخي وذهبت للعيش في بيت أختي الكبرى· في بيت أختي الكبرى لم أسلم من بصبصات زوجها وملاحقته لي، فكنت في وضع محرج للغاية، أغلق على نفسي باب الغرفة باستمرار ولا أخرج منها إلا إذا تأكدت من خروجه من المنزل، ولم أسلم من تسلله اليومي ليلاً ليطرق باب غرفتي بأنامله وهو يهمس لي لأفتح له الباب، يا إلهي··· كم كرهت هذا المخلوق المنحط، الذي جعلني في حالة قلق وإرهاق طوال الليل· في أقرب فرصة تركت بيت أختي الكبرى وذهبت للعيش في بيت أختي الصغرى، ولم تكن مشكلتي في بيتها مع زوجها وإنما كانت مع ابنتها الكبرى التي تقاربني في العمر وعدائها لي لأنني شاركتها غرفتها، وعدا عن كلامها الجارح المؤلم صارت تدبر لي المقالب وتختلق المشاكل لأترك البيت، فأدركت أن الاستقرار مستحيل مع هذه الأسرة، فحملت أغراضي وخرجت من بيتهم وأنا لا أدري إلى أين أذهب· كنت وقتها قد أنهيت الثانوية بمعدل بسيط، فلم تقبلني أي جامعة، قررت الاعتماد على نفسي في حياتي وأن أشق طريقي بعيداً عن أهلي· الاعتماد على النفس وجدت سكناً مشتركاً تتشارك فيه فتاتان عربية وأجنبية، فرحبتا بي بعد أن حكيت لهما ظروفي، وقررتا مساعدتي في الحصول على عمل والصبر عليَّ حتى تسلم أول راتب· كانتا لي مثل أختين حميمتين، ولا أنسى أبداً موقفهما معي طوال عمري· وجدت عملاً إدارياً في أحد مراكز التسوق والتحقت بإحدى الجامعات الخاصة، فتغيرت حياتي ونسيت البؤس والشقاء واندمجت في المذاكرة والعمل، وأتقنت عملي حتى تدرجت فيه وصرت مديرة خلال مدة بسيطة· سنتان مرت ولم يسأل عني أحد من إخوتي، فكل واحد منهم كان يعتقد أنني أعيش في بيت الثاني حتى فطنوا لعدم وجودي عند أحدهم، فاتصلوا بي ليعرفوا ماذا فعل الدهر بي، فأخبرتهم بأنني اعتمدت على نفسي وأصبح لي بيت مستقل، وأنني أريد ميراثي الذي ورثته عن والدي لشراء شقة وسيارة· ثارت ثائرتهم، لا أدري لماذا، هل بسبب استقلالي عنهم؟ أم بسبب مطالبتي بحقي؟ بعد صراع مرير تسلمت إرثي واشتريت شقة صغيرة أثثتها بشكل بسيط، وسيارة رخيصة وفتحت محلاً صغيراً للتصميم والخياطة، وقد انقطعت خيوط التواصل بيني وبين أهلي لأنني لم أكترث لأي من نصائحهم واعتراضاتهم وكلامهم· تعرفت على شاب عربي أحببته وأنا أعرف أن الارتباط به مستحيل لأن إخوتي لن يوافقوا عليه، فتزوجته بالسر وعشنا معاً لفترة، كنت قد أنهيت دراستي الجامعية وحصلت على وظيفة أفضل، ثم قمت بتوسيع محل الخياطة ليصبح داراً للأزياء والإكسسوارات والعباءات· فكرت بحاجتي للأمومة، وأن ذلك لن يتحقق لي بالزواج السري، فقررت الطلاق من زوجي، لأتزوج شاباً من بلدي يحقق لي الأمان والاستقرار الأسري· لم يقبل زوجي بتطليقي فأغريته بالمال فطلقني وعاد إلى بلده ليستقر هناك· تعرفت على شاب يعمل في الوسط التجاري، خطبني فقبلت، وبصعوبة رضي أخي الأكبر الذهاب معه إلى المحكمة لعقد القران، ثم تم تحديد موعد العرس ولم أكلف نفسي دعوة أحد من أهلي لأنني لم أكن أحبهم وكنت معتقدة بأنني لن احتاج إليهم في شيء· الفرحة الناقصة انتظرت اليوم المحدد للعرس، مشاعر مختلفة انتابتني، لم أنم لثلاث ليال متوالية بسبب توتري الشديد· أخذت فستان العرس وحقيبة الملابس وبقية الأغراض إلى الغرفة المحجوزة لي بنفس الفندق الذي سيقام فيه العرس، ورتبت كل شيء· جهزت الطرحة والطقم الذي سأرتديه وباقة الزهور التي سأمسكها، والحذاء الذي سألبسه· شعرت بقلبي يتوجع، ليتني اتصلت بأخواتي ليكنَّ معي في مثل هذا اليوم· نسيت أن أحضر البخور والعطور إلى الغرفة، أين أنت يا أمي؟ الأمهات يجهزن غرفة العروس بكل ما تحتاجه، أما أنا فعليَّ أن أفعل كل ذلك بنفسي· عموماً··· سينتهي كل شيء على خير، ألم أدبر كل أموري بنفسي؟ فلأخفف من قلقي وتوتري تركت كل شيء وذهبت إلى الصالون· الوقت يمضي بسرعة وكنت خائفة من تأخري، أحرجتني العاملة وهي تتساءل: لأول مرة تأتي عروس وحدها، أين أخواتك وصديقاتك؟ غيرت مجرى الحديث فشعرت بالحرج· تذكرت أنني لم أذق شيئاً من الطعام منذ الصباح، من يكترث لي؟ لا أحد يفكر بي، الأفضل أن آكل شيئاً قبل دخولي القاعة كي لا تخونني قواي فأسقط أمام الناس· أوقفت سيارتي أمام الفندق، نزلت وأنا محرجة اللفافات على رأسي، و''المكياج'' يملأ وجهي وأنا أقود السيارة، أين أنتم يا أهلي، أين بنات أختي لتتولى إحداهن توصيلي والأخرى تحضر لي شيئاً يغطي رأسي؟! لقد نسيت أشياء كثيرة، لا يمكنني إنجازها وحدي، الجو حار رطب، بالتأكيد سيؤثر ذلك على ''مكياجي'' وشعري، أكاد أسقط وأنا أجد النظرات تلاحقني وأنا في طريقي إلى الغرفة· ارتحت قليلاً عندما وصلت، تذكرت أن خطيبي لم يتصل بي منذ البارحة، وكنت متفقة معه على أن نخفف الاتصالات بيننا حتى لا تضيع لهفة اللقاء الأول في ليلة العرس، ولكن لماذا لم تحضر أمه ملابسه؟ أليس من المفروض أن يحضروا أغراضه الليلة؟ لا أدري ما هي التقاليد في مثل هذه الحالة· جلست أنتظر، ترى من سيتصل بي؟ ومن سيرافقني عند نزولي؟ أين أنتم يا أهلي؟ لماذا لم أطلب منهم المجيء؟ كم أنا مخطئة؟ عموماً سأنزل بنفسي عند الساعة العاشرة، هكذا أنا دوماً، وحيدة ومنعزلة· الخبر الصاعقة لم يبق على نزولي إلا نصف ساعة عندما رن الهاتف· انتابتني رجفة لا أدري مصدرها، كانت المتصلة أم زوجي، أجبتها بارتباك: أنا جاهزة هل أنزل الآن؟ ردت ببرود: لقد ألغينا العرس، ألم يخبرك أحد؟ لقد عرفنا أنك كنت متزوجة سراً، أردت خداعنا، ولكن الله سلم· ولدي لا يستحق مثل هذه المواقف، سامحك الله· سآتي لأخذ الشبكة والمهر، وجميع الهدايا، أنت لا تستحقين شيئاً، سيطلقك ابني غداً صباحاً· لا أدري هل أغمي علي، أم متُّ، أم ماذا حدث لي بعد تلك المكالمة؟ فقد اختفى الزمن فلم أتذكر أي شيء سوى أنني أفقت في اليوم التالي وكأنني لم أكن في هذه الدنيا طوال تلك الساعات· لملمت أشيائي وخيبتي وحسرتي وعدت إلى بيتي، هل ألوم نفسي؟ أم ألوم خطيبي؟ أم ألوم أهلي؟ كنت حائرة ومضطربة· بعد تلك الصدمة طويت صفحة الزواج من حياتي، ودفنت نفسي في العمل، حققت نجاحات كثيرة وبرز اسمي في الأوساط التجارية، وأصبح لدي المال الكثير، وعلى الرغم من كل ذلك كنت أشعر بالوحدة وبحاجتي الشديدة إلى أهلي· الحدث الأكثر أهمية في حياتي هو محاولة أحد أبناء إخوتي التقرب مني· جاء يطلب عملاً فرحبت به واحتضنته تماماً، وجعلته مديراً لأعمالي· عوضت به حرماني من أهلي، وفعلاً كان هو المفتاح السحري الذي فتح الأبواب المغلقة بيني وبينهم· اعتذروا لي عن موقفهم السلبي معي، فقلت في نفسي: ليسوا ملومين في كل ما فعلوه معي، فقد كنت إنسانة متمردة وخارجة عن الأعراف والتقاليد·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©