الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه إرنست همنغواي.. صائد الوعول

وجه إرنست همنغواي.. صائد الوعول
8 ابريل 2015 21:00
قد يبدو وجه همنغواي بحريا، بالمعنى الذي يحيل على أنه أسير غواية البحر كمدمن لصيد الحوت أو كقبطان سفينة لا يبتهج دمه إلا في معترك الأمواج العاتية، هذه علامة مباشرة لأفق معتاد سطرته روايته «الشيخ والبحر». العلامة المضمرة التي تتبطن الأولى، هي أن وجه همنغواي يتواءم أكثر مع ولع القنص، قنص البراري الموحشة وليس صيد البحار في الواقع. ما أشقى أن تكون ابنا لأم موسيقية، وأبا طبيبا! فبين الموسيقى والطب رياح جنوبية حارة تتصادم برياح قطبية جليدية، يصعب الخلاص من اشتباكهما العسير. منذ سن يافعة ستجمع الألفة بين هذا الوجه المترف بالجراح وبين البندقية (أول بندقية اشتراها لها أبوه وهو بسن العاشرة). إنها البندقية التي ستحسم نزوع حياته الممهورة بدم الأسفار والحروب والمغامرات، وكذلك مماته المأساوي فيما بعد. خلف الصدى الذي أحدثته الرصاصات البكر لبندقيته، سيندلع الصدى الأضخم والأفزع لأول حرب كونية، ويتطوع فيها همنغواي لصالح الصليب الأحمر، وهناك ستسقط براءة وجهه باستقباله لأولى الطعنات والجراح، هذه التي ستؤهله لتاريخ مفتوح من الألم والقسوة والجنون، لكن في صمت جَسور لفتى وسيم يستبطن الصراخ المدوي. لن يلطف من وحشية بياض وجهه إلا اكتشافه الجمالي لباريس، باريس أوائل القرن العشرين، ما أن يدخلها كاتب أو فنان أو موسيقي، حتى تجنح به بشكل شيطاني صوب حدود قصوى ما كان ليتخطاها لولا سحرها الغريب. هذا السحر سيدمغ وجه همنغواي بالتماعة جديدة لم تكن تشرق في تضاعيفه من قبل. ستتفحّم هذه الإشراقة الباريسية بحادثة انتحار أبيه، بفعل طلقة من بندقيته. الطلقة التي سيتردد صداها الفاجع داخل نفق ذاكرته طويلا... سيرتج بياض وجه همنغواي أكثر، وتتغوّل وسامته، آخذة كتلا هلامية من الألوان المأساوية، بفعل شلال الدماء الذي سيغسل ملامحه ويلوثها ويصبغها إلى الأبد، صباغة تستعصي على صابون التطهر. ففضلا عن دم جرحى وموتى الحرب العالمية الأولى عندما تطوع في إيطاليا ضمن صفوف الصليب الأحمر، هناك حمرة نجيعية أخرى ستلهب وجهه، لها علاقة وثيقة بشموس أفريقيا التي حل فيها قناصا مهووسا بالطرائد (البقر الوحشي والأسود والفيلة...الخ). أفريقيا التي ستثخن وجهه بمعنى بدائي، ويكتنز أثر التصادم بين جنسه الأبيض وأدغال السواد السحري في القارة ذات الألوان العجيبة. سيعزز لوثته بدم الطرائد في المستعمرات الأفريقية، الأحمر الإسباني الذي سيخضب وجهه، ليس دم ضحايا الحرب الأهلية وحسب، بل هي دماء الثيران التي كان يهوى متابعة ألعاب مصارعتها. سيبدو كما لو لبس قناع رسام ينجز لوحاته بنجيع هذه الثيران المطعونة والمصروعة. ينضاف إلى نجيع الثيران حمرة أخرى تدمغ ملامح هذه الفترة في وجهه، هي حمرة البندورة الإسبانية (كما لو قذف بالطماطم، سواء حدث الأمر في مهرجان التراشق بالبندورة، أو في حادثة أخرى). هنا يمكن أن نقتنع بأن لهمنغواي وجه ملاكم (عرف عن همنغواي عشقه للعبة الملاكمة وكان في طور من حياته البكر يصبو لأن يكون ملاكما)، بدليل الكدمات التي تزوقه وأثر الحمرة الداكنة التي تلفع بياضه. كتاب الدم أو تاريخه، لن يقف زحفه عند هذه الحدود، ويستفحل أكثر. فإدمان متعة القتل لن تقتصر على وحيش اليابسة، المفازات والفلوات والمحميات والأدغال وحدها، بل ستشمل وحيش البحر أيضا، هكذا سينعطف همنغواي إلى تجربة صيد الأسماك الضخمة في الساحل الكوبي (سمك المرلين تحديدا)، ويكشف عن وجه شبيه ببطل رواية «موبي دك « لهرمان ملفيل. الصياد الذي سيواشج وجهه المغامر والبطولي بين زبد الأصقاع البحرية المرعبة ودم الحوت العملاق، وبين صخب الحانات التي تؤثث الموانئ والمرافئ... لا يكاد اندلاق الدم يقف إلا ليندلع من جديد، مع نشوب الحرب العالمية الثانية التي سيعمل فيها كمراسل... لا يمكن إلا أن نتخيل ونحن نتأمل وجه همنغواي، أشلاء الجنود وهي ترتطم بوعيه وووجوه الموتى المذعورة وهجرات النساء والأطفال و... مجمل كوارث الحرب تتشابك في ظلال داغلة تسوّر وجهه من كل جانب، لا تستطيع لحيته البيضاء إخفاءها أو تمويهها بالأحرى. إضافة إلى هذه المزق من الأشلاء المتطايرة التي تعج بها المسافة بيننا وبين وجه همنغواي، هناك إيقاع موسيقى تخطه الآلة الكاتبة الخاصة به، (الداكتيلو). إنه إيقاع مزدوج، يفتل بين خطين من الأصداء: أصداء ويلات الحرب التي تسكن طقطقات مفاتيح الدكتيلو (صراخ القتل ودوي القنابل وصخب الغارات وأصوات آلام الجرحى ونحيب النساء... الخ) وأصداء حوافر الوعول التي كان يطاردها ببندقيته في براري أفريقيا وكذلك حوافر ثيران المصارعة، فضلا عن هسيس تموجات الحوت وهدير المناطق البحرية التي كان يصطاد فيها...). ثمة طيف يجنح بوجه همنغواي إلى علامة منزاحة بعيدة، هي علامة متخيلة كأنها متخلقة عن أفلام الخيال العلمي، إذ يبدو صاحب «الشيخ والبحر» في الصورة أعلاه كربان سفينة فضائية، يخوض حربا كونية من نوع آخر، هي حرب النجوم. كيفما كانت الأسباب التي تقف وراء انتحار همنغواي ببندقيته، سواء ورث قدر الانتحار عن أبيه أو بسبب اضطراب عقلي ألمّ به، ففي وجهه المأساوي ما يبرر معنى نهايته التراجيدية، الوجه المضمخ بتاريخ الدم، لن يكون حتفه إلا دمويا كنتيجة منطقية، هي خاتمة أراد لها أن تكون بطولية، شبه عادلة بالأحرى، فما أظن أن حادثة قتله لنفسه بالبندقية، إلا اعتذارا للحيوانات البحرية والبرية التي ضلع في قتلها دونما رحمة على طول فراسخ حياته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©